تقي
الدّين، يوسف سلامة، الياس خوري
الإعدام يتزامن
لا يفارق الحرب
في روايتين وقصّة قصيرة، يعالج ثلاثة أدباء موضوع
الإعدام، وهو موضوع كان، ولا يزال جدلاً بين معارض لا يرى الإعدام عقابًا رادعًا،
وموافق يعتبر إن لا شيء يخيف المجرمين كرؤية أعمدة المشانق منصوبة.
هذه المعالجات القصصيّة الّتي صدرت بين 1944 و 1994 ، تعاملت
مع الإعدام من وجهات نظر مختلفة وبأساليب متنوّعة، ولكنّها أجمعت كلّها على إنّ
أحكام الإعدام تترافق دائمًا مع قسوة وظلم جائرين، تتحوّل معهما العدالة إلى وهم
سراب ـ العدالة كرتون: مسرحيّة "لولو" ـ ويصير حبل المشنقة علامة
استفهام بعد سؤال عن قيمة الإنسان ـ والعدالة نايمة بين النّايمين: مسرحيّة "الشّخص".
وفي هذه القصص الثّلاث، نلاحظ كيف تترافق أحكام الإعدام
مع تعطّل العلاقات الإنسانيّة وتشّوه صورة المجتمع وانهيار القيم، كسبب أو نتيجة.
وفي الحالتين، لا يبدو حكم الإعدام منفصلاً عن المجتمع ورموزه بل هو محطّة مفصليّة
في حياة الفرد ـ وإن ظهرت براءته ـ وفي مسيرة الجماعة.
في قصّة قصيرة بعنوان "الإعدام"، من مجموعة
قصصيّة تحت العنوان نفسه، يعالج خليل تقي الدّين الموضوع من وجهة المشاهد الّذي
كان يجد لذّة، منذ صغره، في حضور حفلات "تزهق فيها روح إنسان"، فينتظر
صدور الأحكام ويهرع لمتابعة وقائع تنفيذها ومراقبة أحداثها. مستمتعًا بما تتركه في
نفسه، من مشاعر. يميّز قصّة هذا المشاهد المدمن إنّه أوّلاً لم يتعامل مع الإعدام
كعقاب قد يكون ظالمًا أو لا إنسانيّاً، بل كوسيلة للمواجهة مع الموت تحمل الكثير
من الفنّ والتّحدّي والتّنوّع في الانفعالات، فيشبّه "جسد المشنوق في
ارتعاشته الأخيرة بارتعاشة الجسد وهو يلقي بذور الحياة".
ثانيًا، هذا المشاهد كان ضحيّة ـ ربّما ككثيرين ممّن
يساقون إلى حبل المشنقة ـ ولكنّه كان ضحيّة مرّتين، مرّة حين جذبته المشنقة ورأى
نفسه أسعد النّاس إذ كان قريبًا منها لا يحجبها عنه شيء، وينصرف بعد ذلك إلى فطور
شهيّ. والمرّة الثّانية حين أعدم بالرّصاص وهو الّذي كان يعتبر حبل المشنقة أجمل
أساليب الإعدام.
وكما بحث النّظام عن ضحيّة يحمّلها ذنوب الحرب في قصّة
خليل تقي الدّين، بحث هذا النّظام نفسه عمّن يكون الدّرس والعبرة، فكان ابراهيم
طرّاف المعلّق في حديقة الصّنائع.
وإذا كان المشنوق في قصّة "الإعدام" لا اسم له
ولا وجه، رغبة الكاتب، ربّما، في إفهامنا إنّ إمكان وجودنا مكان الضّحيّة محتمل في
أيّ لحظة، فإنّ المشنوق في رواية يوسف سلامة الوثائقيّة "جريمة في
البيت" هو شخص حقيقي، حوكم وأعدم. وبعد ذلك، بدأت الشّكوك تحوم حول المحاكمة
الّتي جرت. وحول صحّة الاتّهام.
وفي أوّل قائمة المتسائلين، المدّعي العام في تلك
القضيّة منيف حمدان الّذي يقود الآن حملة ضدّ عقوبة الإعدام، وكان طلب هذه العقوبة
لابراهيم طرّاف ("النّهار"، في ندوة حول الموضوع، 27 حزيران 1994).
تقول فاطمة شقيقة ابراهيم طرّاف: "إنّ أخاها لم
يعدم، ولم يشنق، لأنّه لم يكم على رقبته أي أثر أو علامة لحبل المشنقة، تقول إنّهم
أتوا به ليشنقوه، لكنّه مات من القهر قبل الإعدام". ويتابع يوسف سلامة نقلاً
عن شقيقة ابراهيم طرّاف: "أخذ الطّبيب نبضه قبل رفعه إلى المنصّة وأعلنه
ميتًا. لكن المسؤول عن قوى الأمن قال: "على كلّ حال، اشنقوه"".
أهو حدس الرّوائي الّذي رأى قبل أربعين عامًا من إعدام
ابراهيم طرّاف كيف يموت المحكوم قبل وصوله إلى منصّة الإعدام. أم هي النّتيجة
المتوقّعة بعد عمليّات التّعذيب والقهر؟
ففي قصّة "الإعدام" أيضًا يموت المحكوم عليه
قبل أن يربط إلى عمود قصير، وقبل أن يطلق عليه النّار اثنا عشر جنديًّا، "في
تلك اللّحظة، تقدّم جنديّ ليعصب عينيه فرآهما مطبقتين. ورأى رأسه مسترخيًا، وبدا
المحكوم كأنّه لم يفق بعد من النّوم، فارتعش الجنديّ ارتعاشة لم تدم إلاّ جزءًا من
لحظة وأدرك كلّ شيء، على أنّه أتمّ عمله في سرعة وفكّر: ستطلق عليه النّار بعد
ثانية، وهذا ينهي كلّ شيء". "جريمة في البيت"، وقصّة إعدام المتّهم
الوحيد فيها رواهما يوسف سلامة بأسلوب المؤرّخ المحايد الّذي يجمع الوثائق ويدرسها
ويعرضها على ذوي الاختصاص من رجال قانون وأطبّاء وخبراء. ولعلّ هذه النّاحية
العلميّة الطّاغية على الرّواية جعلت الكتاب يطرح موضوع العدالة بقوّة، فالمحكوم
هنا ليس شخصيّة وهميّة، هو شاب صرخ عند اقتراب تنفيذ الحكم: "يا أمّي، وينك
أنا بريء".
أمّا رواية "مجمع الأسرار" لالياس خوري فتحكي
عمّا يجري قبل الإعدام من وجهة محكوم بريء. تحكي عن الدّاخل، عن التّعذيب، عن
الصّدفة الّتي أنقذت من صار ضحيّة وإن لم يعلّق على حبل المشنقة. وإذا كان البعض
يتردّد بين تجريم ابراهيم طرّاف وتبرئته، فإنّ بطل "مجمع الأسرار" بريء
من تهمة القتل.
حنّا السّلمان متّهم ـ كما ابراهيم طرّاف ـ بالقتل
وتقطيع الجثث.
حنّا السّلمان صار لقبه "المالح" لأنّهم جعلوه
يأكل الملح ويشرب الماء حتّى انتفخ كالبالون، وتشقّق جلده، وامتلأ جسمه بقشور
بيضاء تتساقط على الأرض كلّما تحرك.
والنّاس صدّقوا إنّ حنّا السّلمان المالح هو القاتل،
الشّهود أشاروا إليه، الصّحافة طلبت إعدامه. الكاهن اتّهمه بالكذب حين اعترف إنّه
بريء، والعائلة تخلّت عنه.
المرأة، نورما، هي الوحيدة الّتي جاءت إلى الحبس، لا
لأنّها آمنت ببرائته بل لأنّها كانت تريد أن تفهم لماذا ارتكب حنّا هذه الجرائم،
"كانت نورما هكذا، تحبّ أن تفهم".
العدالة غائبة في "مجمع الأسرار"، غائبة عن
علاقات النّاس بعضهم ببعضهم مذ انقادوا خلف غرائزهم، يحكمون على أنفسهم قبل أن
يحكم عليهم أحد، ويحكمون على الواحد منهم قبل أن تحاكمه السّلطة، والسّلطة تبحث عن
كبش المحرقة، أيًّا يكن.
المرأة، ذات الدّور الإيجابي، غائبة عن قصص الإعدام هذه.
وكأنّ العدالة حين تغيب، يغيب معها كلّ ما هو جميل وحسن، حتّى الحبّ ينتهي، بطريقة
أو بأخرى، بالتّضحية، بالموت الظّالم العنيف، بالقتل والإعدام.
في قصّة "الإعدام" امرأتان وعلاقتان.
المرأة الأولى هي الحبيبة الأولى الّتي كانت تلاقي
حبيبها في بستان قرب منزلها. هذه اللّقاءات اللّيليّة قادت بطل القصّة إلى السّجن،
حين قبضت الشّرطة عليه مشتبهة بأنّه أحد المطلوبين للعدالة. هذه الفضيحة جعلت والد
الفتاة يصبّ غضبه على ابنته ويزوّجها بمثر عاد من المكسيك، يبحث عن عروس يأخذها
معه إلى تلك البلاد.
المرأة الثّانية، المرأة المرغوبة المشتهاة، أجنبيّة
تعمل في ملهى ليليّ. قادته العلاقة بها إلى الإعدام بتهمة التّجسّس حين وجدت
منتحرة في غرفتها.
لا الفتاة البريئة أنقذته ولا "الأرتيست
السّمراء" أنقذته. والمرأة الوحيدة الّتي أرادت إعطاءه الحياة، أمّه، دفعت
حياتها ثمنًا، وكان قدر المرأة أن تكون الضّحيّة حتّى لا تكون الوسيلة للإيقاع
بالضّحايا.
ومن خلال رواية "جريمة في البيت" لا نجد أثرًا
للحبّ في حياة ابراهيم طرّاف. كلّ ما نعرفه علاقات جنسيّة عابرة، كما قال في المحكمة، حتّى إنّ الجريمة الّتي أدين
بارتكابها ارتبطت بعنصر الجنس بعد إشارة، لم تأخذ حقّها في التّحقيق، عن علاقة
محتملة بين المتّهم والضّحيّة ماتيلد باحوط، الأكبر منه سنًّا.
وفي هذه القصّة أيضًا، نلاحظ زواجًا غير متكافئ بين والدي
ابراهيم طرّاف، وكانت أمّه في الرّابعة عشرة من عمرها حين تزوّجت. كان والده في
الثّمانين من عمره ـ أمّا شقيقته فاطمة فهي مثال المرأة العاجزة عن اتّخاذ موقف من
المجريات.
ورواية "مجمع الأسرار" رواية النّساء
الفاشلات. والمرأة الفاشلة بامتياز هي نورما، نورما العانس الّتي فشلت في إيجاد
الحبّ، وفشلت في جعل ابراهيم نصّار زوجًا لها، وفشلت في فهم علاقتها بحنّا
السّلمان، وتسبّبت بجريمة قتل عندما زارت حنّا في السّجن.
وفي الرّواية، نجد المرأة العاهرة، المعلنة والمستترة،
(المرأتان القتيلتان، مادلين السّاعات، إيفا...) والخائنة الّتي تتخلّى عن زوجها
في أقسى ما يواجه (زوجة حنّا)، والمضطربة عقليًّا وعاطفيًّا كجوليا والدة إيفا
وسارة عمّة ابراهيم نصّار. وقد تكون المرأة صامتة ومستسلمة لقدرها بقبول غريب كأمّ
عيسى العمياء ونبيهة الّتي عاشت مع زوجها كالغريبة.
في قصص الإعدام، تغيب المواقف الإنسانيّة. فلا كلمة حبّ
ولا لمسة حنان. لا طهر ولا براءة، لا بطولة ولا قداسة. هناك مجتمع يصرخ:
"أريد رحمة لا ذبيحة"، ومع ذلك تتلاحق أسماء الضّحايا، نساء ورجالاً.
"المتصرّف ما بيحبّ العدل، الرّحمة أحلى"
(مسرحيّة "الشّخص"). ومع ذلك، لا رحمة ولا عدالة.
ألهذا، ربّما، تزامن الإعدام الأوّل في قصّة خليل تقي
الدّين مع إعلان الحرب، وتمّ إعدام ابراهيم طرّاف خلال الحرب، وانتهت رواية
"مجمع الأسرار" بالفراغ والحرب والجنون؟
ميّ م. الرّيحاني
(الاسم المستعار لماري القصّيفي)
جريدة "النّهار" الثّلثاء 23 آب 1994