Moi civiliser vous!
نحن نعلّمكم الحضارة، هكذا كان الجنود السنغاليّون في مرحلة
الانتداب الفرنسيّ يقولون للبنانيّين. وأكاد أجزم أنّ الجنرال غورو في الأوّل من
أيلول من العام 1920 همس في أذن البطريرك الحويّك، في احتفال إعلان دولة لبنان
الكبير: بدكن ميّة سنة وما بتصيروا دولة. ولم يجب البطريرك مستنكرًا مستهجنًا،
ربّما لأنّه كان يعرف أنّ الرهان كبير وأنّ اللبنانيّين لن يصيروا شعبًا واحدًا
بموجب قرار.
يوم أمس، يوم عيد الربّ، وبعد مئة سنة على إعلان لبنان الكبير،
أكاد أجزم كذلك أنّ الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون قال للطقم السياسيّ عنّا:
ربّكم ع ربّ يللي حطّكن مسؤولين.... وسأل للبنانيّين الذين عانقوه وعانقهم: مش
إنتو انتخبتوا هيدا الطقم؟ وقال للصحافيّين الذين سوّدوا وجه المدارس
الفرنكوفونيّة:
Moi civiliser vous!
***
الزعماء والسياسيّون نعرفهم، نعرف ماذا يريدون: السرقة والسرقة
والسرقة. لكنّ الشعب هل يعرف ماذا يريد. فلنرَ وعدّوا معي: كان في ناس بدن مصر عهد
عبد الناصر، فصار اسم جمال أكثر الأسماء انتشارًا، ثمّ توزّع هذا الشعب العظيم بين
من يريد سوريا، والعراق والسعوديّة، وليبيا، وفلسطين، وإيران، وتركيا، وقطر،
والصين، وكوبا، وأميركا، وفرنسا، وروسيا... هل نسيت بلدًا؟ اليافطات جاهزة،
والأرزّ ينتظر لينثر على الجنود الغرباء، والناس يجيدون أكثر من لغة، وفي أمسّ
الحاجة إلى الحنان... إلى من يحضنهم ويداوي جراحهم التي تسبّبوا بها لأنفسهم حين
شطّبوا أيديهم وأفخاذهم من دون أن يتجرّأوا على شطب اسم زعيم تتوارثه العائلة أبًا
عن جد. وعن جد ما في أهون من البكي والحكي وردّات الفعل، ولكن بلا فعل.
ثمّة البارحة من طالب بعودة الانتداب، ورأى الخلاص آتيًا من قلب
غمامة نوويّة، فقال هؤلاء: إيمانويل معنا اي الله معنا (عمانوئيل اسم من أسماء
المسيح)، جاء يوم ظهور الربّ وإذا صوت من الغمام يقول: "هذا هو ابني الحبيب
الذي عنه رضيت، فله اسمعوا."
وكانت دموع فرح بعد دموع الحزن، وأشرق الأمل في الوجوه التي
شحبت مع رؤية الجثامين المحمولة والبيوت المهدّمة والمدينة المنكوبة المدمّرة.
"الله
معنا" في مقابل "الحزب الناطق باسم لله"، فمن سينتصر والله بريء من
كلّ هذا الدم المراق.
البارحة بدا لبنان بلا رأس على الرغم من وجود رئاسات ثلاث
(لعلّنا البلد الوحيد الذي يؤمن بمثل هذا الثالوث)، ولكن ما هو أخطر أنّ لبنان بدا
بلا شعب أو هويّة أو ثقافة أو قدرة على الإصغاء والحوار، بدا شعبًا زحفطونيًّا
(الكلمة لسعيد تقي الدين لوصف من يزحف على بطنه)، يجيد اللغات لكنّه لا يقرأ
تغيّرات السياسة والظروف والاقتصاد والانتخابات والصراعات الإقليميّة، ويؤمن
إيمانًا ثابتًا بأنّ الله ما عندو شغل غيرنا، وأنّ الدول الكبرى تعمل من أجل
"سود عيونا"، وأنّنا مهما غرقنا في الفساد أو حلّقنا صوب فاريا وسائر
المنتجعات، أو اشترينا عقارات في أوروبا وأميركا، فإنّ ذنوبنا مغفورة لأنّ لبنان
بحسب أكثر المسيحيّين بلد الرسالة (ولو ملغومة) وأرضنا وقف لله، وعند أكثر المسلمين
السنّة هو بلد عربيّ لن يتخلّى عنه إخوته الكبار، وعند أكثر الشيعة هو بلد أشرف
الناس وأقدس مقاومة، وعند أكثر الدروز هو الجبل الحصين المحصّن الذي لا تقوى عليه
رياح التغيّرات.
وفي النتيجة، بيوت مدمّرة، شباب مهاجر، لقمة عيش مغمّسة بالدم،
نعوش بيضاء، فساد وتلوّث، رؤساء عجزة عاجزون، مواطنون أطفال بلا وطن... ومبادرات
فرديّة رائعة تبرعم بين الصواريخ والألغام، وأكثريّة تلتفت مرّة صوب الشرق ومرّة
صوب الغرب، ولا تلتفت إلى لبنان.
مئة سنة كانت نتيجتها مئات ومئات ومئات من الشهداء والمخطوفين
والمفقودين والمعوّقين والمهجّرين والمهاجرين والفقراء والمرضى بسبب الفساد
والتلوّث...وثروات لا تحصى لزعماء لا يشبعون.
مئة سنة، بدا فيها الفرح والمسرح والفنّ والأدب لمحات واعدة
بالضوء كالمفرقعات الناريّة التي اتّهموها بالانفجار... ثمّ كان الفشل في التربية
والتعليم والدين والسياسة والعسكر...
وفي انتظار أوّل أيلول المقبل، ليتنا نتّفق على اسم الدولة التي
نريد منها أن تستعمرنا، ما دمنا نعشق سنوات الاحتلال والاستعمار والانتداب ولا
نطيق لحظة ثورة حقيقيّة.
نصوص ومقالات نشر أكثرها في الصحف والمجلاّت اللبنانيّة والعربيّة بعضها باسم مستعار هو مي م الريحاني
السبت، 8 أغسطس 2020
Moi civiliser vous!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
-
فرانكو كاسباري وماريّا أنطونيلاّ باولا بيتي مارينا كوفا كاتيوشيا ميشيلاّ روك بعدما تقدّم بها العمر فرانكو داني ...
-
من رسومات علي فرزات كنّا، صغارًا، نستمع إلى جدّاتنا وهن يردّدن على مسامعنا أغنية تترافق معانيها مع عدد أصابعنا الخمس البريئة وأجزاء ...
مشاركة مميزة
فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993
فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...
من أنا
- ماري القصيفي
- الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
- صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق