السبت، 14 مارس 2020

بيوتنا الفنادق ومحطّات الانتظار (2015)



     صارت البيوت أماكن للنوم القليل، القلِق، ولو لم يكن النوم فيها قليلاً وقلقًا لكانت البيوت أشبه بالقبور حيث النوم الطويل والهادئ.
     بيوتنا اليوم محطّات يلتقي فيها أفراد يحاولون أن يؤسّسوا لجماعة تتقاطع مواعيدها على عجل: العائد من المدرسة والعائد من الجامعة والعائد من العمل والعائد من السهرة والعائد من السفر. يصل كلّ منهم، فيأكل، ويستحمّ، ثمّ يغيّر ملابسه قبل أن يغادروا جميعًا إلى حيث يتابع الواحد منهم حياته كفرد منفصل عن الجماعة.
      كانت البيوت مأوانا، ثمّ صار العيش في المأوى أكثر حياة وحيويّة.
     وكانت البيوت قليلة الأثاث والآلات، يملأ فراغَها ضجيجُ الأولاد وثرثرة النساء ومشاريع الرجال، ومع الوقت أضحت شبيهة بالمحال التجاريّة أو معارض المفروشات أو المتاحف حيث الكلام قليل أو ممنوع أو يسيء إلى حرمة المكان.
     في تلك البيوت، تسابقت ربّات الحياة إلى شراء أكبر عدد من الأواني المنزليّة، وكن يفتخرن بامتلاك دزينات من الصحون والطناجر والأكواب، وينتظرن مناسبات الأفراح والأحزان ليخرجنها من الخزائن ويعرضنها أمام الضيوف. أمّا اليوم فالمطاعم هي الحلّ العمليّ والأنيق والسريع لمختلف المناسبات، ما أدّى إلى تحويل الأواني أدوات زينة تعرض ولا تستعمل. وبعدما كان الإنسان لا يرضى باستقبال الضيوف إلاّ في بيته، وكلّ ما سوى ذلك إهانة للمضيف والضيف، بدأ يتباهى بأنّه دعاهم إلى أفخم مطاعم البلد، وهو يعرف أن لا أحد سيعتب عليه.
     طربت بيوتنا لزغردات الفرح، ورقصت على أنغامها، وامتلأت زواياها سعادة عربشت على الجدران والسقف وأزهرت في أصص الورد وإلى جانب الفلّ والزنبق والمنتور. لكنّ صالات الأفراح في الفنادق والمطاعم أو تلك المقامة حديثًا إلى جانب دور العبادة أضحت البديلة الفاقدة خصوصيّتها وهويّتها. فالمكان العام ملك الجميع، ولن يحفظ صورهم أو دموعهم أو ضحكاتهم، وحين شُرّدت ذكريات الفرح والشوق من البيوت أمسى من السهل أن تخرب البيوت وتغلق أبوابها. ولذلك عجزت إحدى الأمّهات عن تذكّر الصالات التي شهدت حفلات زفاف أولادها إذ تمّت كلّ واحدة في مكان مختلف. أمّا البيت فلم يكن له إلاّ دموعها عندما كانت تذرفها في كلّ مرّة تعود إليه من عرس فتجده حزينًا ومتروكًا ومطعونًا.
     كانت بيوتنا تبكي على موتانا، وتتمسّك بهم تحت جوانحها حتّى اللحظات الأخيرة، وتبقي في حناياها وجوه المعزّين الصادقين. أمّا اليوم فيذهب الجميع إلى الصالة المبرّدة والباردة والواسعة والفارغة إلاّ من مجموعات المقاعد المتشابهة، المملّة، الباهتة، الممتصّة انفعالات آلاف الرجال وآلاف النساء. وهناك في الصالة المحايدة المتفرّجة سيمرّ الراحلون مرور العابرين في المطارات الغريبة، ثمّ يمضي كلّ إلى وجهته الأخيرة. فالناس يولدون في المستشفيات ويموتون في المستشفيات، أمّا البيوت فلصورهم المحكومة بالابتسامة والصمت.
     بيوتنا اليوم أماكن لبكاء اليأس وغضب الإحباط وتفريغ التعب. غرفها تشتاق إلى أحاديث تزعج الجيران وتثير غيرتهم وفضولهم، شرفاتها تحلم بسهرات لا تحمل ساعة يد، وأبوابها تنتظر من يقرعها وينتظر متلهّفًا كي يُفتح له، ومن الواضح أنّ اشتياقها لن ينطفئ، وحلمها لن يتحقّق، وانتظارها لن يثمر.
     لم تبق للبيوت ذاكرة. فلا أحد يقول اليوم: هذا كرسيّ جدّي المفضّل، وهناك كانت تغفو جدّتي، وعلى تلك الكنبة جلس زائر عزيز، وإلى تلك النافذة اتكأت أمّي يوم انتظرت عودة أخي من السفر، وتلك الخزانة إرث من عمّتي، وغطاء المائدة الملوّن يعيد إلى المخيّلة ولائم واحتفالات. فتغيير الديكور أمر يوميّ وعادي، والتخلّي عن الأغراض العتيقة بحجّة التخلّص من "الكراكيب" حاجة مفهومة وضروريّة. والطريف أنّ المقعد العتيق الذي كان يحبّه الجدّ العجوز رمي مرذولاً، وعندما اقتضت الموضة أن يشتري الناس أثاثًا عتيقًا من أسواق "البرغوت" التي تشتريه من الفقراء وتبيعه من الأغنياء، عاد المقعد إلى صدر المنزل في فخر وإباء. وغطاء السرير الأبيض المطرّز الذي جعل الشابات اليافعات يسخرن من جدّتهنّ المتمسّكة به وألححن على أمهنّ كي تتخلّص منه، عاد من "الأرتيزانا" معزّزًا مكرّمًا ذا قيمة ونسب.
     ذاكرة البيوت موزّعة اليوم سلعًا في الأسواق: صور للبيع، حقائب للبيع، مقاعد للبيع، أكواب شاي وفناجين قهوة وكؤوس عرق للبيع، حكايات للبيع، تاريخ للبيع. ولعلّ الحرب التي شرّدت الناس من بيوتهم ساهمت إلى حدّ بعيد في التخلّي الطوعيّ عن كلّ شيء بدلاً من أن يُنهب كلّ شيء ويُحرق كلّ شيء. هذا فضلاً عن أنّنا أحفاد تجّار لم نرث منهم إلاّ حبّ البيع والشراء مع أنّهم كانوا يملكون أمورًا أخرى مهمّة أيضًا. فالحرب التي أحرقت الصور والأثاث علّمتنا أن ننسى كي نستطيع أن نعيش، والتخلّص من الذكريات بداية النسيان. لكنّ عمليّة التنظيف هذه، تنظيف الذاكرة من الألم والحزن، أسكنتنا القلق والخوف. فلا ثوابت نتمسّك بها، ولا شيء أكيدًا ونهائيًّا، ولا سلام شاملاً وعادلاً، ولا مستقبل واضحًا، ولا حياة أكيدة، ولا منزل ذا هويّة، فلمَ إذًا لا نرمي القديم، ولمَ لا نتخلّص من التاريخ، الخاصّ منه والعامّ، ما دام التغنّي به لم يورثنا إلاّ الخسارة والحسرة؟
     كانت البيوت أرحامًا نتكوّن فيها ونولد أبناء حياة، وأعشاشًا نغرق في دفء الرعاية فيها ثمّ نخرج منها لنحلّق في سماوات الوجود، ومعابد نقيم فيها مع الله تحت سقف واحد، وحين أردنا سلخ جلودنا، تحوّلت البيوت فنادق للهاربين من أنفسهم والناس، ومطاعم للوجبات السريعة، وبيوت خلاء نقضي فيها حاجتنا ثمّ نمضي.

هناك تعليق واحد:

ميشال مرقص يقول...



تعيدين الحنين إلى دفء الماضي
بعمق الباحث الإجتماعي - والعاطفة المتدفقة من إلتصاقها بالتراث والقيم والحس الإنساني ... والتقويمُ يطول

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.