أين تقف الإنسانيّة اليوم من كلمات مثل الشفقة والرحمة والتعاطف والتآخي والمساعدة والحنان، وغيرها من المفردات التي تحاول أن تشرح علاقة الإنسان بالإنسان أوّلاً ثمّ بسائر كائنات الطبيعة ومخلوقاتها وعناصرها؟
لا شكّ في أنّ اللغات الممتلئة معاجمها بالكثير من هذه المفردات والمرادفات تحاول أن تستعيض بالكلمات عن الأفعال، وتحاول أن تجد لكلّ نوع من أنواع هذه المشاعر، أو لكلّ درجة منها، اسمًا أو صفة، لعلّ الإنسان - وفيه ذلك الجانب المظلم الشرّير- يجد في إحداها متعته الروحيّة واكتمال توازنه العاطفيّ ونموّه الفكريّ وأمانه الجسديّ. وعلى رغم أنّ الكلمات كثيرة في معجم العطف البشريّ لا يزال الإنسان بعيدًا عن فردوسه المفقود، تائقًا إليه، غريبًا في ليل هذا العالم، تائهًا عن إيجاد الدرب إلى سعادة تنبع من داخله وتصبّ في داخلخ بعد أن تغسل الكون من أحزانه ومآسيه.
يقول الفيلسوف الألمانيّ شوبنهاور إنّ الشفقة هي أساس الأخلاق. وهو في ذلك يؤكّد أن لا مجال لقيام مجتمع أخلاقيّ ملتزم إلّا إذا كانت الشفقة هي الرابط الذي يشدّ الناس بعضهم إلى بعض. ولعلّ السؤال الحقيقيّ هنا هو: هل يشفق الناس على بعضهم أم على أنفسهم؟ الديانة اليهوديّة، على غرار ما دعت إليه الشعوب القديمة (قانون حمورابي مثلاً)، تؤكّد على التعامل بالعدل، أمّا المسيحيّة فتدعو إلى المحبّة: أحبب وافعل ما تشاء. لذلك يميل كثير من المفكّرين المسيحيّين واللاهوتيّين إلى استبعاد كلمة الشفقة باعتبار أنّها تقلّل من قيمة المحبّة التي تصل إلى حدّ بذل الذات والفداء، وهذا ما لا يمكن أن تصل إليه الشفقة. في المقابل تركّز الديانة الإسلاميّة على الرحمة: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، لذلك لا ترد صفة "الشفوق" بين أسماء الله الحسنى. أمّا المجتمعات المدنيّة العلمانيّة فارتكزت على مفهومَي الحقوق والواجبات.
ولكن في اللاوعي الجماعيّ، يرفض المحتاجون الشفقة باعتبار أنّ فيها فوقيّةً وسلطة يمارسهما القويّ القادر على الضعيف العاجز، وهي تكاد تساوي بين الناس والحيوانات، إذ يمكن أن يشفق الناس في سهولة على حيوان جريح أو طائر مكسور الجناح أو وردة ذابلة، كما يشفقون على إنسان فقير أو مريض أو عاجز أو معوّق، وكما يشفق النهار على الليل فيكون الشَفق. أمّا الرحمة فأعلى مستوى إذ تشيع حولها جوًّا من المصالحة بين العلى والأرض (يا ابن داود ارحمني، صرخ أعمى العهد الجديد، فأبصر) أو بين الداخل والخارج إذ تنطلق من الرحم لتمدّ حبل خلاص لمن يحتاج الرحمة. ولكنّ للمحبّة شأنًا آخر إذ تكون بين متساويين يتبادلان العطاء ولا فضل لأحدهما على الآخر.
قد يكون العالم في حاجة إلى الشفقة حين يعجز عن الوصول إلى المحبّة السامية. فهي في البداية شفقة الإنسان على الجزء العاجز الضعيف المريض منه، لتصل بعد ذلك إلى الآخر. ومن الممكن أن تكون ممارسات الشفقة التي وصلت إلينا عبر تاريخ البشريّة نوعًا من حبّ البقاء أو ضرورة اجتماعيّة اكتشف الإنسان أهميّتها خلال مسيرته من عزلة الكهف إلى دفء الجماعة إذ فهم أنّه إن لم يشفق اليوم فلن يجد من يشفق عليه غدًا. ولهذا ربّما كان الكرم العربيّ مع ما ارتبط به من ضيافة وحسن استقبال حاجة ماسّة فرضتها ظروف الصحراء حيث لا مأوى ولا دولة ولا حماية. فكان على القبيلة أن تستقبل التائهين المسافرين وتشفق على المحتاجين لأنّ المستقرّ اليوم هو طريد الغدّ، والآمن اليوم هو الضائع غدًا.
لا شكّ في أنّ الأرض تحتاج إلى شفقتنا على ناسها وحيواناتها وسائر الكائنات فيها وإلّا فلن تكون الأرض أرضنا، أمّا إذا رغبنا في تحويل الأرض سماء فليس أمامنا إلّا المحبّة التي فيها فرح وتفاؤل لا الشفقة المرتبطة بالعوز والعجز. فمن منّا لا يشعر بالإهانة حين يسمع أحدهم يقول له: أنا أشفق عليك؟ ومن منّا لا يصير في السماء السابعة حين يقول الآخر: أنا أحبّك.
النهار - كانون الثاني 2010
هناك تعليقان (2):
جميل هذا التناول المنهجي. هذا مقال ينتفع به اهل الأدب ، وهو درس يصلح تقديمه في المطالعة التوجيهية لطلاب الثانوية/البكالوريا لينتفع به النشء فينمون بصحة في العقل والقلب والذوق. بفكرك المتجدد نعيش يا مريم، عافاك.
مساكين تلاميذنا وطلاّبنا، نحن نعلّمهم من أجل صحّة العقل والقلب والذوق، والمجتمع يشوّه ما نعلّمهم إيّاه. كان الله في عونهم
دمت بخير
إرسال تعليق