ارتبط وباء الشلل بالأطفال، أمّا الكورونا فهدفه المتقدّمون في العمر. لذلك بدا لي
الأمر مزحة سمجة تلقيها الطبيعة على مسمعي وهي تحذّرني: نجوتِ من الموت طفلة،
فانتبهي كي لا يقضي عليك هذا الوباء، فأنت لم تعودي صغيرة.
في
الواقع لم تعن لي شيئًا مسألة العمر التي عالجتها بأسلوبي الخاصّ: فالشلل حرمني من
عشرين سنة، كنت فيها أسيرة البيت أو المستشفى، وهذه ليست مسؤوليّتي، فأنا الآن إذًا في
الأربعين من العمر!!! قد يبدو الأمر لبعضكم طرفة مضحكة، لكن حياتي بدأت فعلًا في
العشرين، حين تحرّرت من انتظار مواعيد الأطباء والعمليّات الجراحيّة والمشي بأقل
نسبة من العَرج. لكنّ التحرّر الأهمّ – كما أقنعت نفسي في تلك المرحلة – هو
التحرّر من الألم. فأنا قد نلت حصّتي منه وليس من العدل في شيء أن أتعرّض لألم آخر
ولو بسيطًا.
أعرف
الآن، وبالتأكيد عرفت دومًا، أنّ الأمر لن يكون بمثل هذه البساطة... ولكن هذا
موضوع آخر، فلنبق في مسألة العمر الذي صودف أنّ شكلي لا يفضحه، فكنت أبدو دائمًا
أصغر سنًّا ممّا أنا عليه.
ففي
الأعوام التي أمضيتها في السرير، كان الوقت طويلًا بطبيعة الحال، وعهدذاك كان
الترفيه الوحيد، بالنسبة إليّ هو المطالعة وتلفزيون لبنان (تابعت عبره في العاشرة
من عمري تفاصيل مأتم جمال عبد الناصر)، وإذاعتا لبنان ومونت كارلو... فضلًا
عن استقبال الضيوف العُوّاد وكلّهم من عمر والديّ. في بداية الإصابة وكان عمري سنة
وثلاثة أشهر أبعد الأهل أطفالهم عنّي خشية العدوى، ثمّ صار أترابي يبتعدون شيئًا
فشيئًا كي يلعبوا أو يذهبوا إلى المدرسة. ما يعني أنّ مجتمعي صار محصورًا بمن هم
أكبر منّي، إن عبر التلفزيون والراديو (برامج الأطفال لم تستهوني يومًا)، أو عبر
الضيوف. حتّى الكتب التي قرأتها كانت ممّا يتوفّر في مكتبة خالي ميلاد حين أقيم
عند بيت جدّي في عاليه، خصوصًا في الصيف. وهي طبعًا ليست كتبًا للأولاد.
نستنتج
إذًا أنّني عشت طيلة عشرين سنة متألّمة وأسيرة وأقرأ كتبًا للكبار، فضلًا عن أنّني
كبيرة إخوتي، ما تطلّب منّي ولو عن غير قصد من الأهل أن أكون مسؤولة وقدوة، ما
جعلني أكره المثل الذي كانت تردّده أمّي: الوِعي الكبير بيساع الزغير. فكتبت
لاحقًا: الوعاء الكبير، فارغًا فقط، يتّسع للوعاء الصغير...
وأنا
كنت ممتلئة ببياض المستشفيات، ورائحة المعقّمات، وأنين المرضى، وصار من الملحّ أن
أكتشف الألوان... لكن الحرب التي كانت بالمرصاد وتدخّلت في مسيرة حياتي وأنا في
الخامسة عشرة، نقلتني إلى رماد الدخان وأحمر الدم وسواد الحِداد، فكيف أبدأ حياتي
من جديد وآخر عمليّة جراحيّة خضعت لها جعلتني على تماس مع الجنون، ما جعلني أكتب
لاحقًا:
"أذكر في كثير من الأسى
تلك الشابّة التي وضعوها في غرفتي في المستشفى لأنّها كانت مصابة بنزيف. كنت صغيرة
وخاضعة لعمليّة جراحيّة في رجلي تمنعني عن الحركة. وفي أوائل الليل، انفجرت أصوات
القصف في مكان ما من بيروت، فتوتّرت أعصاب المريضة وخرجت عن إطار السيطرة. علمت
فيما بعد أنّ المرأة كانت في مركز للأمراض العقليّة، وأتوا بها إلى هذه المستشفى
لعلاج نزيفها. ولم يكن من المسموح أن يضعوها مع أحد.
في ذلك الوقت كانت الحرب تسمح بمخالفات كثيرة فهل سيهتمّ أحد بمجنونة
موضوعة في غرفة واحدة مع طفلة.
أذكر المشهد كما لو أن الأمر حدث اليوم: كيف كانت تحضن المخدّة على
اعتبار أنّها ابن أخيها الذي كانت تحبّه على ما يبدو بشكل مميّز، وتغنّي للمخدّة،
وتقفز بها من زاوية إلى زاوية هربًا من قصف موجود في تلك اللحظة في رأسها فقط، إلى
أن اختبأت تحت السرير وهي تصرخ.
ثمّ أخذت تقترب منّي لتخبّئني تحت الغطاء كي لا يطالني القصف.
لم تنفع محاولات الأطباء والممرضات في تهدئتها رغم الأدوية التي
أعطيت لها والحقن. ولما لم يكن هناك مجال لوضعها في غرفة أخرى بقي طبيب وممرّضة
طيلة الليل حاجزين بيني وبينها.
لا أذكر أنّني كنت خائفة منها، بقدر ما كنت أراقب ما يجري وأحاول أن
أفهم. كان الدم النازف منها يملأ المكان ويلوّث ملابسها وفراشها وغطاءها ولم يكن
من مجال لترتيب وضعها وتصحيحه قبل أن تهدأ. وكانت عيناي المفتوحتان ترصدان كلّ
حركة وكلّ كلمة وكلّ نقطة دم. وساعدني الضوء الذي أبقوه مشتعلاً على تثبيت نظري
عليها وملاحقتها في رقصة رعبها الطويلة والمرهقة.
في ساعات الفجر الأولى، غرقت المرأة النازفة في نوم عميق بعدما أعطى
خليط الأدوية مفعوله أو بعدما تعبت. لا أدري. ولكن حين تمّ نقلها على سرير متحرّك
إلى سيّارة إسعاف لإعادتها إلى المصحّ العقليّ كانت المرأة لا تزال نائمة. أهلها
الذين أتوا لمرافقتها اعتذروا من أهلي عن ليلتي الصعبة كما وصفوها. وقالوا إنّ
الحرب هي التي فعلت ذلك بها، وأنّها فعلًا متعلّقة بابن أخيها الطفل وتخاف عليه.
أعتقد أنّ ارتباط الجنون بالحرب وثيق، فالجنون يولّد الحرب والحرب
تنتج الجنون. حلقة مفرغة يدور فيها الإنسان. ولهذا سيبقى العقل البشريّ بالنسبة
إليّ أمام علامات استفهام وعلامات تعجّب لا نهاية لها".
حين
أستعيد كلّ ذلك وأنا أكتبه، أتأكّد أنّ مشكلتي لم تكن في رِجلي، بل في ذاكرتي التي
تحتفظ بالصور والروائح، في مراقبتي ما يجري وحفظ ما يُقال، في رغبتي الجارفة في
معرفة الأسباب وتحليل النتائج... هل كنت سأكون هكذا لولا الشلل؟ لا أعرف. لكنّي
أعرف أنّ الشلل أعطاني الكثير من الوقت للتأمّل والتفكير والقراءة... ثمّ الكتابة
التي جعلتها حيلتي وحبل خلاصي من الأسر. فحين كتبت روايتي الأولى وأنا في
الرابعة عشرة من عمري، بل اشترطت على شقيقتيّ وقريباتي (الصبيان لن يتركوا اللعب
من أجل رواية حبّ) أن يأتين لأقرأها لهنّ... وهذا ما حصل. فهل الشلل هو ما
جعلني أكتب لجذب شِلل الأولاد، وهل كنت لولاه سأكتب... لا أعرف، لكن، لولاه لكنت
أردت أن أكون ممثّلة مسرح...
ليت العالمَ مسرح كبير
جميل، هو حلبة صراع بلا قوانين أو ضوابط، هكذا كان وهكذا سيبقى... وكلّ ما فعله فيروس كورونا أنّه فضح الأمر أمام من كان يتجاهله!
(يتبع جزء ثالث وأخير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق