الصداقة
الفيسبوكيّة التي جمعتني بأستاذ الفلسفة سمير غصن، لم يكن الدافع إليها الزمالة في
مهنة التعليم، ولا لايكات يضعها كلّ منّا على شذرات وتعليقات يكتبها الآخر، لكنّي
أفترض أنّ الدافع إليها والإصرار عليها هو علاقة تربطنا معًا بطبيعة لبنان عمومًا،
وبوادي قنّوبين تحديدًا، الوادي المقدّس الذي سمع كلّ واحد منّا، أنا والأستاذ
سمير، أصوات ناسه ونسّاكه، فأصغى إليها وتبعها: هو على دروب الوادي، وأنا فوق
الأسطر.
أسباب كثيرة أعاقت انضمامي إلى سمير غصن ورفاق دربه، وأكثرهم من تلاميذه، فلم تسمح لي الفرصة لمرافقتهم، لكن مشوارهم الأخير من "شربل بقاعكفرا إلى شربل عنّايا" جعلت في الإمكان أن نلتقي أمام دير مار مارون. قبل ذلك، لم أحسم قراري بالكتابة عن مغامرة المشي والتسلّق هذه، كنت أنتظر الفرصة كي أرى وجوه هؤلاء المغامرين، وأستمع إلى أصواتهم الهازجة وهم يحقّقون الهدف، ويصلون إلى مبتاغهم؛ كي أشهد على تعبهم وفرحهم، على روابط تجمعهم، لا علاقة لها بدين أو طائفة أو عمر. وهذا ما حصل حين انضممنا إليهم، أنا وأفراد عائلتي، مع اقتراب وصولهم إلى محبسة القدّيس شربل.
بعيدًا عن المنحى الروحيّ لرحلة الحجّ هذه، المنطلقة من أعلى قرية مأهولة في لبنان، بقاعكفرا مسقط رأس قدّيس لبنان، أجد في ما يقوم به سمير غصن وفريقه ما يتخطّى الزيارات الدينيّة التي يقوم بها آخرون: سيرًا على الأقدام أو بالحافلات. ثمّة في عملهم ما يعيد تجذّر الشباب بالتراب، وما يمنح أجنحتهم هواء نقيًّا، وما يغسل عيونهم وآذانهم وأرواحهم من بشاعات تغرّب الإنسان عن الإله فيه.
وأكاد أجزم بأنّ سمير غصن الذي أخرج دروس الفلسفة من بين جدران الصفّ، يريد لهؤلاء الشبان والصبايا أن يعودوا إلى الأرض ولو لأيّام قليلة أو ساعات معدودات، وهو يعي تمامًا أنّ من سيختبر متعة هذه الرحلات لن ترتاح روحه بعد ذلك إلّا متى حمل جعبته على ظهره، وعصاه في يده، ومضى إلى حيث تناديه أصوات الذين عاشوا فوق هذه الأرض، وصارت خلاياهم حبّات من ترابها.
حين وصل الفريق إلى عنّايا، بعد أيّام ثلاثة من المشي في الأحراش والجلول، بدت القيامة متوهّجة، وصخرة الموت تتدحرج ليولد مجتمع واعد، إذ بدا أعضاء الفريق، وهم يظهرون تباعًا بين جموع المصلّين والزائرين، رسلًا جددًا يحملون البشرى لهذه الأرض، أو فرسانًا غادروا مقاعدهم حول الطاولة المستديرة، ليعودوا بالكأس المقدّسة إليها.
ولمّا ارتموا منهكين في باحة الدير، بدا شربل القدّيس بينهم، واحدًا منهم، تفوح منه رائحة عرقهم، وتختلج مشاعر فخرهم بإنجازهم في عروقه والشرايين، فيتجدّد عهد قداسته، بعدما سار مرّة ثانية على دربٍ قادته من قريته إلى صومعته.
قد لا يعرف هؤلاء ماذا يفعلون، وقد لا يقدّرون أهميّة عبورهم في قرى وساحات يستقبلهم أهلها ويقدّمون لهم القهوة والماء، وقد لا يقرأ الناظرون إليهم هذه القراءة لمسيرتهم، لكنّ الأرض التي يثبون فوق شوكها وصخورها، ويقفزون فوق بركها، أو يخوضون في أنهارها، وينامون فوق ترابها، ويستظلّون بأشجارها من شمسها، ويسامرون قمرها، ويتدفأون من يباس حطبها، ويتسلّقون قممها، ويغوصون في روحانيّة وديانها... هذه الأرض تبارك خطواتهم، وتفرح لخبطات أقدامهم، وتسكر بنقاط عرقهم تروي عطشها.
يوم الأحد، وبعد مسيرة ثلاثة أيّام، أنهى سمير غصن وفريقه رحلة الـ 60 كلم، في بلد لا يقدّم التسهيلات اللوجستيّة لأنشطة كهذه، ولا يدعمها، ولا يشجّع عليها، وهم يستعدّون اليوم لرحلة الأحد المقبل 2 تمّوز، على درب المحابس: حدث الجبّه، نيحا، حردين... وثمّة آحاد كثيرة مقبلة، وثمّة وجوه جديدة ستلوّحها شمس لبنان، وثمّة دروب لن تضجر من انتظار شبّاب غير عابئين بثلوج الشتاء وحرّ الصيف... ومع كلّ رحلة ينتصر أدونيس الحضارة والخصب على خنزير التخلّف والعجز...
قد لا تسمح لي الظروف بالسير مع هذا الفريق، لكنّي أتمنّى لمن يرافقهم وينضمّ إليهم أن يحمل خطواتي معه ليزرعها في ذلك الوعر، وأن يقطف لي باقة من أزهار براريها، وأن يتزوّد لي وله بكمشة عطر وضوء.
سمير غصن وفريق REAL HIKERS TEAM ، لأمثالكم كانت هذه الأرض وستبقى...
لمزيد من المعلومات، زوروا هذه المواقع: