إضغط على الرابط للاستماع إلى الأغنية
تنسف في هذه الأغنية التي كتبت كلماتها ريما الرحبانيّ صورة الوطن اللبنانيّ كما وصفه لنا الأخوان رحباني، وتكاد هذه الأغنية تكون النشيد الوطني الجديد لكثير من اللبنانيين الذين لو أعطتهم الدول الأجنبيّة تأشيرات دخول لما نزل منهم أحد إلى ساحة الحريّة.
لولا كلمة "كندا" لظننا أنّ الأغنية تصف لبنان بقرميده وعصافيره وقمره وثلجه، ولكن الرحباني تريد أن تقول لنا أن لبنان ليس فريدًا من نوعه، وبالتالي الوطن هو حيث الحبّ والأمان والسعادة.
تقول الأغنية أوّلاً أنّ الطبيعة الجميلة ليست حكرًا على لبنان ففي الخارج أيضًا بيوت بقرميد وعصافير وقمر وثلج وبيت دافئ فيقول " قرميد مغطّى بالتلج وكلّ المرج، شجر وعصافير كثير بتغطّ ترتاح وبتطير". لا بل هي تذهب أبعد من ذلك حين توحي إلينا من دون أن تصرّح بأنّ طبيعة لبنان شوّهها الإهمال واكتسحتها الكسّارات وقضى على جمالها البناء العشوائيّ. وإذا أردنا أن نبحث عن صورة لبنان كما كنّا نعرفها فعلينا أن نخرج من لبنان إلى أي مكان يحترم الطبيعة ويحافظ على البيئة. وكندا هي مثال على ذلك. كنّا "نحن والقمر جيران" أمّا اليوم فالتلوّث يحجب صورة القمر عنّا، كما أن القمر ليس جارنا وحدنا بل نستطيع أن نراه في أي مكان آخر، وربّما أشدّ قربًا ونقاء فتقول "القمر سهران". وكان عندنا عصافير فقتلها الصيد العشوائيّ، وكان عندنا شجر فقطعتها موجة العمران التي اكتسحت كلّ شبر أخضر.
الموضوع الثاني الذي تنسفه الأغنية العلاقات الاجتماعيّة. ففي حين نتغنّى بحسن الضيافة وفي وقت تخبرنا الأغنيات الرحبانيّة عن الأبواب المفتوحة واستقبال الجيران تقول هذه الأغنية "لا في صحاب ولا جيران" و "ما بدّي يزورو حدا". فاللبنانيّ شبع من العلاقات الاجتماعيّة القائمة على الخبث والتكاذب وادّعاء الأخوّة والصداقة وحسن الجوار و"الجار قبل الدار" وإذا بالجار يحتلّ الدار ويسرقها ويعتدي على حرمتها.
وتنسف الأغنية كذلك صورة الأمان في لبنان. فإذا كان مفهوم الوطن مرتبطًا بالأمان فلبنان لم يعد وطنًا إذًا ولم يعد قادرًا على تأمين الحماية لبنيه. قبل الحرب اللبنانيّة، أطلق رئيس الجمهوريّة الأسبق سليمان فرنجيه مقولة "ناموا واتركوا بوابكن مفتوحة" وهو يقصد الدعوة إلى الاطمئنان لأنّ عهده سيكون عهد أمان وسلام. ومن سخرية القدر أن تبدأ الحرب اللبنانيّة في عهده فتخلع الأبواب وتهدم البيوت وتزهق الأرواح، وتعمّ الفوضى وينتشر الخوف والرعب. وريما الرحباني في هذه الأغنية تصف البيت الصغير في كندا وتقول" بابو ما إلو مفتاح/ بالي مرتاح" وبالتالي هناك في كندا سنجد الأمان والاطمئنان ولن نشعر بالخوف من اعتداء ولن نقلق على مصير. وتتابع الأغنية قائلة: "لشو فتّش بهالكون/ وبعرف السعادة هون" أليس هذا هو الوطن، حيث الأمن والسعادة؟
وتستعير ريما من أغنية رحبانيّة قديمة فكرة مطلعها الذي يقول: "بيت وأوضة منسيه وسلّم داير من دار/ دارت فينا العليه وطارت بالسهرة الدار" لتصف هذا البيت الصغير في كندا "أوضه ودار وعليّه"، فهو ليس قصرًا وليس فخمًا، وهو قد يشبه أي بيت لبناني قديم وببسيط، إلاّ أنّ ما يميّزه هو وجوده في أرض آمنة ومستقرّة صارت حلم كلّ لبنانيّ. وهذا البيت هو ملجأ الحبيبين اللذين وجدا في كندا سعادتهما وأمانهما. لقد وصف الرحابنة في أكثر من أغنية بيوتًا تصلح للحب ومنها أغنية "يا ريت إنت وأنا بالبيت، بشي بيت أبعد بيت"، غير أن الرحبانيّة الصغيرة جاءت لتقول وهل هناك أبعد من بيت في كندا؟ على الأقلّ هناك لن تقتحم شرطة الآداب المنزل لتمنع لقاء حبيبين ولن تضطر الحبيبة إلى التسلّل خفية عن الأنظار بل تشعل النار في الموقد وتقف على الباب في انتظار الرجل الذي تحبّ غير آبهة بنظرات المحيطين بها إذ "لا في صحاب ولا جيران".
منذ بداية عمله الفنيّ ، كان من الواضح أن زياد الرحباني ينظر إلى لبنان الذي بناه الرحابنة في وجدان الناس نظرة شكّ ويدعو إلى النظر بواقعيّة إلى ما يجري في هذا الوطن "الزغيّر ووسع الدني" كما تغنّي فيروز. ولكن أغنية شقيقته ريما :"بيتي الزغير بكندا" تذهب بعيدًا في واقعيّتها وقسوتها على الرغم من تعابيرها الجميلة وعالمها الرحب الوسيع والآمن. ولكن لا نستطيع إلاّ أن نوافق على أنّ هذا ما يحلم به اللبنانيّون على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وأحزابهم بعدما فقدوا أو يكادون، وبسبب أخطائهم المتلاحقة، فردوسهم الأرضيّ.
ولعلّ المفارقة القاسية أنّ صوت فيروز نفسه، وفي عقود قليلة لا تحتسب من عمر الأوطان، هو الذي نقل إلى العالم صورة لبنان الحلم الذي لم يبن بعد كما يقول منصور الرحباني، وصورة المصير اللبنانيّ كما يتوقّعه زياد وريمّا الرحباني أو لعلّهما يحذّران من الوصول إليه! فهل قُدّر لهذا الصوت السماوي أن يبشّر بولادة وطن وينذر بزواله؟
***
اللحن لأغنية فرنسيّة معروفة
Ma cabane au Canada وهذا الرابط يسمح بالاستماع إليها.
***
اللحن لأغنية فرنسيّة معروفة
Ma cabane au Canada وهذا الرابط يسمح بالاستماع إليها.
هناك تعليقان (2):
الأغنية رائعة وأعرفها جيدا، لكن أشعر أن هذا النص و شّحها و أدخلها مجدّدا في قلوبنا نحن الذين لا نعرف من لبنان إلا حربها الطائفية وجمالها طبيعتها الجبلية، و رفعة ذوق فنانيها و أخص بالذكر الرحابنة و فيروز رأسا...
للأسف أصبح الكثير من البلدان يشهد نفس حالةالقلق الذي انتابت اللبانيين في عهد مّاو لا تزال، فقد أصبحنا نخاف الشارع و الحانة و جلسة على ضفاف البحر و شرطة " الإخلاق" و السيف المسلول باسم الله وحضن الحبيبة... تلبنن عالمنا لحدّ لا يطاق...
أثرت نقطة مهمة في هذا النصّ ... هل يمكن أن يكون لنا وطن غير هذا الوطن ؟؟ لا أدري.
تحياتي...
فكرة الوطن صارت في حاجة إلى إعادة نظر بعدما استبيحت كلّ المفاهيم. وكم يخجلنا أن تصير اللبننة مرتبطة بالتشرذم والتفكّك والأصوليّة والهجرة!
لبنان الذي نعرفه راح إلى غير رجعة، هذه قناعتي، ولكن السؤال هو عن لبنان الجديد وما هي الصورة التي يريدها له من يتلاعب بمصائر دول المنطقة...
أشكرك على المرور والإضافة، وتحيّاتي
إرسال تعليق