(أوّل نصّ نُشر لي في الصحف)
ما
يكون شعورك عندما تدخل إلى بيتك وترى أولادك قد تركوك بغتة، دون إنذار... دون
كلمة... دون نصيحة ودون رجاء بالعودة؟...
هكذا
يحصل معي... في كل يوم خبر عن تلميذ سافر دون أن يلتفت إلى الوراء، ومع كلّ صباح،
يصلني "إنذار" بأنّ طالبًا حجز على متن أوّل طائرة أو باخرة، وسيغادر قريبًا
بعد أن طلب دفتر علاماته من إدارة المدرسة.
أنظر اليهم في الصفّ ولا أصدّق أنّي قد لا
أراهم مرّة أخرى. أراقبهم خلسة علّني أحفر ملامحهم الطفلة في قلبي، ولا أقول شيئًا.
وماذا يمكن أن أقول؟ هل أدعوهم للمقاومة والبقاء، وبأيّ منطق أقنعهم، وبأيّ أسلوب أستطيع إغراءهم بالوطن، هذا الوطن الذي ما توقّفت يومًا عن
تعريفه إليهم أرضًا غير مجتزأة، وتاريخًا غير مشّوه، وأدباء غير مغبونين، وعظماء
غير معترف بأنّهم ملك لأمة ما عرفت غير العظمة.
أسمعهم يكلّمونني عن حماسهم للسفر، ويأتون المدرسة
مودّعين ويسألونني: "هل تريدين إرسال الرسائل إلى أحد في الخارج؟"
طبعًا أريد... وهل بقي أحد هنا؟ لا بل سألتهم أن كانوا
يتنقّلون بين "الشرقيّتين" لأحمّلهم الرسائل...
أنظر وأسمع وأحتار... جريمة أن أوافقهم على السفر،
وجريمة أن أحاول إقناعهم بالبقاء وبماذا أجيب إن سألوني: "ولمَ البقاء؟ هل تريدين
لنا الموت والفشل وضياع المستقبل؟"
وهناك، في الخارج ستتفتح هذه "البراعم"
بعيدًا عن حنان الأهل ودفء الوطن-الحلم... إن نجحوا فستلاحقهم عيون أعدائهم،
وسيغرونهم بالبقاء والعمل لمصالح مختلفة إلّا مصلحة وطنهم الأمّ، وسيتعرّضون للخطر. ألم نخسر عشرات
الشبّان المتفوّقين في حوادث سير مفتعلة وبظروف غامضة لأنّهم رفضوا العمل لغير مصلحة
أمّتهم وخيرها؟
وإن ساروا في طريق الخيانة كانوا وصمة عار على جبين
الوطن، وخنجرًا مسمومًا في صدر الأمّة.
وإن فشل هؤلاء التلاميذ في تأمين مستقبلهم هناك، في
المقلب الآخر من الدنيا، فماذا يفعلون؟ أيعودون؟ ومن يرضى بالعودة خاسرًا؟ أم يبقون
هناك عرضة لخطر الانحراف وإغراءات المدنيّات الفاسدة التي تدّعي الحضارة والتقدّم.
الويل لنا! ماذا فعلنا بكم، يا من دعوناكم أبناء وفلذات
أكباد وأمل المستقبل؟
بمَ أوصيكم بعد أن نويتم على السفر تاركين في الصفّ مقاعد
فارغة من "العفرتة" و"الشيطنة"، ومن نكات أردتموها لاذعة،
وأسئلة جعلتموها محرجة؟
ماذا أحمّلكم وقد قرّرتم الرحيل تاركين أسماءكم في دفتري
وعلى الطاولات والحيطان؟
أتذكرون كم مرّة قرأنا وحلّلنا معًا نصّ فؤاد سليمان (على
المقلب الثاني) وفيه يقول:... على البحار السبعة... في كلّ مطرح من الأرض ...من
بلادي واحد... ما غصّت أمّ مثلما غصّت أمّهات بلادي، ترمي شبابها واحدًا بعد واحد
على كفّ العقاريت، على الموج خلف الشمس وحيث لا تصل عين؟
وكم ناقشنا معًا كتب الهجرة كما روتها أقلام الأدباء.
"وأقلعنا عكس الزمن" مع رضوان ابو يوسف بطل رواية إميلي نصرالله.
واستغربتم يومها كيف عاد هذا الرجل العجوز مفضّلّا الموت في حروب لبنان على الذبول
في صقيع كندا.
وما زلت أذكر يوم أعطيتكم نصًّا لرشدي المعلوف من مجموعته
"مختصر مفيد" تحت عنوان: لماذا لا نشتري بواخر؟ يومها ناقشتم وجادلتم
عندما توقّفنا عند قوله: شعوب الأرض المتيّقظة تجد ألف منفعة للبحر، أمّا نحن
فنستعمله إمّا للهجرة أو للانتحار...
ففي حين أكّدت أن الهجرة هي انتحار جماعيّ، ثرتم واعترضتم
محاولين اظهار فؤائد الهجرة للبلد، وكأنّي لا أعرفها...
ما كنت أحسب يومها أنّي سأشهد انتحار مناطقنا بشبابها
وخيرة أبنائها، لا بل كنت مغرورة إلى حدّ جعلني آمل بتغيير مجرى أفكاركم فتكرهون
الهجرة وتتشبثون بالوطن!
فيا كارولين الموجودة في كندا، ويا نقولا المقيم في
باريس، ويا وجيه المنهمك بحزم حقائبه، كم سأفتقد وجوهكم!
سأنتظر رجوعكم كما ينتظر قرميد لبنان عودة الطيور مع
الدفء والربيع، وسأترقّب اخبار نجاحكم بلهفة وثقة، وسأفخر بكم وأقول: ما خاب الظنّ بهم!
وطلبان أسألكما، واحد باسم هذا البلد المهجور: كونوا
كالآلهة الذين أخبركم عنهم صلاح لبكي في "أعماق الجبل" فينبئكم أرزه
"الرصد" بما فيه فتسارعون إلى نجدته "كلّما هدّته المخاطر"
وأحدقت به الرزايا". هلّا كنتم الآلهة؟
وطلب آخر شخصيّ... عندما قرأتُ قصة "معلّمتي"
لسعيد تقي الدين منذ سنوات، انطبعت في ذاكرتي صورة غريبة للمعلّمة العجوز التي
زارها تلميذها العائد بعد ثمان وأربعين سنة من الغربة، فإذا بها مقعدة وفقيرة
معدمة، لكنّها قالت له بفرح: "أنا فخورة بك. لقد رفعت رأسنا".
عودوا ولا تطيلوا الغيبة... هذا هو طلبي
تذكروا القوّة التي فيكم، وسنفرح بكم...
لا تتوانوا عن طلب المعرفة، ففيها قوّتكم، ومن قوّتكم
سيستمدّ مجتمعنا بقاءه واستمراره.
"أنا فخورة بكم، لقد رفعتم رأسنا"
كم أتمنى أن أقول لكم قريبًا... فأيلول لا يمكن أن يستمر
طويلاً، وسيتبعه ربيع العودة...
مي.
م. الريحاني
هناك تعليق واحد:
دمعة انسابت عند قراءتي هذا المقال.
أي بيت يخلو من مغترب لا بل من مهاجر.
عينان تنظران في الأفق البعيد ، لعلّ أحد ما يصل. غصة تبيت في الحنايا ، لكن أمل اللقاء. ....
إرسال تعليق