أنا المارونيّة اللاشيوعيّة الموقّعة أدناه أعلن...
أنا الموقّعة أدناه، ماري
القصّيفي، المارونيّة اللاحزبيّة، كتبت يوم مات رضوان حمزة عام 2016 نصًّا بعنوان:
"عن موت رضوان حمزة الذي يميتني خوفًا"،
فتداوله الشيوعيّون وحقّق 63 مشاركة، عدا مئات علامات الإعجاب ورسائل التقدير.
في 2022، حين رحل مازن عبّود كتبت نصًّا بعنوان:
"مازن عبود من طلب منك أن تطلق الرصاصة الأولى؟" فتناقله 83 شخصًا،
فضلًا عن مئات أثنوا وشكروا.
في 2023، مات فيصل فرحات فكتبت: " كل مرة بكتب عن الحزب
الشيوعي بيكون مات حدا من الحزب، وكل مرة بينكتب انو اللي مات كان مناضل أو مثقف
وإنو مات مريض متروك وما حدا سأل عنو... ومش معقول كل مرة يكون في مبالغة بالحكي
عن الإهمال".
وفي 2024 مات ابراهيم قيس.
فلم أكتب.
لكنّ رنا غنوه ابنة الشيوعيّ وزوجة الشيوعيّ كتبت على صفحتها في فيسبوك عن أبيها أطال الله في عمره:
"بابا مواليد 1957 / عاش فقر وجوع ال 1960/ رجع عاش الحرب الأهلية
1975/ رجع
الاجتياح اكل مستقبله 1978/
تجوز ماما وعاشوا سوا من 1980/ خسروا كل رفقاتهن وخالي
وكتير ناس بعد حوادث اغتيالات اللي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي/ خسروا كل اللي جمعوه
ليعيشوا مع بعض بال 1985 وما تلاها من تدهور الليرة ب وقتها/ رجعوا لملموا حالهن
وجابونا انا واخواتي/ تم
أسره متل كل شباب الضيعة 1987/
بعدان بلش الإحتلال وعيشة القرف/ بعدان تحررنا عام 2000/ بعدان صارت حرب تموز
2006/ بعدان
نزلنا عالجامعات وتعلمنا وصار يخاف علينا/ بعدان اشتغلنا وعملنا
عائلاتنا وخلص كل حدن بحاله/
بعدان عمل جلطة دماغية اودت لشلل جانبي عندو 2012/ بعدان تعافى جزئياً وكمل
عيشتو/ وصارت
حرب 2024... وهو بيقول: كل
اللي انقال فوق كوم، وهاي الحرب كوم. وأنا بقول مش حرام جيلهن وجيلنا وجيل
ولادنا يعيشوا
كل هالأشياء؟ حرب لا أفق لها/
لا هوية لها/ بلاد لا افق لها/ لا هوية لها"
(انتهى كلام رنا).
(رنا غنوة: اختصاصيّة صحة اجتماعيّة وخبيرة في الحماية الأسريّة والدعم النفسيّ. كاتبة شعر ونثر وناشطة في الشأن الإنسانيّ)
ماذا يعني كلّ ذلك؟
بعد مئة عام على تأسيس الحزب
الشيوعيّ، وما انبثقت عنه من منظّمات وحركات ضمّت آلاف المنتسبين، وبعد المشاركة
في الحرب اللبنانيّة، والمساهمة التي لا بدّ من الاعتراف بنجاحاتها ضدّ إسرائيل،
ماذا يمكن للحزب الشيوعيّ أن يقول وهو يرى إلى نفسه اليوم بعيدًا مئة سنة عن
مفكّريه وقادته ومثقفيه المقتولين وبعد الإبادة في غزّة؟
في حوار مع صحافيّ صديق، عتيق
في الكتابة السياسيّة ومتمرّس في القيادة الحزبيّة سألته: هل يفهم الشيوعيّون
اليوم ما تكتبه؟ اعترفَ أنْ لا. يفهمها فقط من هم من رعيله أو من المشتغلين على
أنفسهم لغة وفكرًا.
والباقون؟ سألته. ما دورهم.
أجاب: كلّ الأحزاب في مرحلة
معيّنة اضطرّت إلى استقبال طالبي الانتساب إليها ولو من دون فهم للعقيدة. الأعداد
كانت عهد الحرب أهمّ من الإعداد الفكريّ، وحملة السلاح كانوا بالنسبة إلينا أهمّ
من حملة الشهادات. فتنازلنا عن المستوى الثقافيّ.
للحرب شروطها ومتطلّباتها.
والذين كانوا يؤمنون بالشيوعيّة فكرًا وعقيدة تقدّم بهم العمر على دروب الخيبة،
ومات أكثرهم فقيرًا معدمًا مريضًا مهملًا. والعدد الذي كان مطلبًا قتاليًّا زمن
الحرب، بقي ضرورة ملحّة لموسم الانتخابات.
لا يغيب عن بال أحد ما فعلته
الشيوعيّة في العالم، وما أحدثته من تغيّيرات في أنظمة الدول وفرض مشاركة المرأة
في الحياة السياسيّة وتحديد أيّام العمل ومنع عمالة الأولاد وسوى ذلك كثير. لكن في
لبنان، هل يمكن الحديث عن إنجازات تتعدّى العمليّات الاستشهاديّة، فمات الذين
واللواتي كانت تليق بهم وبهنّ الحياة، ليبقى من يقتل كلّ حياة حرّة وفرح مشروع؟
في الأحزاب كلّها قدامى
متروكون منسيّون. يتنكّر لهم القادة الذين تسلّقوا جراح مرؤوسيهم وتعبهم ونبل
أخلاقهم ليصلوا إلى قمّة الفساد، وبين هؤلاء القدامى من يسخر منهم أولادهم قائلين:
جيلكم ماذا فعل لنا؟ تركتمونا
أطفالًا في أحضان أمّهاتنا وذهبتم لتصنعوا لنا وطنًا، فلا ربحناكم آباء ولا عدتم
إلينا بمستقبل آمن. ذهبتم لتحرّروا فلسطين فخسرنا بسببكم لبنان. غادرتم على عجل
لتنقذوا القدس وأنتم تنشدون "الآن الآن وليس غدًا"، فلا أنتم غنمتم
"الآن" ولا نحن ربحنا "غدًا".
وحين
كنتم تتسلّلون إلى أسرّتنا ليلًا مغافلين الجواسيس لتسرقوا قبلات من جباهنا،
تركتكم خلفكم وعودًا لأحلامنا الصغيرة بمشاريع كبيرة عن الحريّة والمساواة
والعلمانيّة والعلم. وحين استيقظنا وجدناكم مشرذمين مضطهدين مهاجرين يائسين مرضى
مقعدين. وفي كلّ مرّة تنفجر الأمور في غزة تنتفضون في كراسيكم المتحرّكة كأنّكم
تقودون دبّابات، وتلعنون العكّاز لأنّه ليس بندقية، وترمون أطرافكم الاصطناعيّة
لعلّها تصير قنابل. وتبكون. تبكون على أنفسكم، على عائلاتكم التي لم تعرف الأمان، على
نساء صرن عجائز وهنّ ينتظرن خروجكم من الأسر، على المجد الذي كان لكم، على رفاق
سبقوكم إلى حيث اكتشفوا أنّ الحرب لم تكن من أجل لبنان، وقطعًا ليس من أجل فلسطين،
وهناك سمعوا ملاكًا يقول لهم ضاحكًا: ألستم أنتم الذين واجهتم الله وسكتم أمام حزبه؟
أيّها الشيوعيّون الأعزاء
مؤسف أنّنا نحن الجيل
التائه ضعنا بين سلام واهٍ عرفه لبنان زمن الستينات مع ملامح بحبوحة وحريّة ولو
بعيدة عن الأطراف والريف، وبين جيل يهزأ من سلامنا الهشّ وحروبنا العبثيّة ولا
يحلم إلّا بجنسيّة أجنبيّة أو فرصة عمل في دولة خليجيّة.
محزنٌ أن تصير أغنياتكم وأناشيدكم ذكريات لمغنٍّ يكاد، لولاكم،
ينفض عن صوته كلماتها. ثمّ فجأة وعند مجزرة جديدة يمسح الغبار عن آلته الموسيقيّة
ليدعوكم إلى القتال والاستشهاد. هو يدفعكم إلى الموت وأنتم تدفعون ثمن بطاقة
الدخول وتصفّقون.
مذلّ
أن تصير شواهد القبور شاهدة على أكبر لقاء شيوعيّ في انتظار مأتم آخر، ورثاء آخر،
ودمعات افتراضيّة عبر مواقع التواصل لا تحرق العين ولا تطفئ الغليل.
معيب أن يكون لبنان في آخر سلّم اهتماماتكم، وأن تحبّوا فلسطين
أكثر ممّا تحبّونه، وأن تخافوا على أهلها وتخافوا من أهله، وأن تنسوا مرفأ بيروت
لأنّ ضحاياه أقلّ عددًا من ضحايا غزّة.
تعبتُ منكم ومن سواكم. كلكن يعني كلكن. لا عامل لبنانيًّا يريد
العمل والكلّ يضطهد السوريّين العاملين، ومع ذلك تحتفلون بالأوّل من نوّار. بلد
الكسالى يحتفل بعيد العمّال. بلد انتقل من الزراعة إلى الخدمات السياحيّة وينقّ من
الجوع والفقر ولا يعرف كيف يستخدم المطرقة والقدّوم. بلد يريد أكثر سكّانه عودة
الحرب كي لا يعمل بل ينتظر صناديق الإعاشة تهبط عليه من السماء. بلد يعمل الناس
فيه السبعة وذمّتها ويعظون عن العفّة والثواب والعقاب والوطنيّة... والقدس وغزّة.
في 14 كانون الثاني
2009، كتبت مقالة في صحيفة البلاد البحرينيّة تبدأ بهذه الجملة: "هل كنّا في
حاجة إلى حرب غزّة كي نجد لأنفسنا قضيّة نتكلّم عنها ونقوم بمظاهرات من أجلها
ونثور ونبكي ونغضب ونريح ضمائرنا؟" وفي 2012 نشرت قصيدة بالمحكيّة عن أطفال
غزّة عنوانها: ما عادوا عم يلعبوا قدّام البواب...
ومع كلّ حرب على غزة تستعاد الكلمات نفسها، وتُستعار خلال مجازر
سوريا، وعند قصف الجنوب... كلمات كلمات كلمات...
فيا أيّها الشيوعيّون اللبنانيّون
انتهى دور لبنان الكبير عند وصوله إلى المئة عام، وأنتم اليوم،
كما لبنان، إلّا:
- إن انتفضتم على قياداتكم
المتردّدة الخائفة، وأعدتم إلينا نحن غير الشيوعيّين الإيمان بأنّكم حقًّا
علمانيّين، وبأنّكم تعيدون كلّ يوم، على مثال جورج حاوي، مراجعة مواقفكم، وبأنّكم
تحتملون النقد وتتقبّلونه.
- إن أعطيتم لبنان المرتبة
الأوّلى في مسار إصلاحكم كي نصدّق أنّكم تحبّون بلدكم أوّلًا، لنؤمن أنّكم تحبّون
بلدان العالم المضطهدة، وفي مقدّمتها فلسطين.
- إن أعدتم الدور، ولو من باب
الاستئناس بالرأي، لحكمائكم من أهل القلم والصحافة والفكر والأدب.
- إن أعدتم للثقافة مجدها كما
كانت عهد مهدي عامل والمطران غريغوار حدّاد وعصام محفوظ وأكاد أقول الأب ميشال
الحايك...
- إن جاهدتم من أجل نشر كتاب
بمثل ما تدافعون عن ملهى أقفلوه أو مسبح أغلقوه.
وإنْ
لا، فأنا الموقّعة أدناه، ماري القصّيفي المارونيّة المضطهدة مارونيًّا،
واللامنتمية إلى أيّ حزب أو تيّار أو حركة، أعلن سلفًا الحداد على من يموتون منكم
فقراء مرضى عاجزين متروكين مذلولين في حرب قالت عنها رنا غنوة: "مش
حرام جيلهن وجيلنا وجيل ولادنا
يعيشوا كل هالأشياء؟ حرب لا أفق لها/ لا هويّة لها/ بلاد لا أفق لها/ لا هويّة لها".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق