وسائل الاتصال: تقريب البعيد وإبعاد القريب
أنت الآن قارئي العزيز/ أو قارئتي العزيزة/ وفي هذه اللحظة بالذات، على تواصل مع شخص غريب (من حيث المبدأ)، لكنّك تعرف عنه (على الأرجح) أكثر ممّا تعرفه عن شخص آخر يقيم معك في البيت نفسه، أو الحيّ نفسه. فما رأيك في ذلك؟ ألا تشعر مرّات بأنّك تحبّ هذا التواصل لأنّه مريح بشكل أو آخر؟ فأنت فيه حرّ وغير مسؤول. حرّ لأنّك لحظة تريد تقدم عليه، وعندما تضجر أو تتعب، تقطعه. وغير مسؤول لأنّ الآخر مهما اقترب منك فكريًّا أو عاطفيًّا يبقى خارج حيّز مسؤوليّتك المباشرة. في حين أنّ القريبين منك (أيًّا تكن صفتهم) يفرضون عليك وجودهم ويطالبونك بالتواجد معهم والاهتمام بهم ومراعاة مشاعرهم ولو في غير الوقت الذي يلائمك، كأن تكون تعبًا أو مشغولًا أو غير راغب إلّا في أن يتركوك وحدك.
في هذه اللحظة بالذات مثلًا هناك سيّدة لا تملك أدنى فكرة عمّا يفعله ابنها في غرفته، في حين تعرف تمامًا تفاصيل المشهد الذي يدور أمامها على الشاشة الصغيرة، وإن كان هذا المشهد بالذات بعيدًا عنها في الجغرافيا والتاريخ.
وهناك رجل يتابع أخبار الشباب الثائرين في ساحات الدول العربيّة، يشجّعهم ويشدّ على أياديهم، ولا علم له بالثورة التي تغلي في صدر ولده الفقير أو العاشق أو المريض أو العاجز عن فهم دروسه.
وهناك مراهقة تلاحق أخبار نجمها المفضّل، تتلّوى مع أغنياته، وتردّد كلماته، وتعيش معه قصّة وهميّة، ولا تشعر بأنّ شخصًا يقيم في البيت معها يتلّوى من الألم وينتظر من يلتفت إليه.
هل نحن في وضع من يهرب إلى الأمام؟ نغادر عالم الواقع لنركب قطار الوهم حيث لا أحد يعرف أحدًا معرفة حقيقيّة؟ هل صيّرتنا وسائل الاتّصال كائنات تتّصل ولا تصل؟ نبقى في أماكننا ونأتي بالعالم إلينا، وحين نتعب من كسلنا نطفئ كلّ شيء وننطفئ؟ نجلس في مقاعدنا، نتحوّل عيونًا وآذانًا تلتقط ما يمرّ أمامها، أصابع تضغط على أزرار تلتقط مشاعرنا وأفكارنا التي لا يعرفها من يقيم معنا في المسكن نفسه. قريبًا تختفي أعضاؤنا الأخرى، تلك التي لا نستعملها، تتقوّس ظهورنا، نعود بشرًا أوّلين مقيمين في مغاور، نرسم على الحيطان، وننتظر أن نعود قرودًا تحلم في أن تنتصب ظهورها وتقف وتمشي وتصير بشرًا يتواصلون.