نصوص ومقالات نشر أكثرها في الصحف والمجلاّت اللبنانيّة والعربيّة بعضها باسم مستعار هو مي م الريحاني
الأربعاء، 31 مارس 2021
السبت، 27 مارس 2021
الجمعة، 26 مارس 2021
الجنون في بعض ملامحه الأدبيّة والفنيّة (4)
أربع مجانين وبسّ الأغنية |
الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(4)
(4)
في "لسان العرب"
نقرأ في "لسان العرب": جُنّ الرجل جنونًا وأجنّه الله فهو مجنون.
وفي الحديث أنّ النبيّ رأى قومًا مجتمعين على إنسان فقال: ما هذا؟ فقالوا: مجنون!
قال: هذا مصاب. إنّما المجنون الذي يضرب بمنكبيه وينظر في عطفيه ويتمطّى في مشيته.
والإنجيل يخبرنا عن المسكونين بالأرواح الشريرة. يأتي بهم الناس إلى يسوع
ليشفيهم ويطرد منهم الأرواح النجسة، وفي الوصف يبدو هؤلاء ضحايا نوبات عصبيّة وداء
الصرع و"الوقوع في التقطة" كما يسمّيها الناس. ولكنّ جبران خليل جبران
يدعو إلى نوع آخر من الجنون. ففي نصّ "حفّار القبور" من كتاب
"العواصف" يصرخ: "أنا الإله المجنون". وفي نصّ بعنوان
"كيف صرت مجنونًا؟" من كتاب "المجنون" يشرح مفهومه ويقول إنّ
الناس نظروا إليه عاريًا من البراقع السبعة التي حاكها وتقنّع بها ثمّ سرقها
اللصوص،وحين صرخ الناس معلنين جنونه لأنّه يسير من دون برقع خاف من هذا العريّ،
ولكن حين قبّلت الشمس وجهه العاري للمرّة الأولى، شكر اللصوص وباركهم لأنّه وجد في
جنونه الحريّة والنجاة معًا، حريّة الانفراد والنجاة من أن يدرك الناس كيانه. وفي
الكتاب نفسه، قصّة "الليل والمجنون" وفيها يقول المجنون لليل إنّه مثله
في عريه وعمقه، ويشبهه في جبروته وصرامته، ويماثله في طربه وصبره ومقدرته، وكما
أنّ الليل يكشف مكنونات اللانهاية كذلك يكشف المجنون مكنونات نفسه.
أنا الإله المجنون |
ويؤكّد جبران في أكثر من نصّ أنّ تهمة الجنون التي يرمي بها بعض الناس
البعض الآخر إنّما هي نتيجة الاختلاف، ففي كتاب "التائه" يتحدّث في قصّة
"المجنون" عن الشابّ الذي حجر عليه أهله في "المارستان" وحين
سُئل عن السبب أجاب إنّ كلًّا من والده وعمّه وأمّه وأخوته وأساتذته أراد أن يجعل
منه انعكاسًا له في مرآة. ولم يجد غير "المارستان" مكانًا يستطيع فيه أن
يكون نفسه لا سواه.
جنون بيروت
وبيروت التي أرادوا لها أن تكون صورة لمدن أخرى ما عادت تشبه نفسها وما
استطاعت أن تشبه سواها. بيروت هذه التي عرفت جنون الترف وثملت بجنون الشعر، ورقصت
مجنونة بالحريّة، وذاقت جنون الحرب والقتل والمجازر، كانت أرصفتها مسرحًا لشتّى
أنواع الهذيان، الصادق منه والمزيّف، ولذلك وجد "أبو الريش" المجنون
فراشًا له على أرصفتها. "أبو الريش" هذا التقطت صوره صدفة كاميرا جوسلين صعب ثمّ اختفى الرجل مع الاجتياح الإسرائيليّ. وقال الناس إنّهم شاهدوه في بزّته
العسكريّة ذات الرتبة العالية، يدخل إلى بيروت دخول الفاتحين. وعلى عكس ما حصل مع
"أبو الريش" ذي القبّعة الغريبة والملابس الهجينة، حصل مع سعاد نعمه
الطرابلسيّة التي تعاني انفصامًا. فحين ظهرت في مدينة صور وادّعت أنّها إسرائيليّة
صدّقها الجميع وعرضوا صورتها وقالوا إنّها شديدة الذكاء وخافوا منها. وحين اكتشفوا
أو بالأحرى حين كُشف لهم أنّها سيّدة لبنانيّة مريضة، زوجة وأمّ لثلاثة أولاد، وقد
سبق أن أدخلت إلى مستشفى الأمراض العقليّة والعصبيّة حيث عولجت من مرض نفسيّ.
حينذاك، حين كُشف ذلك، تراجع مستوى ذكائها وصارت "مجنونة".
"المجنون" ضابط إسرائيليّ من رتبة عالية، والجاسوسة الإسرائيليّة
الخطيرة "مجنونة". أيّ مصحّ كبير هذا الذي نتخبّط فيه؟
(يتبع)
الأربعاء، 24 مارس 2021
الجمعة، 19 مارس 2021
الجنون في بعض ملامحه الأدبيّة والفنيّة (3)
ميّ التي حُجر عليها |
الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(3)
(3)
مجنون العلم
إنّ مفهوم الجنون عند العامّة لا علاقة له بالناحية العلميّة الطبيّة
المعترف بها. ولا يفهم أحد كيف يقرّر الناس من هو المجنون ومن هو العاقل. ولكن
"الغريب" – بحسب تحديدهم لمعنى الغرابة – هو المجنون حتّى يعود إلى
الصراط المستقيم، وكثيرًا ما ترافقت هذه التهمة في بدايات هذا القرن مع كثرة العلم
وتعدّد اللغات المكتسبة والشهادات العالية. وكم قالوا عن أحدهم: يا حرام! فلان
جُنّ من كثرة ما تعلّم. ولذلك، ربّما، قلّ عدد النساء "المجنونات"، فهنّ
كنّ محرومات زمنذاك من العلم، وإذا جنّت إحداهنّ فلأنّ حبيبها قد غدر بها وتركها
تجترّ العار والوحدة، وهاجر إلى ما خلف البحار.
في بلدة من بلدات جبل لبنان، يتناقل الناس أخبار ذلك المغترب العائد من
البرازيل بلقب أجنبيّ وثورة ماديّة بسيطة، ولكنّه كان يجيد التكلّم بسبع لغات –
كما قالوا – وكان حديثه جديدًا وغريبًا، فنظر إليه أبناء بلدته وتأسّفوا على حاله
وعاملوه طوال الوقت على أنّه مجنون يدارونه ويشفقون عليه، فعاش بينهم طائرًا يغرّد
خارج سربه.
وفي بلدة أخرى، مجنون من نوع آخر، يضحك باستمرار، يلاحق النساء ويتحرّش
بهنّ محاولًا رفع فساتينهنّ، لا يهدأ ولا يصمت. وعبثًا حاولوا ردعه أو إقناع أهله
بعزله. وعلى طرق إحدى بلدات المتن، تتجوّل امرأة غير لبنانيّة، لا تصمت ولا تهدأ،
لا يراها الناس إلّا مرتدية قميص النوم، وتلبس فوقه "الكومبينيزون"،
لأنّه أجمل والدانتيل فيه أعرض وحرام ألّا يراه الناس بحسب قولها. لا يستطيع أحد
أن يحزر متى يفلت لسانها بالصراخ والشتائم، ومتى تهدأ وتخبر حكايتها ومشاهداتها،
لا تؤذي ولا تتسوّل، تعمل في البيوت، تختفي أيّامًا ثمّ تظهر فجأة. يقول البعض
إنّها امرأة شديدة الذكاء و"محتالة"، ويقول آخرون: مجنونة ما بدها إلّا
دير الصليب.
مي زيادة
حين بدأت المصحّات تستقبل نزلاءها، دخل إليها كثر من الناس، بعضهم كان
خطرًا، قد يؤذي نفسه أو الآخرين، وبعضهم ضحيّة الحرب، وآخرون ما كانوا يعانون سوى
أعراض بسيطة وعابرة، ولكنّ إخوتهم كانوا يبعدونهم مدعومين بشهادة أهل القرية عن
هؤلاء الغريبي الأطوار، وفي غياب الوالدين، يضع الأخوة أيديهم على حصّة أولئك من
الإرث.
لم يكن الجنون في عرف العامّة حالًا مَرضيّة بل كان غاضبًا إلهيًّا وعقابًا
سمويًّا، ومن يدخل المصحّ يُنصح بألّا يغادره وإن شفي، فنظرات الناس لن ترحمه ولن
تغفر له جنونه.
في كتاب "فرسان الكلام" يصف توفيق يوسف عوّاد مشاعره بعدما استمع
إلى ميّ زيادة تلقي خطابها عن "رسالة الأديب في الحياة". وفي فصل بعنوان
"ميّ" يقول عوّاد في المقدّمة: "في أواخر آذار سنة 1938 ألقت
المرحومة ميّ خطابًا في الجامعة الأميركيّة في بيروت يصحّ عدّه للظروف التي أحاطت
به من أعظم الأحداث الأدبيّة في العالم العربيّ. كانت ميّ قد اتّهمت بالجنون،
وحُبس عليها ردحًا من الزمن في العصفوريّة، وأثارت قضيّتها ضجّة كبيرة في لبنان
وسائر الأقطار". ويبدأ عواد مقالته التي نشرها في "النهار"
متسائلًا: إلى من سيمظر الناس في الوست هول، إلى ميّ صاحبة المؤلّفات والمواقف
الخطابيّة والمقالات الرائعة أم إلى ميّ التي "حُجر عليها وسيقت من مصر إلى
لبنان سَوق السجين وزجّت في مستشفى المجانين وأدخل في روع الناس أنّها أصبحت
مخلوقة دون الناس بعد أن كانت فوق الناس" (ص45).
ومنذ زمن ليس ببعيد، اكتشفت هدى سويد أنّ الشاعر صفوان حيدر مرميّ في سجن
روميه بتهمة "الجنون"، وحرّك "الملحق" قضيّته المهملة وألّب
الصحافة والرأي العامّ حتّى أُطلق سراحه.
إنّ العرب في جاهليّتهم وضعوا الشعراء والمجانين في خانة الذين يتلقّون
أفكارهم من أرواح غير منظورة. ويقول فيليب حتّي في "تاريخ العرب" إنّ
الشاعر هو في الأصل رجل معرفة وُهب معرفة ما ستر وذلك بواسطة شعور خفيّ يوحيه إليه
شيطان خاصّ. والمجنون عندهم هو من سكنه الجنّ. ويقول كارل بروكلمن في "تاريخ
الأدب العربيّ" إنّ الهجاء كان في يد الشاعر سحرًا يقصد به تعطيل قوى الخصم
بتأثير سحريّ. ومن ثمّ كان الشاعر إذا تهيّأ لإطلاق مثل ذلك اللعن يلبس زيًّا
خاصًّا بزيّ الكاهن. وقد زعم بعض العرب: "أنّ كلاب الجنّ هم الشعراء".
ومن هذا القبيل قول عمرو بن كلثوم:
وقد هربتْ كلابُ الشعر منّا
وشذّبنا قتادة من يلينا
ونستمع إلى المعنى نفسه تغنّيه صباح بكلمات الأخوين رحباني في مسرحيّة
"دواليب الهوا":
بيكفّيني كون مع شاعر مجنون
تمشي ما أعرف لوين
وأنا إمشي معك.
(يتبع)
الأربعاء، 17 مارس 2021
الجنون في بعض ملامحه الأدبيّة والفنيّة (2)
الممثّل الراحل نبيه أبو الحسن (1934 - 1993) في دور "أخوت شانيه" من تأليف أنطوان غندور |
الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(2)
(2)
الجنون الحكيم
الجنون الحكيم أو الحكمة المجنونة، هذا ما قاله الأمير بشير الشهابيّ عن
"أخوت شانيه"، المجنون الذي كان يسلّي الأمير بـ"جنونه" وأوصل
المياه، بحكمته وبُعد نظره، من نبعَي القاع والصفا إلى القصر الجديد، قصر بيت
الدين. ويعرّف فؤاد افرام البستاني عن هذا "الأخوت" في كتابه "على
عهد الأمير" قائلًا: "كان رجلًا خفيف الروح، عذب الحديث، حلو النكات،
يُصاب من وقت إلى آخر بنوع من السويداء، فيأخذ بالهذيان المضحك. فكان جنونه سارًّا
مفكّهًا، والجنون فنون" (ص32). وبعدما عجز المهندسون وبعض
"المعلّمين" البارعين في فنّ البناء عن الوصول إلى الحلّ الأقلّ كلفة
لجرّ المياه، أعلن "الأخوت" أنّه قادر بسهولة وذلك بأن يأمر الأمير
"بصفّ الزلم من نبع القاع إلى بتدّين وليحفر كلّ واحد ذراعًا أمامه، ثمّ توصل
الحفائر ويجري الماء في القناة" (ص35). ويؤكّد الأمير عند سماع ذلك أنّ من
المجانين من يكون أحكم العقلاء.
ويروي "سلام الراسي" أخبارًا طريفة عن مجانين عرفتهم قريته "إبل السقي" في جنوب لبنان، وتناقل الناس أخبارهم الطريفة من جيل إلى جيل، ويقول
نقلًا عن "سهيل الحمصي" "إنّ شخصيّة القرية لا تكتمل إلّا إذا عاش
فيها مجنون عريق يكون له دور طريف في حياة القرية" (ص135)، ثمّ يخبر في
مجموعته "الجنون فنون" قصّة عسّاف الجليلاتي الذي ادّعى الجنون تهرّبًا
من الخدمة الإلزاميّة زمن الأتراك، حين كان الشبّان يُجمعون ويرمى بهم في ساحات
المعارك. وقد "برطل" عسّاف هذا قائمقام "مرجعيون" بواسطة أحد
أفنديّة المنطقة ليجد له عذرًا يعفيه من الخدمة، وشهد الأفندي أنّ الرجل أخوت.
ولكنّ عسّافًا رفض هذا العذر واعترف بأنّه اتّفق مع الأفندي على القول إنّه قصير
النظر لا مجنون. فقال الأفندي: "وهل تريد يا حضرة القائمقام برهانًا أسطع من
هذا على جنون هذا الشابّ؟" فوافق القائمقام وأكّد جنون عسّاف لأنّ كلامه
فضحه، واضطرّ الرجل إلى تمضية حياته وهو يؤكّد للناس جنونه كي لا يقع في تهمة خداع
الدولة للتخلّص من واجب الخدمة العسكريّة. انتهت الحرب ولكنّ عسّافًا وجد صعوبة في
الرجوع إلى الصواب.
وفي حكاية "مجنون يحكي وعاقل يفهم" يصف سلام الراسي مجنونًا عاش
في "إبل السقي" أيضًا اسمه عبدالله نصّار. ومن مظاهر جنونه أنّه كان
يرسل شعر رأسه ولحيته ويجلس قرب العين، وحيدًا شارد الذهن، يغنّي أبياتًا من
العتابا من نظمه، وعلى سجيّته، من دون أن يتقيّد بشروط القافية أو الوزن. وحين
استدعي الشابّ للمثول أمام جاويش درك مرجعيون أيّام "سفر برلك" راح
يغنّي قائلًا:
نزل دمعي ع خدّي شروش كبّه
على قبور النصارى حيّكوا اليبرق
سبحان من خلق الجرذون يقطر زيت
حبّك بقلبي متل لبيط الكِدش
وقال الناس يومذاك أنّ عبدالله قد أعفي من الخدمة العسكريّة لأنّه مجنون،
وقال آخرون بل لأنّه شاعر، فالشعراء كذلك لا يصلحون للحرب.
(يتبع)
(يتبع)
الثلاثاء، 16 مارس 2021
الجنون في بعض ملامحه الأدبيّة والفنيّة (1)
زياد الرحباني - فيلم أميركيّ طويل
الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(1)
(1)
يقولون: في كلّ قرية مجنون "أخوت"، وساذج
بسيط القلب، يلوّنان أيّامها بالغرابة والبراءة. يقولان ما لا يقوله الآخرون.
يسبحان عكس التيّار. يتكاملان ويتناقضان. ليل ونهار في لحظة واحدة ومكان واحد،
يتواجهان مع أنّ قد قيل أنّه لا يمكن للمرء أن يرى مؤخّرة رأسه، ويهرب أحدهما من
الآخر مثلما يهرب المجرم من ضميره، والمشوّه من المرآة، والأعرج من ظلّه ترمي به
الشمس في طريقه.
|
مجنون يرى ما لا يُرى. وساذج ينظر ولا يرى. مجنون لا يصدّق ما يقال، وساذج
يصدّق كلّ ما يُقال. مجنون لا يفعل شيئًا ولا يقدّم خدمة لأحد، وساذج يكلون إليه
كلّ الأعمال ولا يرفض. مجنون غاضب كبحر شتويّ لا يتوقّف عن الحكي، وساذج هادئ صامت
كبئر عميقة لا قرار لها. مجنون وقح، وساذج خجول. مجنون يعرّي الناس بنظراته، وساذج
تعرّيه نظرات الناس. مجنون يركض وسط الشارع ويخيف الآخرين، وساذج يمشي مع الحائط
ويخاف الآخرين. مجنون تخشاه النساء، وساذج لا يشعرن بوجوده.
ولكنّ للأولاد رأيًا آخر. هم يحبّون كليهما، ويلحقون بكليهما: الأوّل يثير
مخيّلتهم وشيطناتهم، والثاني يحرّك عواطفهم وبراءتهم. يلحقون بالأوّل ليستفزّوه،
ويلحق بهم الثاني لعلّه يجد رفاقًا يلعب معهم.
وباهتة القرية التي تخلو دروبها وأزقّتها من وجودهما، وقاحلة المدينة التي
أسرتهما في مستشفياتها وأبعدتهما عن صورتها الملمّعة القابلة للتصدير والرافضة
لكلّ ما لم يدخل في تصميمها المدروس.
إنّ الجنون والبساطة مصطلحان يختلف تحديدهما بين إنسان وآخر أو بين منطقة
وأخرى. ومن الصعب وضع مفهوم واحد لكلّ من هاتين الكلمتين. ولكنْ ثمّة اتّفاق مضمر
بين أهل بلدة ما على النظر بطريقة مختلفة إلى إنسان معيّن ويقرّرون أنّ هذا مجنون
وذاك بسيط ساذج. والغريب أنّ هؤلاء الناس أنفسهم يتجنّبون الإشارة، في أحاديثهم
المتداولة خلال السهرات والأمسيات الطويلة، إلى النساء اللواتي يوضعن تحت هذا
العنوان أو ذاك، وكأنّه من غير اللائق أن تعلن حياة هذه المرأة خارج حيطان منزلها،
أو كأنّ وجودها الأنثويّ سريع العطب أصلًا، ومن دون هاتين العاهتين، فكيف تكون
الحال معهما؟ وهكذا صارت طرق القرى ملعبًا لا تطأه إلّا أقدام رجال محكومين
بتسميات وألقاب ما أن يحملوها ويوسموا بها حتّى تلتصق بجلودهم، فيعاملون كحيوانات
شاردة، وتبقى هذه الأسماء إلى ما بعد موتهم، فيذكرون بها ولا يعرفون من دون هذه
الصفة أو ذاك النعت. أمّا النساء فينسى الناس وجودهنّ إذ يؤسرن داخل الجدران
الصمّاء، خوفًا عليهنّ من استغلال جنسيّ وهنّ اللواتي لا يعرفن ولا يفهمن ولا يقاومن.
وخوف العار يتحوّل حبسًا كبيرًا مؤبّدًا، لا تخرج منه "المجنونة"
الأسيرة أو "الساذجة" الخادمة إلّا إلى القبر.
ومع ذلك فإنّ إميلي نصرالله تحكي لنا عن "روزينا" المجنونة في
رواية "الإقلاع عكس الزمن". تقول الكاتبة إنّ هذه المرأة جاءت لتودّع
"رضوان" المسافر إلى كندا، وفي يدها صرّة. ينظر إليها الرجل مستغربًا
مجيئها ويتذكّر كم "تعمّد مداعبتها ليسمع منها الكلام اللامعقول. وأحيانًا
الشتائم تنصبّ فوق رأسه ورؤوس الذين يزيدون العيار على المرأة فيخرجونها عن صمتها
ليدخلوا معها في حوار طريف" (ص36). ولكنّ "روزينا" المجنونة – هكذا
ينادونها – "المقيمة متوحّدة متوحّشة في كوخ يشبه الصومعة، معتزلة العالم
وسكّانه" لا تخرج إلى العالم إلّا "لتخضّ هدوءه، وتبذر فيه بذور القلق
والغرابة. وهي حين أتت مودّعة الرجل العجوز كانت تحمل حفنة تراب من أرض القرية
هديّة لأولاده المغتربين وتقول له: "الشباب بيكونوا اشتاقوا لرائحة تراب
"الجورة" (اسم القرية). ويكتشف "رضوان" أنّ التي صنّفوها من
زمان في خانة الخارجين على كلّ عقل ومنطق فيها من الحكمة ما يفوق حكمة العقلاء.
(يتبع)
الاثنين، 15 مارس 2021
الأحد، 7 مارس 2021
المجتمعات المريضة (2011)
صار
الجلوس أمام شاشات التلفزيون أقرب إلى الجلوس في عيادات الأطباء أو في أقسام
الطوارئ في المستشفيات أو أمام أبواب غرف العمليّات الجراحيّة. ولو كان التلفزيون
قادرًا على بثّ الروائح كما يبثّ الصور لوجدنا أنفسنا مزكومين بروائح المطهّرات
والمخدّر ممزوجة بإفرازات الأجسام والجراح.
فإذا أخذنا مثلاً المحطّات التلفزيونيّة الأرضيّة في لبنان، نجد أنّ البرامج الطبيّة المتخصّصة تحديدًا بالعلاج التقليديّ أو الطبيعيّ أو البديل، صارت تحتلّ فترات بثّ طويلة تشعرنا بأنّنا لن نعجز مع قليل من المتابعة على تبادل الوصفات الطبيّة عبر "الإيميل" وإعطاء النصائح لمن نعرفهم من المرضى. فلكلّ محطّة طبيبها الخاصّ (فضلاً عن منجّمتها)، أو معالِجُتها المتخصّصة، وكلّهم يغسلون أدمغتنا وأمعاءنا بنصائح يختلط فيها الغرب بالشرق، والحديث بالقديم. كلّ ذلك وجمهور المشاهدين عاجز عن الفهم أو التمييز بين ما تقوله "مريم نور" أو ينصح به "زين الأتات" و"نقولا قيماز" أو تعلن عنه شركة "أمانة كير" ثمّ جاء برنامج "لازم تعرف" متزامنًا مع برنامج "الأطباء" المنسوخ عن الأصل الأميركيّ. وفي أكثر الأحيان تختلط الوصفات وتتشابك التعليمات فيتحوّل العلاج الذي اخترعه المريض سمًّا زعافًا.
أمّا إذا انتقلنا إلى المحطّات الفضائيّة العربيّة فنجد في انتظارنا "الدكتور فيل"، و"الدكتور أوز" الضيف الدائم في برنامج "أوبرا" التي تستضيف فضلاً عنه أطباء آخرين وفي مجالات مختلفة، و"دكتور هاوس"، و"الأطباء" الأميركيّين، ولن ننسى مسلسل "إي آر" المتخصّص في ما يجري في قسم الطوارئ، وGrey's Anatomy وغير ذلك من المعلومات الجادّة على المحطّات العلميّة أو التعليقات الساخرة في البرامج الكوميديّة، فضلاً عن برامج الحوار العربيّة في الصبحيّات وبعد الظهر ومساء. غير أنّها كلّها تشعرك بأنّك كيفما قلّبت المحطات فستجد حتمًا طبيبًا يقدّم لك رأيًا في حالتك النفسيّة أو ما قد يتعرّض له جسمك.
فإذا أخذنا مثلاً المحطّات التلفزيونيّة الأرضيّة في لبنان، نجد أنّ البرامج الطبيّة المتخصّصة تحديدًا بالعلاج التقليديّ أو الطبيعيّ أو البديل، صارت تحتلّ فترات بثّ طويلة تشعرنا بأنّنا لن نعجز مع قليل من المتابعة على تبادل الوصفات الطبيّة عبر "الإيميل" وإعطاء النصائح لمن نعرفهم من المرضى. فلكلّ محطّة طبيبها الخاصّ (فضلاً عن منجّمتها)، أو معالِجُتها المتخصّصة، وكلّهم يغسلون أدمغتنا وأمعاءنا بنصائح يختلط فيها الغرب بالشرق، والحديث بالقديم. كلّ ذلك وجمهور المشاهدين عاجز عن الفهم أو التمييز بين ما تقوله "مريم نور" أو ينصح به "زين الأتات" و"نقولا قيماز" أو تعلن عنه شركة "أمانة كير" ثمّ جاء برنامج "لازم تعرف" متزامنًا مع برنامج "الأطباء" المنسوخ عن الأصل الأميركيّ. وفي أكثر الأحيان تختلط الوصفات وتتشابك التعليمات فيتحوّل العلاج الذي اخترعه المريض سمًّا زعافًا.
أمّا إذا انتقلنا إلى المحطّات الفضائيّة العربيّة فنجد في انتظارنا "الدكتور فيل"، و"الدكتور أوز" الضيف الدائم في برنامج "أوبرا" التي تستضيف فضلاً عنه أطباء آخرين وفي مجالات مختلفة، و"دكتور هاوس"، و"الأطباء" الأميركيّين، ولن ننسى مسلسل "إي آر" المتخصّص في ما يجري في قسم الطوارئ، وGrey's Anatomy وغير ذلك من المعلومات الجادّة على المحطّات العلميّة أو التعليقات الساخرة في البرامج الكوميديّة، فضلاً عن برامج الحوار العربيّة في الصبحيّات وبعد الظهر ومساء. غير أنّها كلّها تشعرك بأنّك كيفما قلّبت المحطات فستجد حتمًا طبيبًا يقدّم لك رأيًا في حالتك النفسيّة أو ما قد يتعرّض له جسمك.
لا اعتراض على واجب التوجيه والتحذير
والتوعية، والبرامج الوقائيّة أفضل بما لا يقاس من نشرات الأخبار التي تنقل انتشار
وباء أو ظهور مرض، والمثل عندنا يقول: درهم وقاية خير من قنطار علاج. والأطباء
كانوا في تاريخ البشريّة عناصر أساسيّة منذ المجتمعات البدائيّة حيث ارتبط عملهم
بالسحر والشعوذة لأنّهم قادرون في رأي الناس على طرد الأرواح الشريرة التي تسبّب
الأمراض. وسيبقى للأطباء هذا الدور الأساس ما دام الإنسان عرضة للأمراض، وما دام
المرضى يقاومون الموت، وما دامت الحياة غالية على قلب كلّ إنسان. ولكن كم من طبيب
عالج بلفتة حنان وخفّف الألم بابتسامة، وهذا علاج بسيط وسحريّ في الوقت نفسه على
كليّات الطبّ أن تلحظه في مناهجها.
ولكن ما يلفت الانتباه في كثرة هذه البرامج هو دلالتها على كثرة الأمراض. فما كانت هذه الأحاديث الطبيّة لتجد الصدى والإقبال لو كان الناس أصحّاء أو مطمئنّين إلى أنّ أنظمة الحياة المعاصرة لن توقعهم في شرك الأمراض النفسيّة والجسديّة. فمما لا شكّ فيه أنّ المجتمعات هي المريضة لا الأفراد، والأنظمة الغذائيّة هي الموبوءة لا الأشخاص، ولذلك كانت المعالجة الجماعيّة الإعلاميّة هي الحلّ بعدما بات من المستحيل معالجة كلّ فرد على حدة، لكثرة ما انتشرت الأمراض وتنوّعت الأعراض.
فحين نجد طبيبًا نفسيًّا يعالج في بثّ مباشر حالة مراهقة مدمنة على المخدّرات، وتمارس الدعارة لتأمين حاجتها منها، نفهم أنّ الحاجة أمّ الاختراع، وحاجة المجتمع كلّه للتخلّص من أمراضه هي التي تدفع إلى مثل هذا النوع من العلاج العلنيّ الصادم بعدما كان الأمر محصورًا في العيادات وداخل جدران الصمت والعيب والممنوع. ومن الطبيعيّ أن يزعجنا ويثير خوفنا امتلاءُ شاشاتنا بهذا الكمّ من الأمراض والشذوذ والإدمان والشراهة في الأكل والتدخين. ولكنّ الحلّ ليس في إسكات الجهاز وتعتيم الشاشة كي نوحي لأنفسنا بأنّ الأمور على ما يرام، لأنّنا على صفحة الشاشة السوداء سنرى انعكاس صورتنا وهي، إن كنّا صادقين مع أنفسنا، لا تختلف كثيرًا عمّا كنّا نشاهده قبل أن نضغط على زرّ إطفاء التلفزيون.
ولكن ما يلفت الانتباه في كثرة هذه البرامج هو دلالتها على كثرة الأمراض. فما كانت هذه الأحاديث الطبيّة لتجد الصدى والإقبال لو كان الناس أصحّاء أو مطمئنّين إلى أنّ أنظمة الحياة المعاصرة لن توقعهم في شرك الأمراض النفسيّة والجسديّة. فمما لا شكّ فيه أنّ المجتمعات هي المريضة لا الأفراد، والأنظمة الغذائيّة هي الموبوءة لا الأشخاص، ولذلك كانت المعالجة الجماعيّة الإعلاميّة هي الحلّ بعدما بات من المستحيل معالجة كلّ فرد على حدة، لكثرة ما انتشرت الأمراض وتنوّعت الأعراض.
فحين نجد طبيبًا نفسيًّا يعالج في بثّ مباشر حالة مراهقة مدمنة على المخدّرات، وتمارس الدعارة لتأمين حاجتها منها، نفهم أنّ الحاجة أمّ الاختراع، وحاجة المجتمع كلّه للتخلّص من أمراضه هي التي تدفع إلى مثل هذا النوع من العلاج العلنيّ الصادم بعدما كان الأمر محصورًا في العيادات وداخل جدران الصمت والعيب والممنوع. ومن الطبيعيّ أن يزعجنا ويثير خوفنا امتلاءُ شاشاتنا بهذا الكمّ من الأمراض والشذوذ والإدمان والشراهة في الأكل والتدخين. ولكنّ الحلّ ليس في إسكات الجهاز وتعتيم الشاشة كي نوحي لأنفسنا بأنّ الأمور على ما يرام، لأنّنا على صفحة الشاشة السوداء سنرى انعكاس صورتنا وهي، إن كنّا صادقين مع أنفسنا، لا تختلف كثيرًا عمّا كنّا نشاهده قبل أن نضغط على زرّ إطفاء التلفزيون.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
-
فرانكو كاسباري وماريّا أنطونيلاّ باولا بيتي مارينا كوفا كاتيوشيا ميشيلاّ روك بعدما تقدّم بها العمر فرانكو داني ...
-
من رسومات علي فرزات كنّا، صغارًا، نستمع إلى جدّاتنا وهن يردّدن على مسامعنا أغنية تترافق معانيها مع عدد أصابعنا الخمس البريئة وأجزاء ...
مشاركة مميزة
فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993
فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...
من أنا
- ماري القصيفي
- الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
- صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.