لكأنّ جبران خليل جبران، حين نظم نشيد الزواج في كتابه النبي، كان يستحلي لوالديه ولنفسه حياة زوجيّة كالتي عشتماها يا خالي سليم ويا عمّتي إميلي:
ولدتما معًا، وتظلّان معًا، حتّى في سكون تذكارات الله. ومعًا حين تبدّدكما أجنحة الموت البيضاء.
زواج والديّ جعل خالي سليم يلتقي بعمّتي، ومن النظرة الأولى أغرم أحدهما بالآخر. ومنذ ذلك الحين، أي منذ أكثر من خمسة وخمسين عامًا، والزوجان العاشقان ملتصقان كتوأم سياميّ، يمرض أحدهما إن مرض الآخر، ويضحك أحدهما إن ضحك الآخر، وسيموت أحدهما إن مات الآخر... قصّة حبّ لم يعكّر صفوها فقر أو حاجة، ولم يخفّف من وهجها ترفٌ أو بحبوحة، ولم يلههما عنها تسعة أولاد وتسعة أحفاد وكثير من الصعوبات لا بدّ منها في حياة أيّ زوجين.
وبعد أن صارعا الحياة طويلًا، ها هي عمّتي تصارع الموت في مستشفى، وزوجها يقاوم الرحيل في مستشفى آخر، وحين يصحو أحدهما من غيابه، يسأل عن الآخر.
أنا الآن، لا أستبق موتًا قد ينال من أيٍّ منّا في أيّة لحظة، ولا أرثي أو أندب، وإن كنت أبكي. أنا، الآن، أكتب عن تاريخ من الحبّ، يتمنّى كلّ إنسان سويّ أن يختبره ويتذوّق حلاوته. فكيف يموت من يعيش مثل هذا الحبّ؟
عمتي الجميلة النظيفة الأنيقة، وخالي الشاعر الطريف الظريف، عاشقا الحياة والعائلة، الوالدان الحنونان، والجدّان العطوفان، يرقدان الآن على سرير المرض، يحيط بهما حبّ كثير ورعاية تفوق الوصف... وفيض من دموع يعجز ساكبوها عن منع جريانها، مهما قيل عن الإيمان والصبر وتقبّل الأمر الواقع. ومع ذلك، مع كلّ ذلك الوجع والخوف من غياب يفرض نفسه على حياتنا، تبدو الحياة جميلة حين أستعيد حياتهما:
كثير من الضحكات الصاخبة السعيدة...
كثير من الضحكات الصاخبة السعيدة...
كثير من الحنان الموزّع بلا منّة أو تمييز...
كثير من أبيات الزجل والطرائف وأخبار نجيب حنكش ورياض شررة وأنيس فريحة وسلام الراسي...
كثير من ولائم الطعام الشهيّ، مهما اشتدّت الحاجة أو صعبت الظروف...
وباختصار... كثير من الحياة!
فكيف لمن لا يثير تذكّره سوى الابتسامة والشعور بجوّ الإلفة والحفاوة أن يموت ويندثر أثره؟ وكيف لعمّتي التي قاومت صعوبات لا تعدّ ولا تحصى أن تستسهل الرحيل؟ وكيف لخالي الذي يستعذب المغامرة ويتحدّى الحياة أن يستسلم بلا مقاومة؟
فكيف لمن لا يثير تذكّره سوى الابتسامة والشعور بجوّ الإلفة والحفاوة أن يموت ويندثر أثره؟ وكيف لعمّتي التي قاومت صعوبات لا تعدّ ولا تحصى أن تستسهل الرحيل؟ وكيف لخالي الذي يستعذب المغامرة ويتحدّى الحياة أن يستسلم بلا مقاومة؟
لا أعرف طبعًا متى يلقي كلّ منهما سلاحه ليمضي إلى حيث ينتظر الآخر، لكنّي حين أنظر إلى والدي يبكي أخته التي تصغره، وإلى والدتي تتحسّر على أخيها الذي يصغرها، أعرف أنّنا كلّنا تقدّمنا في العمر، وأنّنا محاطون بموت كثير وبشع حتّى أنّنا نحسد من يموت على سرير العناية بين الأهل والأحبّة. لكنّي أرى كذلك، من خلال غشاء الدمع، أنْ ما دام هناك من يعتني بوالديه لسنوات، كما فعل أولاد خالي وعمّتي، فثمّة ما يخفّف من صعوبات الحياة وقسوة الموت...
عمّتي تتألّم... وكذلك خالي... ربّما هذا هو الموت الذي يخيفنا وهذا ما عجزت الإنسانيّة حتّى الآن عن إيجاد حلّ له: الوجع لا الرحيل، مذلّة طلب الرعاية لا الموت، كرامة المريض لا سمعة الطبيب.
وبسبب هذين الألم والمعاناة تحترق قلوبنا!
ويا عمّتي، لن أنسى وجهك يسابق وجه أمّي حين أصحو من التخدير بعد أيّ عمليّة جراحيّة أخضع لها!
ويا خالي، قد أنسى بعض حكاياتك الطريفة لكنّي لن أنسى احتفالك بلقيا هذه الحكايات واستهجانك عدم معرفتي بها!
ويا خالي، قد أنسى بعض حكاياتك الطريفة لكنّي لن أنسى احتفالك بلقيا هذه الحكايات واستهجانك عدم معرفتي بها!
فشكرًا لكما على إرث الحنان والحكاية... والحبّ!