الرجل الكرسي
تفضح اللغة المتكلّمين بها. لذلك لم نعد نستعمل كلمة رجالات، ولا كلمة أيّام، بل صارت المصطلحات أرقامًا تشير إلى أحزاب وتيّارات، وتواريخ تؤكّد أن لا تاريخ متّفقًا عليه. وخلوّ اللغة من معاني البطولات وامتلاؤها بكلمات التضحية والشهادة يعني أنّنا صرنا نحتفل بالموت أكثر من احتفالنا بالحياة، وأنّ رهاننا على الذين رحلوا أقوى من ثقتنا بالذين بقوا. ومع ذلك لم نتفق عليهم، ووزّعنا أوراق الروزنامة على عدد الشهداء، كي لا يعتب أحد، ووزّعنا الأدوار كي تتاح الفرصة للخطباء كلّهم للكلام، ووزّعنا الساحات كي يجد الجميع أماكن لهم، ووزّعنا الأعلام كي يبدو المشهد مؤثّرًا، ووزّعنا المظلاّت في حال أمطرت السماء، ووزّعنا الملصقات على السيّارات والأزرار على الصدور، ووزّعنا رجال الأمن، والكاميرات، والصحافيّين، والباصات على القرى والبلدات، والأموال على الأتباع، فهل يصعب علينا بعد ذلك أن نوزّع البلد حصصًا ومقاعد نيابية على قياس المصالح لا على قياس الوطن.
لم نكن نستعمل كلمة "رجالات" إلاّ لربطها بالوطن.
ومنذ صار الوطن ورقة خريف في مهبّ الرياح، غابت الكلمة من قاموسنا وحلّت مكانها
مفردات كثيرة لا توحي بالأمان: زعماء، شهداء موتى وشهداء أحياء، قادة أحزاب،
رؤساء، شيوخ، بكاوات، رفاق، أساتذة، جنرالات.
حين كنّا على مقاعد الدراسة، كان كتاب التاريخ مسرحًا لرجالات
الوطن والاستقلال وسجلاًّ لأساطير وحكايات عن البطولة والحروف الأبجديّة ولون
الأرجوان ومرور الفاتحين ورموز الآثار والكتابات، ولم يكن يعنينا أن نطرح علامات
استفهام عن حقائق الأمور وخلفيّاتها السياسيّة والإقليميّة والدوليّة، كنّا نريد
وطنًا فوجدناه بين دفّتي كتاب وفي قوافي القصائد، واكتفينا. ربّما لأنّ الذين
علّمونا كانوا كذلك مؤمنين بما في الكتب، أو ربّما لأنّهم كانوا يخشون مثلنا أن
يطرحوا الأسئلة المحرجة، فكنّا ندخل كلّنا، معلّمين ومتعلّمين، إلى كتاب التاريخ
ونعود محمّلين أمجادًا وانتصارات حقّقها رجالات الوطن.
لم يكن هناك شهداء أفراد على ما أذكر، أو على الأقلّ لم يكونوا
بالأعداد التي نتباهى بها اليوم، كانت المدن بكاملها تغلق على نفسها الأبواب
وتحترق بكلّ من فيها كي لا تقع في أيدي الأعداء المحاصرين أسوارها. أمّا الآن، ففي
كلّ يوم شهيد، والأيّام عند العرب هي المعارك، ونحن نتعارك بسبب الأيّام، ولا أحد
يريد أن يتعلّم أنّ ثمّة يومًا لك ويومًا عليك، ولا يدوم ملك إلاّ لصاحب الملك.
تفضح اللغة المتكلّمين بها. لذلك لم نعد نستعمل كلمة رجالات، ولا كلمة أيّام، بل صارت المصطلحات أرقامًا تشير إلى أحزاب وتيّارات، وتواريخ تؤكّد أن لا تاريخ متّفقًا عليه. وخلوّ اللغة من معاني البطولات وامتلاؤها بكلمات التضحية والشهادة يعني أنّنا صرنا نحتفل بالموت أكثر من احتفالنا بالحياة، وأنّ رهاننا على الذين رحلوا أقوى من ثقتنا بالذين بقوا. ومع ذلك لم نتفق عليهم، ووزّعنا أوراق الروزنامة على عدد الشهداء، كي لا يعتب أحد، ووزّعنا الأدوار كي تتاح الفرصة للخطباء كلّهم للكلام، ووزّعنا الساحات كي يجد الجميع أماكن لهم، ووزّعنا الأعلام كي يبدو المشهد مؤثّرًا، ووزّعنا المظلاّت في حال أمطرت السماء، ووزّعنا الملصقات على السيّارات والأزرار على الصدور، ووزّعنا رجال الأمن، والكاميرات، والصحافيّين، والباصات على القرى والبلدات، والأموال على الأتباع، فهل يصعب علينا بعد ذلك أن نوزّع البلد حصصًا ومقاعد نيابية على قياس المصالح لا على قياس الوطن.
هل نجرؤ اليوم على الحلم برجال لمستقبل آت، فتنضم الألف والتاء
علامتا التأنيث إلى رجولة السياسة ليعود لنا وطن لا تختصره كتب التاريخ ولا يخشى
الأسئلة عن انتمائه لأنّه لن ينتمي إلاّ إلى نفسه من دون انعزال ولا تبعيّة؟
هناك تعليقان (2):
أعذب ما في الأمر هو تأنيث مفردة (رجال) للدلالة على صدق الرجولة ــــ مفارقة. بس بالمشبرح اللبناني: موضوعك بيعقد
حلو منّك الحكي باللبنانيّ وخصوصًا كلمة مشبرح، لبنانيّة من جرد مارون عبّود
إرسال تعليق