لا نستطيع أن نفصل التربية عن المجتمع، وليس من المنطقيّ
أن نطلب الشيء وعكسه من الناس، وخصوصًا حيث يتمّ تعليم المنطق، أي المدرسة.
ففي مجتمعنا اللبنانيّ مثلًا، وهو نموذج عن المجتمعات
العربيّة، ولو مع بعض الاختلافات، يُطلب منّا، خصوصًا في المدارس الملتزمة
دينيًّا، أن نعلّم احترام العائلة، ومواساة المحزون، وعيادة المريض، وإنجاب
الأولاد ورعايتهم. لكن إن حدث وتغيّب معلّم أو معلّمة عن الصفّ لأحد هذه الأسباب،
تقوم القيامة وينسى الجميع تعاليم الإنجيل والقرآن، ويصير ضبط الصفّ هو الهدف
الأسمى ( لا التعليم ولا التربية، بل ضبط الصفّ بأيّ ثمن).
لا يغيب عن بالي وأنا أكتب هذه الأسطر أنّ هناك من يدّعي
المرض، ومن يميت أقرباءه، أي من يستغلّ ذلك للتهرّب من العمل. لكن، كم يمكن أن
يدوم ذلك ويتكرّر مع الشخص نفسه، وبالتالي من السهل كشف الكذب والخداع، خصوصًا أنّ
مجتمعنا ضيّق ولا تخفى شاردة ولا واردة.
تبقى مسألة مرض المعلّمين، وهي ذات وجهين: التوعّك
الفجائيّ، والمرض الطويل الأمد.
في الحالة الأولى، يجب أن تحسن
المدرسة تحضير برنامج طوارئ مفيد وناجع ولا يربك سير الأمور. وهنا يمكن الاستفادة
من أنشطة في المكتبة والمسرح والملعب لا ترتبط بمحور أو درس أو لغة، بل تتناول كلّ
ما له طابع الثقافة المتنوّعة، كالسينما والتلفزيون والموسيقى والأغنيات
والمباريات، بل ما الذي يمنع من تخصيص غرفة للرقص، نعم للرقص الحرّ، فليرقص
التلامذة المتخشّبون وليحرّكوا أجسادهم ولينفّثوا عمّا في داخلهم، مهما كان نوعه. وهذا
يتطلّب إعداد القيّمين على المسرح والمكتبة والنظّار، ليحسنوا ضبط الأمور وإدارة الصفّ، فلا يحدث
التلامذة ضوضاء تزعج الصفوف الأخرى، وفي الوقت نفسه، يستفاد من غياب المعلّم أو
المعلّمة، لتعويض نقص ثقافيّ، فضلًا عن إمكان تمرير دروس شفويّة في التهذيب واللياقة
وحسن التصرّف... المهمّ ألّا تكون وظيفة الناظر بوليسيّة تقضي بالمراقبة والتأنيب
ورفع التقارير وإنزال العقوبات... فالتربية شأن جماعيّ يبدأ من مدخل المدرسة إلى كلّ
زاوية من حرمها.
في الحالة الثانية، أي عند الغياب الناتج عن مرض قد يتطلّب التعافي
منه وقتًا طويلاً، لا بدّ من اتّخاذ إجراء آخر طبعًا، يقضي بتعيين بديل
فوريّ. وهناك قوانين تضبط هذا الأمر تختلف بين مدرسة وأخرى وبلد وآخر، وهذا ليس
موضوعي الآن.
خبرتي في المدارس جعلتني شاهدة على مواقف سخيفة، تبدو
فيها الإدارة عاجزة أمام غياب شخص واحد، وليوم واحد، عن جعل حصص التعليم ذات
فائدة... فتضطرّب الأمور، ويختلط الحابل بالنابل، ويعلو الصراخ، وتتوالى الاتصالات
الهاتفيّة: يا إلهي! فلانة غائبة! ماذا نفعل؟ كيف نتصرّف؟ ماذا سيقول الأهل؟ ماذا
نفعل بالأولاد؟ ماذا نعلّمهم؟
ماذا نعلّمهم؟ ماذا نعلّمهم؟
يا جماعة التربية! هؤلاء الأولاد يحتاجون
إلى كثير من المعارف والمعلومات وطرائق التفكير والتحليل، والتعليم لا ينتهي. فكيف
لا يجد شخص بالغ، مربٍّ، ما يقوله لأطفال أو مراهقين، خلال خمسين دقيقة أو مئة
دقيقة؟ أو حتّى ما يفعله معهم؟
تنظيف الصفّ وترتيبه...
تزيين الألواح الجداريّة...
المجتهدون يساعدون الأقلّ مستوى منهم...
الرسم....
عرض مواهبهم الغنائيّة والتمثيليّة...
زيارة الحديقة...
غياب المعلّمين حاجة تفرضها ظروف المرض (مرضهم أو مرض أي
فرد من أفراد العائلة)، أو الموت وتقبّل التعازي... وإن لم نسمح للمعلّم بأن يكون إلى
جانب عائلته وأهله فلن يكون إلى جانب أولاد الآخرين...
هل يكثر أحدهم من الغياب من دون عذر؟ فتّشوا عن علاقته
بالإدارة، أو افرضوا غرامة ماليّة على كل يوم غياب غير مبرّر... لكن حرام أن نظلم
الجميع، وعيب أن يبدو غياب معلّمة أو معلّم كارثة تربويّة لا أحد يعرف كيف
يواجهها.
على فكرة، لا شيء يمنع المدراء والمسؤولين والموظّفين
ورؤساء الأقسام من المساعدة، وذلك قبل أن تُطلب المساعدة من الأهالي المتطوّعين،
وهي فكرة لها محاذيرها في مجتمعنا، حيث أنّ بعض الأهل يحتاجون هم أنفسهم إلى
تربية...