الفنّان وليم نصّار |
الموسيقيّ الدكتور وليم نصّار المقاوم بالموسيقى حتّى آخر مظلوم في الأرض
لسواي من رفقاء وليم نصّار في الحزب
الشيوعيّ أن يتحدثوا عن تجربته الحزبيّة والسياسيّة؛ ولسواي من النقّاد
الموسيقيّين أن يكتبوا عن قيمة أعماله، وأن يدرسوها أكاديميًّا وعلميًّا؛ ولغيري
ممّن واكب مسيرته عن كثب أن يصفه كإنسان مقاوم، أمّا أنا فأكتب مقالة انطباعيّة
عن بعض أعماله الغنائيّة ما كنت أحسب أنّني، بعد فيروز، سأجد أغنيات (وليس كلّ ما أصدره
نصّار) لن أملّ من الاستماع إليها، لأكتشف كلّ مرّة أنّ في كلٍّ منها جديدًا لم
ألحظه سابقًا.
ما يجمع النتاج
الموسيقيّ لنصّار، في رأيي، التزامه الأكيد بقضيّة آمن بها فجعل صوته وموسيقاه
والكلمات التي وضعها أو كتبها سواه في خدمتها، وليس العكس، أي أنّ مشروعه الفنيّ
ليس فنيًّا بحتًا على الرغم من تخصّصه الأكاديميّ في الموسيقى، وخصوصًا الإتنية
منها. وهذا ما يميّزه عن عدد من الفنّانين الملتزمين الذين بدت القضيّة السياسيّة
في بعض أعمالهم وسيلة لا غاية. ما لفتني في بداياته، وكان لا يتجاوز الثامنة عشرة
من عمره، اهتمامه بالتوزيع الموسيقيّ، معطيًا لكلّ آلة حقّها في العمل، وهذا أمر
يحسب له إذ يعبّر عن إيمانه بالعمل الفريقيّ، وتوزيع الأدوار، لا بالنجوميّة
والأحاديّة. فنجده مثلًا في أغنية "مويل الهوى" التراثيّة الفلسطينيّة،
يبرز البيانو والناي والكمنجة والقانون في عزف منفرد يفرض نفسه وعازفه في عمل
يحترم التراث، ويؤمن بأنّ على الجماعة كلّها أن تكون في خدمة المبدأ والقضيّة.
والقضيّة التي يبدو
لكثيرين، عن غير وجه حقّ، أنّها محصورة بفلسطين هي بالنسبة إلى نصّار قضيّة الإنسان
والمجتمع بغضّ النظر عن الدين والوطن والعرق واللون، لذلك دافع عن لغة المسيح
الآراميّة، ودافع عن حقوق الأرمن والأكراد، وعن الأزيديات وسواها من القضايا التي
جعلته ناشطًا لافتًا وفاعلًا في مجال حقوق الإنسان في كندا (منفاه الاختياريّ)
والولايات المتحدة وأوروبا. ولم يتردّد في توجيه نقد لاذع وخطير للمنظّمات الفلسطينيّة
واليسار اللبنانيّ والفلسطينيّ حين اعتبر أنّهم تخلّوا عن القضيّة الأساس.
يحمل وليم نصّار شهادة الدكتوراه في العلوم
الموسيقيّة (إثنو- ميوزيكولوجي) ومارس مهنة تدريس الموسيقى في عدد من الجامعات والمعاهد
الموسيقيّة في أوروبا، الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ولا يزال، إلى جانب
نشاطه الموسيقيّ والغنائيّ. كما يحمل عضويّة عدد من الجمعيّات الموسيقيّة الدولية،
ويعتبر اليوم أحد أهم فنّاني أغنية الاحتجاج في الغرب الداعين إلى نبذ العنف ووقف
الحروب في الشرق الأوسط.
ثمّة محطّة أساس لا بدّ من التوقّف عندها قبل الإضاءة على ثلاث من أغنياته، هي الإصابة بالسرطان. ففي العام 2014 أصيب وليم نصار بسرطان الدم وسرطان الكبد، وخضع لعلاج قاس لمدة عام ونصف. ويخصّص الفنّان، كعربون وفاء للدعم المعنويّ الذي تلقّاه من الجمعية الكندية لمكافحة مرض السرطان، حفلتين في كلّ عام يعود ريعهما كاملًا لصالح الجمعيّة متبرّعًا والموسيقيين الذين يرافقونه ببدل أتعابهما، فضلًا عن كونه ناشطًا فاعلّا في مشاريعها وبرامجها. والإشارة إلى المرض هدفها لفت الانتباه إلى أمرين: أوّلهما أنّ المرض الذي يأبى أن يتركه لم يثنه عن العملين الفنيّ والاجتماعي/ السياسيّ، فكان يقيم الحفلات ويشارك في الاعتصامات ويخضع للتوقيف والتحقيق حتّى وهو في المستشفى، مع الإشارة إلى أنّه لا يزال يتابع العلاج حتّى الآن؛ وثانيها أنّه اختبر الألم الجسديّ بكلّ أنواعه (السرطان ومحاولة الاغتيال) فازداد رغبة في تحسين أوضاع الناس، رافضًا الحروب والظلم، داعيًا إلى الفرح والسلام، ما انعكس في أعماله الموسيقيّة ومقالاته.
على طريق عيتات
البداية مع الأغنية
الأشهر لوليم نصّار "على طريق عيتات"، هي الأغنية التي أطلقت اسمه ولونه
الفنيّ المميّز، وتعرّضت بعد انتشارها وبسبب شهرتها للقرصنة والسرقة في أكثر من
بلد وبصوت أكثر من مغنيّة ومغنّ. في تركيا أدخلوا اسم اردوغان، وفي سوريا استبدلوا
اسم عيتات بالقرداحة، وإحداهنّ استبدلت عيتات بعيتيت، وبدل "جمّول"
(جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة) وضعوا "علي" وأسماء أخرى، وسرقات
كثيرة غيرها، ما دفع بنصّار إلى رفع دعاوى قضائيّة تحفظ حقّه، وحقوق من وضعت
الأغنية من أجلهم.
صدرت الأغنية عام 1986
لتكريم الأسير أنور ياسين، صديق نصّار، ثمّ أعيد تسجيلها بتوزيع جديد عام 2015،
بعنوان "ترتيلة حمرا" من ألبوم "شو بتشبهي الرمّان". ثمّ أعاد
صاحبها نشرها بأسلوبين آخرين، جاز وأوبرا، ليكون مجموع أنواعها أربعة، كأنّ وليم
نصّار، كاتب كلماتها وملحّنها ومغنّيها، يجد فيها غنى موسيقيًّا قابلًا للتنويع
وإعادة التوزيع، أو كأنّي به يتمسّك بمرحلة المقاومة القادرة على التعبير عن نفسها
بأكثر من أسلوب ولغة ووسيلة، أو يذكّر نفسه بالبداية الثوريّة، رافضًا تغيير مبدأه
الأساس وهو العداء للكيان الصهيونيّ وما يمثّله، أو يؤكّد لمن يحاول إسكاته من
الداخل اللبنانيّ المتأسرل المتصهين أنّه باق على العهد.
ومع ذلك، لم يسلم وليم نصّار من حملة تكذيب وتشهير شنّها عليه بعض المنتمين إلى الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين (ربّما لأسباب شخصيّة كالغيرة والحقد)، لمشاركته في المهرجان الدوليّ للموسيقى الاثنيّة في كيبيك، وحاز فيه جائزة المهرجان الأولى فرفض تسلمها كي لا يصافح موسيقيّة صهيونيّة. وكأنْ لم يكفه أن يتعرّض لهذا الهجوم من بعض الفلسطينيّين الذين اعتبر نفسه واحدًا منهم، والذين تعهّدوا بالاعتذار بعد مشاهدة فيديو الحفل ولم يفعلوا، حتّى أتته الملامة من المجتمع الغربيّ الذي اتّهمه بمعاداة الساميّة نتيجة رفضه الجائزة، فارتفعت أصوات تطالب بسحب الجنسيّة منه.
بيروت
في 25 شباط من العام
1987، وبعد سبعة أشهر من إصدار أغنية "بيروت"، وبالقرب من ثكنة الحلو، مرّت سيّارة
بالقرب من وليم نصّار، وهو خارج من أحد المقاهي، فأصيب في يده وصدره. وفي اليوم
نفسه أحرق المعتدون بيته بعد نهبه، وصارت المكتبة الضخمة وألبومات صور العائلة
رمادًا. يروي نصّار في أحاديثه أنّه يعرف من أطلق عليه النار ولماذا. ومع ذلك لم يغادر
بيروت مباشرة بعد محاولة الاغتيال، بل بقي فيها لغاية سنة 1993، وحين أخذ قرار
الهجرة، فعل ذلك، بحسب تعبيره، "بسبب الحريرية واتفاقات أوسلو، واستفحال
الاستبداد المخابراتيّ السوريّ". فاختار المنفى الطوعيّ في كندا، وانضمّ إلى
أهله هناك، حيث تابع الدراسة، محاولًا أن يتابع الحياة متحديًّا الغربة والملاحقة
ومرض السرطان.
في أغنية "بيروت"، ثلاث
عبارات تلقي الضوء على لغة مختلفة متحديّة لم يكن هناك ما يماثلها في تلك الفترة:
سرقوا هدايا العيد وليلة الميلاد – الشعارات العتيقة – يا إمّي شيلي حجابك، وهي
بذلك تفضح مطلق النار الذي صادر عيد الميلاد، وبقي ملتصقًا بالشعارات العتيقة
واستفزّته عبارة نزع الحجاب. ولكنْ فيها بالنسبة إليّ شجن وحزن ورؤيا مستقبليّة
سوداوية على الرغم من الرهان على السنديانة الحمرا التي، بحسب الأغنية، تطمئن إلى
الغد ما دامت تكبر وتنمو، وعلى الرغم من "الفجر الطالع وغنيّة بكرا ويللي بيكفّوا
كتار". وما النفي الطوعيّ الذي اختاره نصّار سوى اعتراف بأنّ السنديانة
الحمرا لم تستطع أن تحميه من شمس حارقة بدأت تحوّل البلاد صحراء قاحلة في الطبيعة
والفكر والفنّ.
أمّا عن لحنها فأكاد أجزم بأنّ الحنان السائل منها بكلمتي بيي (بيي بتذكر شو قلتلي) وإمّي (ولو فيكي يا إمّي تمحي عن الحيطان) لا مثيل له في أي أغنية عاطفيّة أو وطنيّة أو سياسيّة. ولعلّ من يستمع إلى هذه الأغنية سيجد أنْ جرى تقليدها في كثير من الأصوات والأغنيات.
شو بتشبهي الرمّان
"شو بتشبهي الرمّان" أغنية عاطفيّة تعبّر
بالنسبة إليّ عن مشروع نصّار الموسيقيّ الذي يجب أن ينصرف إليه بعدما استنزفته
الأغنية السياسيّة، وإن كنت لا أحبّ لصق السياسة بأغنياته التي أعتبرها إنسانيّة/
اجتماعيّة. ففي كلمات "شو بتشبهي الرمّان" جرأة في التعبير عن الحبّ، لا
تبتعد عن الجرأة في الموقف الملتزم بالقضايا الكبرى، ليصير الحبّ هنا قضيّة كبيرة
كذلك، تستحقّ بدل الصوت صوتين، إذ استعمل نصّار صوته بأسلوبين يوحيان بأنّ ثمّة
شخصين يغنيان. لكأني به يعبّر عن حاله بجزء من صوته وعن الحبيبة بجزء آخر من الصوت
نفسه، لتحضر المرأة، بين الصوتين، بصدرها العامر، وعطر جلدها، وشفتيها المرتعشتين،
وريق فمها السكريّ الطعم، وجسمها القمحيّ ولون الخبا الغافي في حميم مواضعه. وقد
تكون هذه الأغنية، في رأيي، من أكثر الأغنيات اللبنانيّة/ العربيّة تصويرًا لمشهد
حسيّ حميم بلا كلمة نابية تجرح الجمال وتخدش العشق، برفقة موسيقى غنيّة تجعل
المستمع إليها يكتشف كلّ مرّة آلة جديدة لم يلحظ وجودها من قبل، كأنّ الأغنية
تتجدّد مع كل إعادة واستعادة.
وإذا كنت اعتبرت هذه
الأغنية جزءًا من العمل الثوريّ لنصّار، فلأنّني أرى المرأة حاضرة فيها بجسدها
وشهوتها، كما تحضر في العمل الحزبيّ والاجتماعيّ، لتكون شريكة الرجل في أيّ نشاط
أو واجب... أو متعة هي من أبسط حقوقها.
الموسيقيّ وليم نصّار مع المطران هيلاريون كبوجي |
نصّار ووجه الكنيسة الثائر
إنّ اختيار هذه
الأغنيات لا ينتقص طبعًا من قيمة غيرها، أو من قيمة المقطوعات الموسيقيّة التي
تحمل أسماء تجعلها جزءًا من رسالته الفنيّة الثوريّة. لكنّي، إذ أتمنّى على
الدكتور نصّار ألّا يكتفي بشهرته الكنديّة/ الأميركيّة/ الأوروبيّة، وأن يعمل على
تعريف الأجيال اللبنانيّة الجديدة به، وكثر لم يسمعوا باسمه كما لاحظت حين نشرت
بعض أغنياته على مواقع التواصل، أدعوه إلى مواجهة أعدائه بالموسيقى والمزيد من
الأغنيات. فهو، وإن كان ينشط على صعد كثيرة ومنها العمل الصحافيّ بنشره مجلّة "الكاتب
اليساريّ" التي تصدر بثلاث لغات، ويحارب المرض الذي أنهكه منذ شبابه وحاربه
كما حارب إسرائيل والتعصّب والجهل والحقد، مقصّر في إصدار ألبومات موسيقيّة هي
كلمته التي لن تسكتها رصاصة مكتومة الصوت، أو مرض مهما بلغ خبثه فلن يصل إلى خبث
من يدّعي محاربة إسرائيل، ثمّ يقتل من ينتصر عليها بالموسيقى والحضارة والعلم.
مقلّ وليم نصّار في
إطلالاته الإعلاميّة العربيّة واللبنانيّة، لكنّي ومن خلال مقابلتين له مع زاهي وهبي عبر
تلفزيون المستقبل وفاتن حموي عبر إذاعة صوت الشعب، وبحسب موقعه الرسميّ على
الإنترنت، ومنشوراته على فيسبوك وتغريداته على تويتر، أجده يمثّل، بحسب انطباع
شخصيّ لن يعجب على الأرجح الدكتور نصّار، حال كثيرين من المسيحيّين الذين اضطهدهم
مجتمعهم المسسيحيّ المتهوّد ولم ير فيهم وجه المسيح الثائر، ثمّ اضطهدهم مجتمعهم
اليساريّ المنحرف لأنّه كان صورة عن ثورة المسيح التي فضحت ثورتهم، واضطهده بعض
الفلسطينيّين لأنّه أشار إلى انحراف في مسار القضيّة، واضطهده الغرب لأنّهم كان
فلسطينيًّا أكثر من كثير من الفلسطينيّين.
لذلك، وانسجامًا مع قراءته الخاصّة لمجريات الأمور، والتزامًا بمواقفه التي دفع ثمنها في دكاكين تجّار الهيكل، كان من أوائل الداعمين لزيارة البطريرك الراعي إلى فلسطين، فتوجّه إليها في الوقت نفسه، وكتب مقالة افتتاحيّة في مجلته "الكاتب اليساريّ"، هاجم فيها رافضي الزيارة، وردّ على حملة تخوين البطريرك المارونيّ وعلى الداعين لمحاكمته بتهمة التطبيع. وكان من المتوقّع ألّا تمرّ هذه المقالة من دون أثر، فمن جهة توقّفت الحملة العلنيّة ضدّ البطريرك، ليردّ، في المقابل، من طالتهم كلماته بحملة إشاعات وتشهير وتقارير إلى الأجهزة الأمنيّة، خصوصًا أنّه أنهى مقالته بموقف حاسم، فكتب:
"أسجّل موقفي أخيرًا وبالقلم العريض …
أنا الشيوعيّ ذو الخلفيّة المارونيّة...
الملحد... والمعارض لكلّ أشكال التطبيع مع "إسرائيل" .. دولة وشعبًا "يهوديًّا"…
أعلن أنّني مع أيّ زيارة أو إقامة في فلسطين … سواء كانت فلسطين الضفة الغربيّة أو
فلسطين التاريخيّة … فهذا تحدٍّ وكسر للتعنّت اليهوديّ في منع لمّ شمل الفلسطينيّين ..
لإبقائهم معزولين عن أشقائهم العرب … ومعتقلين في سجن كبير اسمه الوطن ..
أنا وليم نصّار... الملحد … والشيوعيّ من أصول
مارونيّة حتّى آخر قطرة دم... وغير المؤمن بالكنيسة .. أعتبر أنّ زيارة البطريرك
بشارة الراعي .. ممارسة لحقّ العودة إلى فلسطين … رغم أنف ضابط الأمن "الإسرائيليّ".
سنأتي إلى إسرائيل وفلسطين .. وإلى
موارنتها على وجه التخصيص … رغم كلّ الدروب الشائكة … وبكافّة الوسائل
والطرق الممكنة ..
سنعبر إليهم … وكنيستنا المارونيّة رأسها أعلى من أن تطاله المسوخ …"
***
أنشر هذه المقالة في
توقيت يقع بين ذكرى محاولة اغتيال وليم نصّار يوم 25 شباط 1987، وقبل توجّه داعمي
البطريرك المارونيّ بشارة الراعي إلى بكركي يوم السبت 26 شباط 2021، تأييدًا لطلبه
حياد لبنان، وقبل أن يصدر الفنّان اللبنانيّ الكنديّ ألبومه الجديد
"ارتباك".
هي إذًا مرحلة ارتباك
لنا جميعًا، فهل سنعرف اليقين بعدها؟
لعلّ الفنّ يكون طريقنا الجميل إليه!
***
روابط خاصّة بالموسيقيّ وليم نصّار:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق