الدكتور غازي قهوجي في حفل توقيع روايتي "كلّ الحقّ ع فرنسا" |
كلمات الصديق الدكتور غازي قهوجي على كتابه: قهوجيّات - أركيلة الحلم العربيّ |
قرأت خبر رحيلك يا غازي على صفحة صديقنا يحيى جابر، إذ
كتب: "يا صور... ليفتح بحرك صدره ويستقبل موجةَ ضحكٍ عائدة في تابوت... يا
صور مهندسك المسرحيّ السينمائي الساخر غازي قهوجي مات".... فاتصلت بصديقك
وأخيك ابراهيم جاماتي، فأكّد لي صوته الخبر...
كنت صديقي يا غازي! صديقي الذي استمعَ إليّ أشكو ولم يبح
لي يومًا بألمه وحزنه، حتّى إنّ الذين كانوا يروننا نحتسي القهوة في مقاهي شارع
الحمرا، لم يصدّقوا حين كنت أقول لهم إنّني لا أعرف عن خصوصيّاتك أكثر ممّا يعرفون. لكنّي حين علمت، من سواك، خبر مرضك، لم أسامحك وغبتُ عن صورة حياتك، من
دون أن تغيب عن بالي صور لقاءاتنا الجميلة الذكية الصاخبة الملأى بالأخبار
والطرائف والمعلومات والذكريات. لم أفهم يومها كيف تخفي عنّي أمرًا بمثل هذه
القسوة، لتختفي بدورك، لولا بضع رسائل إلكترونيّة، في سرير وجعك ومعاناتك.
كم يمكن للصداقة أن تكون طفوليّة مهما كبر الأصدقاء في
العمر. عتبت أنا عليك، وأنت أصررت على إحاطة حياتك الخاصّة والعائليّة بسور من
التكتّم، أكاد أجزم أن الذين استطاعوا التسلّل إليه من عالم الفنّ والمسرح
والسينما والتلفزيون قلائل جدًّا. فعصبة الأصدقاء حولك، أولئك الذين بنيت معهم علاقة
صافية يعود تاريخها إلى صفاء الطفولة والصبا، هذه العصبة العصيّة على الدخلاء كانت
تكفي لتجعلك في مأمن من الوحدة وفضول الآخرين، كلّ الآخرين.
لكن، مذ واكبتَ بمحبّة وحكمة إنتاجي الكتابيّ، وجدت
فيك السند والمرشد، فما غبتَ عن حفلة توقيع إلى أن أرهقك المرض وأكل من عافيتك،
فاختفيت رافضًا أن نراك بلا ضحكة، وبلا طرفة جديدة، وبلا شهوة للحياة والفنّ
والعطاء.
سألتك مرّة: لماذا تتعب نفسك في واجبات اجتماعيّة كثيرة؟
فأجبتني: يجب أن أقف إلى جانب الناس في أحزانهم لأخفّف من وقعها، وفي نجاحاتهم
لعلّ فرحهم يزيد. وأنا كنت واحدة من هؤلاء الذين خفّفت من ألمهم وضاعفت فرحهم...
وستبقى. إذ يكفي أن أستعيد قولك لي مرّة، وأنت تروي لي طرائف جرت بينك وبين
الأخوين رحباني: يؤسفني أنّ عاصي لم يلتقِ بكِ... يومها شعرت بالزهو والفخر...
وأجبتك وأنا أحاول أن أخفي ارتباكي: خلص، بيكفي إنّك تعرّفت عليي.
أخبرتني أمورًا كثيرة يا صديقي عن الفنّ والفنّانين، وتمنّيت
عليك دائمًا أن تكتبها وتنشرها، لأنّك الشاهد الوحيد عليها. وكنت تتردّد لخشيتك من
أن تتعرّض لخصوصيّات الآخرين. يا لهذه الكلمة التي جعلتها محور حياتك ورافقتك حتّى
موتك: خصوصيّة الإنسان التي يجب ألّا نقترب منها. ومع ذلك كان لك احترام لآراء
الآخر لم أجده عند أحد. فكَثُر أصدقاؤك ومحبّوك وهم يعرفون تمام المعرفة أنّك لا
توافقهم الرأي في شؤون كثيرة...
جميلًا كنت يا صديقي، ذلك الجمال الذي ينبع من الداخل بصفاء ومحبّة، وكريمًا سخيًّا، وشهمًا أبيًّا، وصديقًا صادقًا (أذكر جيّدًا كيف حزنت على صديقك وليد غلميه)، وأنيقًا متواضعًا، ومثقّفًا جامعًا...
وخفيف الظلّ، وخفيف الدمّ! أتذكر كم دارت نقاشات
بيننا حول هاتين الصياغتين وعن مصدر كلّ منهما؟ ألم تكن مشكلتك الوحيدة مع ثقيلي
الظلّ والدم؟ هؤلاء فقط لم تكن تحتمل وجودهم قربك.
الرسالة الأخيرة التي وصلتني منك كانت منذ عام وفي مثل هذا الشهر. كانت قصيرة ومرفقة بنصّ من نصوصك الطريفة، عدت إليها
اليوم، فوجدت فيها هذه العبارة الساخرة: "يقال: كل ديك على مزبلته بيصيح! كثر
عدد الديوك بشكل كبير فأصبح لزامًا علينا أن نستورد "مزابل"!"
وها أنت ترحل تاركًا لنا
وطنًا صيّرته الديوك مزبلة! فكيف كنت ستطيق البقاء حيث كلّ هذين القرف والخبث؟
صديقي غازي! تبدو الآن
قريبًا أكثر من أيّ وقت مضى! كأنّ الموت انتقم لي من المرض الذي أبعدك. فلا تعتب
عليّ إن بكيتك الآن وأنت في البال والوجدان والقلب، حيث لا وجع ولا مرض... بل
شعرٌ وفنٌّ وأدب ومسرح وغناء وصداقة صافية... ولكن دعني الليلة أفرغ حزني دمعًا... وغدًا، سيكون
لنا لقاء مع كلّ كلمة أقرأها عنك، وبالنيابة عنك، ومع كل كلمة أكتبها.
وإلى اللقاء
في سماء صارت اليوم أجمل...
هناك تعليق واحد:
هكذا يا صديقتي يرحل كبار النفوس
بتواضعٍ وخشية...
تاركين لقلمكِ أنْ يُزهرَ ورودًا عطرة في حياتهم ... ويزيد من ألم غربة موتهم...
أطال الله بعمرِكِ...
وزادَ كتابتكِ بهاءً وكِبرًا وعاطفةً...
إرسال تعليق