الاثنين، 1 فبراير 2021

حارسة النوم

 

كان جدّي أوّل إنسان راقبت نومه وأحصيت أنفاسه، لأتأكّد، كلّ ليلة تقريبًا، أنّه ما زال حيًّا.

كان عجوزًا مريضًا، وكنت طفلة صغيرة لم تتخطّ بعد سنواتها العشر، حين وجدت نفسي، من دون أن أعرف كيف، مسؤولة عن صحّته وحياته. فطُلب إليّ أن أعطيه الأدوية في مواعيدها المختلفة، وأراقب أنواع طعامه. و"أقطر" في عينيه المتعبتين، وأحضر له بعد العشاء، الوعاء الكبير ليغسل رجليه بالمياه الساخنة، ولكنّي كنت أفاجأ به، بعد تعب النهار، نائمًا من دون اغتسال.

كنت أستيقظ مرّات عديدة خلال الليل، لأقترب منه، وقد تأهّبت حواسي كلّها لرصد إشارات حياته، كأنّها آتية من كوكب بعيد. وفي عتمة الغرفة، لم أكن أجرؤ على إزعاج نومه المشكوك في أمره، فأنظر إليه لأتأكّد من صعود صدره وهبوطه. وخشية أن أكون مخطئة، أضع يدي فوق أنفه منتظرة الهواء الدافئ ليخرج من صدره. وزيادة في الاطمئنان، أقترب لأسمع صوت أنفاسه المنتظم. وحين أعود إلى فراشي بعد إتمام مهمّتي، حافية، مضطربة، مرتجفة من البرد والانفعال، أفرض على نفسي صلاة قصيرة، وأحيل أمر جدّي خلال فترة نومي المتقطّع إلى عناية القدّيسات والقدّيسين المنتشرة صورهم فوق حيطان البيت، لأنّي سأعود مرّة ثانية، على الأقلّ، خلال الليلة الواحدة، لأحرس نومه.

ولم أكن أحدس في ذلك العمر بأنّ جدّي سيموت قتلًا، وهو يعمل وحيدًا على إنقاذ مقتنيات الكنيسة التي فجّرها من هجّر أبناء البلدة، في حين بقي جدّي مطمئنًّا إلى صداقات العمر الطويل التي خانته. وهربت جدّتي مع مقاتلين غرباء لم يجدوا سببًا يدعو إلى قتل امرة عجوز، وقاموا بإيصالها إلى أقرب مكان تتّصل منه بالذين هربوا قبلها.

كان جدّي وحيدًا يوم قتل أمام مذبح الكنيسة، ولم يحرسه خوفي، وورثت أنا عادة الاستيقاظ ليلًا لأتأكّد من أنّ الذين في البيت، الغارقين في نوم هانئ، تحملهم أحلامه إلى عوالم غريبة، ما زالوا أحياء يرزقون. ولولا سخريتهم وغضبهم، لأيقظتهم، في كلّ مرة، طلبًا لمزيد من الاطمئنان.

إرث غريب حملته من سنوات طفولتي، ومنعني ثقله من متابعة حياتي في ثقة واطمئنان. لكنّي لم أكتشف ذلك، لم أكتشف ما فعله بي هذا الإرث إلّا يوم رحل الرجل الثاني، وهو رحل يوم لم يعد يحتمل خوفي وقلقي.

جدّي كان الرجل الأوّل.

هو أوّل رجل اقتربت منه هذا الاقتراب الحميم. فحين كنت أمدّ يدي من الباب المشقوق لأعطيه ملابسه الداخليّة، كانت نظرات مستكشفة تفلت منّي لترى جسدًا مترهّلًا أبيض حيث لا تخترق الشمس الملابس التقليديّة لرجل قرويّ: قميص كاكيّ وشروال أسود. وحين كنت أقلّم أظافر يديه المحشوّتين ترابًا، وأظافر قدميه المتورّمتين من الملح والعمل، كنت أكتشف أنّني لا أشمئزّ إلّا من الذين لا أحبّهم.

أحببت رجلي الأول.

وأحببت رجلي الثاني.

وبقيت أحبّهما حتّى بعدما رحلا، كلّ إلى غيابه.

يوم رحل الرجل الثاني، تأكّدت من أنّ الخوف على من نحبّ لا يعني أنّنا، بخوفنا، سنتحتفظ بهم. فمتى آن وقت الرحيل، أيّ رحيل، سيغادرون أمكنتهم. ولن ينفع اللوم أو العتب، ولن تجدي محاولات استبقائهم.

أذكر جيّدًا ليلة رحيله: لم يقل إنّه راحل، وإنّني لن أراه بعد ذلك إلّا صدفة، وإنّه لن يلقي عليّ التحيّة لو التقينا.

قال في تلك الليلة إنّه يحبّني كثيرًا، وطلب منّي أن أثق دائمًا، ومهما حصل، بهذا الحبّ. وما حصل هو أنّه رحل من غير أن يردّ هداياي أو يستردّ هداياه، وهو يعلم أنّني لن أتخلّص منها.

لم أحدس بموت جدّي، وكذلك لم أحدس بإشارات الوداع في صوت الرجل الثاني وفي عينيه. كنت أستمتع بالحنان في صوته، وبالرغبة في نظراته. وحين افترقنا متواعدين على لقاء أكثر حنانًا ورغبة، قال لي عند الباب: أرجوك ارحلي الآن، وإلّا لن أدعك ترحلين أبدًا.

غادرت منزله وأنا سعيدة لأنّني تأكّدت أنّه في المرّة المقبلة لن يتركني أرحل.

وفهمت عندما لم يجب على أيّ اتّصال في الأيّام التالية. حزرت بلا سؤال أو عتاب. تقبّلت الأمر كأنّني أعرف أنّ هذه الأساليب لن تعيده إليّ أو كأنّني اكتشفت أنّ هذا الرحيل كان النهاية المتوقّعة التي رفضت رؤيتها في تململه من سهري على حمايته، وفي رفضه لأيّ قيد، ولو كان خوفي عليه، وفي تهرّبه من أيّ سؤال لأنّ الأسئلة تعني في رايه التشكيك، أو إعجابه بأبطال الأفلام السينمائيّة، أولئك الذين يرحلون من دون أن يفسّروا سبب رحيلهم، وكان يجد الأسباب التي تعذر تصرّفهم وتبرّئهم من تُهم الغدر والقسوة والأنانيّة.

لم أبكِ في الأيّام التي تلت غيابه، ولم أبكِ يوم عرفت أنّ جدّي قُتل. كيف أبكي وأنا لم أر جثّته بعد، ولن أراها أبدًا. فذلك ترف لم يُتح إلّا للمحظوظين من ذوي الضحايا.

البكاء على رأس الميت. يقولون.

ربّما لم أبكِ لأنّي لم أصدّق أنّ جدّي قُتل، ولأنّ بكائي يعني الاعتراف بموته، والاعتراف بموته يعني الاعتراف بموته قتلًا، أي القبول بفكرة أنّ جيرانه قتلوه. الأمر الذي يعني أنّ الثقة قاتلة.

ومع ذلك، وثقت بالرجل الثاني، وثقت به وخفت عليه. وعندما رحل لم أبكِ كما لم أبك يوم عرفت أنّ جدّي قتل.

كنت غاضبة. غاضبة فقط لأنّني حين كنت أسهر متوهّمة أنّي أردّ الموت عمّن أحبّ، كانت الحياة تعدو خارجًا وهي تسخر منّي، وكنت طوال الوقت أعتقد أنّها تضحك لي.

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.