ماري القصيفي في رواية الانسحاق والأمل
جان الهاشم - صحيفة الحياة 11 تمّوز 2014
تحكي ماري القصيفي، في روايتها «للجبل عندنا خمسة فصول» (دار سائر المشرق)، الحرب اللبنانية في أحد وجوهها، حرب الجبل في ثمانينات القرن الماضي، بين الموارنة والدروز، وهي انتهت بتهجير المسيحيين من تلك المنطقة التي تعايشوا فيها معاً زمناً طويلاً، قبل أن تبدأ حروبهم وتتواتر منذ ستينات القرن التاسع عشر. وهذا التواتر أعطى الكتاب عنوانه، إذ صار لأبناء الجبل فصل خامس متكرّر يضاف إلى فصول السنة الثابتة المتكرّرة بانتظام، هو فصل الجنون: «ففي الفصل الخامس من فصول تلك السنة في الجبل اللبناني، فصل الجنون الذي لا ينفكّ يعود...» (ص 187). وإن تكن الشخصية الرئيسة في الرواية هي الراوية سلوى بو مرعي، إلا أن بطلة الرواية من دون منازع هي «الحرب اللبنانية» بكل صورها البشعة...
جان الهاشم - صحيفة الحياة 11 تمّوز 2014
تحكي ماري القصيفي، في روايتها «للجبل عندنا خمسة فصول» (دار سائر المشرق)، الحرب اللبنانية في أحد وجوهها، حرب الجبل في ثمانينات القرن الماضي، بين الموارنة والدروز، وهي انتهت بتهجير المسيحيين من تلك المنطقة التي تعايشوا فيها معاً زمناً طويلاً، قبل أن تبدأ حروبهم وتتواتر منذ ستينات القرن التاسع عشر. وهذا التواتر أعطى الكتاب عنوانه، إذ صار لأبناء الجبل فصل خامس متكرّر يضاف إلى فصول السنة الثابتة المتكرّرة بانتظام، هو فصل الجنون: «ففي الفصل الخامس من فصول تلك السنة في الجبل اللبناني، فصل الجنون الذي لا ينفكّ يعود...» (ص 187). وإن تكن الشخصية الرئيسة في الرواية هي الراوية سلوى بو مرعي، إلا أن بطلة الرواية من دون منازع هي «الحرب اللبنانية» بكل صورها البشعة...
تتفرَّغ سلوى بو مرعي لكتابة ذكرياتها عن حرب الجبل، وقصة تهجير عائلتها من قريتها، مع سائر المسيحيين في سائر القرى، إلى دير القمر. ليلة التهجير رسمت مستقبلها، وحفرت في نفسها عميقاً حتى باتت وقائعها راسخة في قلبها، وهي تريد أن تبوح بها لكي «تزيل حملاً ثقيلاً كالجبل...» (ص 12).
في تلك الليلة هربت العائلة من بلدتها عين يوسف سيراً على الأقدام، ما عدا الأب الذي رفض المغادرة ولازم منزله حيث قُتِل. لكن أخاها التوأم سليم، المختلّ عقلياً، نسي الراديو وأصر على العودة للإتيان به، فطلبت منها أمها أن تعود معه وأكملت طريقها فارَّة. تخلَّت عنهما الأم، وتخلّفا عن ركب النازحين، لكن سليم، الذي يعرف الدروب جيّداً، يقودها وصولاً إلى دير القمر حيث تجمّع النازحون، وحوصروا إلى أن كان الخلاص بإخراجهم من هناك بعد أشهر إلى بيروت وسائر المناطق. وينتهي بها الأمر عاملة في دير الصليب، مصح المجانين، الذي أُدخل إليه شقيقها سليم، واختارت العمل هناك لأنها أرادت أن تلازمه لقربها منه ولتعلّقه بها.
وتبدأ أحداث الرواية الفعلية (زمن الرواية) من هناك، من مصح دير الصليب حيث حاولت أن تنسى ما حدث، لكنها لم تستطع. تقرّر أن تكتب عن تلك المرحلة بناء على نصيحة ثلاثة: مي ابنة خالتها، والصديقة الوحيدة التي بقيت لها، ودانيال العشيق المفقود، وفادي الطبيب في المصح. «اكتبي عنها يزُل الألم وتبقَ الذاكرة» (ص 18). وانتقلت إلى بحمدون لتتفرّغ فيها للكتابة. وراحت تلملم عن ألسنة الناس فيها ذكرياتهم عن وقائع مرحلة سقوط البلدة، والنزوح عنها. أخذت عن جورج ابن صاحب البيت الذي استأجرته، وقرأت أوراق طبيبة طوارئ سويسرية، تدعى جوزيان أندريه، عملت في خلال الحرب في بحمدون ودوّنت يومياتها فيها.
وما كتبته سلوى يذكّر القارئ بتلك المؤلفات عن حرب الجبل، التي روت الأحداث من زاوية واحدة، وهنا من وجهة نظر شابة مسيحية، معجبة ببعض زعماء طائفتها، وغاضبة على أكثرهم لأنهم لم يعرفوا كيف يقودون الحرب. مع أنها في ما كتبت حمّلت الجميع، مسيحيين ودروزاً مسؤولية الحرب وبشاعاتها. المسيحيون حركشوا، والدروز انتقموا والمواطن دفع «ثمن غباء المسيحي وغضب الدرزي، والغباء قاتل كالغضب» (ص 128).
وتعود سلوى إلى زمن الأحداث الحقيقي. ما جرى في دير القمر. لم تنم مع المهجّرين في مكان تجمّعهم. هي كرهتهم، وأرادت الابتعاد عن أمّها التي تكرهها معتبرة أنها أخذت كل العقل ولم تترك شيئاً لأخيها التوأم سليم. نامت في الكنيسة حيث قيل إن ثلاثة رجال اعتدوا عليها ومارسوا الجنس معها، فحملت بذلك العار.
وتتحرّك أحداث الرواية بثقل وتباطؤ وتشابه وتكرار، كأن الكاتبة تعمّدت ذلك لكي تبرز تلك الدوامة التي يدور فيها المسيحيون والدروز في فصل الجنون الذي لا يني يتكرّر.
لم تسلم سلوى من كلّ تلك الأحداث، هي وقعت ضحيتها فتشوّهت نفسيتها بأبشع ما يكون. حمّلها الناس عاراً لم تحمله أساساً، وقد أوضحت ما جرى لها مع الرجال الثلاثة، وما باحوا به لها. الأوّل أراد وهو معها أن يشعر «بأنّ الحرب لم تقتل فيّ كل شيء...»، والثاني أراد أن يتذكّر أمه وهو يغفو على صدرها، والثالث بكى وهدّدها: «إن عرفت أنك أخبرتِ أحداً أنني بكيت قتلتك بلا شفقة ولا رحمة...» (ص 92). حالات ربما تنتاب من انقاد للحرب غصباً عنه، وربما تكون حاجاتها هي نفسها، لأنها حاولت مقاومة الحرب، وافتقدت الأم هي المكروهة من أمها.
وينتهي القسم الأول من الرواية، مع ما توصلت سلوى إلى تدوينه، لأنها ستصاب بمرض السرطان وتموت قبل أن تكمل ما بدأته. في القسم الثاني تتولّى مي، ابنة خالتها، إكمال ما بدأته، أو بالأحرى إيضاح كل ما ورد في أوراقها من مواقف وأخبار. وتتحول في القسم الثاني إلى راوية بدورها ترى إلى ما أوردته سلوى من منظار آخر. وهنا تتكشّف لنا براعة الكاتبة في لعبة الإيهام، مع ما نكتشفه من وقوع سلوى في حالة الإسقاط (projection) المعروفة في الطب النفسي، بوجهيها: «الإسقاط النفسي»، وفيها تتلبَّس شخصيات الآخرين وتتبنى مواقفهم، و «الإسقاط التحويري» وفيها تعكس حالاتها النفسية على الآخرين. تروي مي، وهي كما رأينا وجه آخر من وجوه سلوى: «وضعتني كتابات سلوى أمام حياتنا كلّنا، ففيها ما حصل معي وتبنّته هي، وفيها حكايات رويتها لها (...) وفيها قصص أقربائنا من المهجّرين (...) وفيها خصوصاً أوراق أنطوني خير الله وجوزيان الطبيبة السويسرية (...) «ظنّاً مني أنني أساعدها (سلوى) في التعلق بالحياة كما فعل انطوني، والإيمان كما تحدّثت عن مفعوله جوزيان» (ص 263).
ونكتشف أن سلوى هي المجنونة في مصح دير الصليب، وليس شقيقها سليم. ونكتشف أن دانيال، الذي تروي سلوى قصة غرامياتها معه، وحبها له، ليس سوى زوج مي نفسها.
تعيش سلوى إذاً في أوهامها وكوابيسها، لكن ماري القصيفي، عرفت كيف تقودنا معها على طريق الإيهام، لتكشف لنا في النهاية حقيقة الأمور. طوال الرواية بدت سلوى امرأة مسيحية، تعيش هواجس مسيحيّي الشوف ومخاوفهم. وإذا سلَّمنا بأن مي شكلت عقلها ووجدانها، نجد أن هذه الأخيرة، أصرت مع زوجها دانيال على بناء العائلة، وعلى العمل على الثبات في الوطن، معبّرة عن حنينها إلى أيام المحبة والاختلاط في الجبل، آملة في إحياء ذلك يوماً ما، على رغم بقائها مهجّرة بعيداً من أرض الشوف. عاشت مي الحرب والهواجس، وحمَّلت الجميع، مسيحيين ودروزاً مسؤولية الحرب، لكنها تحلَّتْ بالأمل، استمدّته من دانيال، الزوج المرمِّم وباني الوطن المأمول معها.
بذلك تصبح سلوى الإنسان اللبناني المصاب بالانفصام بعدما مزّقته الحرب ما بين اليأس والأمل، ما بين الموت والحياة، ما بين الحلم والواقع. في عمق مأساتها ظلت تأمل بوجود حبل خلاص يعيد الرحمة والمحبة إلى القلوب، كتلك المرأة الدرزية بالوشاح البيض، التي روت عنها أنها أنقذتها مع شقيقها سليم أثناء فرارهما، وكما يقول دانيال لزوجته، فإن سلوى «في نصوصها عاشت وعشقت وانتقمت وتطهَّرت، وتمسّكت، في حديثها عن المرأة الدرزية التي سمّتها عذراء الجبل، بحبل خلاص ينقذها من الحقد بالرغم من الأذى الذي تعرَّضت له!» (ص 312).
وهذا الأمل يحدو الكثيرين على العودة إلى الجبل. لكن ما هو قائم حتى اليوم في الوقائع والنفوس يبقى معوّقاً أساسياً. وربما بسبب ذلك، وما حدث لها، وما تعيشه من تردّد وتمزّق وخوف، لاذت سلوى بالجنون لأنّ «الجنون الحقيقي أبعد ما يكون عن الغباء، وأكثر براءة من أن تلصق به جرائم الحرب، لأنه أجمل من الحقد، وأطهر من الشرّ، وأعمق من المعرفة...» (ص 315).
«للجبل عندنا خمسة فصول» سجلّ الماضي وصورة الحاضر وهاجس المستقبل ومخاوفه، باللغة المنسابة ما بين السرد البسيط العادي، والتعبير الوجداني العميق المقارب الشعر، هي رواية الضياع والتمزّق والانسحاق، وفسحة أمل تبقى مفتوحة على كلّ الاحتمالات.