بيكاسو
هل يمكننا أن نضع هذا التسابق المحموم للكتابة عن الجسد ضمن سياق بحثنا عن وطن بديل بعدما ضاعت الأوطان وتحطّمت صور مجدها وعزّتها وبعدما صار تاريخها أطلالاً تدعو إلى التهكّم لا البكاء، وحاضرها هويّة ضائعة، ومستقبلها حفرة لنفايات الشعوب؟ في القصائد العربيّة الأولى التي وصلتنا، ومن فراغ الصحراء ومحدوديّة آفاقها، كان الجسد وطنًا قوميًّا يقيم فيه المرء وضمن حدوده يستقرّ ومنه ينطلق في غزوات تبحث عن بقاء هذا الجسد ومتعته: في الطعام والشراب والجنس والقتال. ويوم احتكّ العرب بحضارات العالم، عبر الجوار والترجمة، اكتشفوا جسد الأرض وقوام الدولة وانتقلت أنظارهم من تأمّل جسد الجارة قبل أن يختفي خلف الخباء إلى اختبار الفنون والعلوم والآداب والفلسفة، فكان بناء المدن والقصور وترجمة كتب الفكر والعلم، وتحوّل الجسد جزءًا من تركيبة كاملة، وتفصيلاً في جداريّة كبيرة، وقطعة من أحجية العالم الكبير.
وإذا رأينا إلى الأدب اللبنانيّ تحديدًا، بشقّيه العامّي والفصيح، نقع على تكامل شبه تام بين وجوه الحياة، ما يظهر أنّ اللبنانيّ كان يسعى إلى إقامة توازن بين مختلف جوانب الحياة، ومحاولة الإجابة على تساؤلات تقلق الوجدان والفكر. فلو أخذنا على سبيل المثال حفلات الزجل التي تعكس المزاج الشعبيّ العام، لوجدنا فيها موضوعات تطال مختلف شؤون الحياة وشجونها. فالمحاورات الزجليّة تسعى لعرض وجهتي نظر، على الأقلّ، من موضوع واحد، وذلك عبر إعطاء الأمثلة والبراهين والحجج التي تدعم هذا الرأي أو ذاك. واستعادة تلك المحاورات تلقي الضوء على آلاف العناوين التي كانت تشكّل ساحة سجال بين شاعرين يطرحان في كلّ مرة موضوعات من مثل: الكرم والبخل، الهجرة والتمسّك بالبقاء، القرية والمدينة، الغنى والفقر، وسواها كثير مما لا يمكن حصره. وكان الغزل مسك ختام المحاورات المحتدمة، حيث يتّفق الشعراء على أنّه النهاية السعيدة والحلّ الأمثل لمشاكل الإنسان وهمومه الفكريّة.
وجاء تزامن تأسيس الدول العربيّة وضياع فلسطين ليوجّه الأنظار إلى جسد الأمّة الكبير المفتّت كيانات وفق تعبير أدبيّات تلك المرحلة، واكتمل ذلك بنشوء الأحزاب التي وجّهت الجماهير نحو الشأنين القوميّ والاجتماعيّ وأخرجتها من تفكيرها المحليّ الضيّق ووضعتها على تماس مع موضوعات عالميّة، علمًا أنّ ذلك كلّه كان قبل عصر العولمة ووسائل الاتصال المتطوّرة. وكان الحديث عن الجسد في تلك المرحلة جانبًا من مخطط عام يهدف إلى إعطاء المرأة حرّيتها لتساهم في النهضة، على اعتبار تحرير الجسد من قيوده المعنويّة والماديّة (الحجاب مثلاً) ليس غاية بل وسيلة لتحقيق غايات أبعد وأسمى توصل المرأة إلى المشاركة في الشأن العام.
اليوم، بعد تشويه الطبيعة اللبنانيّة وتغيّر معالمها، والانقلاب الحاصل في هويّة المجتمع، وغياب الحسّ النقديّ أمام طغيان الانفعال، وتفكّك الدولة دويلات طائفيّة ومذهبيّة، وفقدان الأمل في قيام مجتمع مدنيّ واع ومسؤول، وتداعيات الأزمات الاقتصاديّة، بعد كلّ ذلك، تقوقع الإنسان على نفسه، والتجأ إلى جسده الذي خاف عليه في الحرب وعشقه في السلم فصار هو وطنه الوحيد الذي يستحقّ الكتابة عنه. والمفارقة الكبرى هي أنّ علاقة اللبنانيّ (ويصحّ ذلك على كلّ عربيّ) مع جسده تذهب في ناحية من اثنتين: الإخفاء تحت براقع التراث والدين والمحرّم والممنوع والشرف، أو الكشف الفاضح بحجّة التحرّر والمصالحة مع الذات والآخر والتفلّت من القيود وإثبات الوجود. وفي الحالين خلل في بوصلة التفكير وإبحار من دون وجهة أو خريطة في بحر هائج.
يمكننا أن نحتفي طبعًا بكلّ إبداع يتعامل مع جسد الإنسان في حريّة ومعرفة، ولكن علينا أن نتذكّر دائمًا أن أجسادنا ستبقى عرضة للمرض والتعذيب والاغتصاب والقتل ما دام الوطن/الجسد الأكبر ملوّثًا وفوضويًا وفقيرًا ومفكّكًا وتائهًا في متاهات الصراعات والتحالفات. ولعلّه من المفيد أن ندرس حالات الجسد وتحوّلاته خارج سرير المتعة: في المعتقلات والمستشفيات والملاجئ ومراكز الإعاقة، لأنّنا بذلك قد ننطلق من فرديّة الإنسان، وثنائيّة العشق، إلى رحاب الوطن والإنسانيّة.
***
صحيفة النهار - الثلاثاء 18 آب 2009
هناك تعليق واحد:
أهل العقل في سرور
يا صاحب الخيمة العالية
يا من يمجدك الكاروبيم والساروفيم والنتونيم/المغنون
احفظ الريحانية عالمة اجتماع ، وعافها وباركها لنا نعمة أدبية، واجعلها من أهل المشريم. آمين
إرسال تعليق