تحتاج رواية "نادين الأسعد فغالي" "رياح الرغبة"
(الدار العربيّة للعلوم -2011) إلى أكثر من الرغبة في الكتابة كي يقتنع القارئ بقصّة
بطلتها العصريّة التي تواجه عواصف عواطفها المراهقة. إذ لا يكفي أن تتوفّر مادة
الحكاية، أو عنصر المفاجأة في الصفحة الأخيرة من الكتاب أو الرسالة التوجيهيّة
التي يجب أن يتّعظ بها القارئ كي تكوّن مجموعةُ المشاهد رواية تحدث فرقًا أو تضيف
جديدًا. لا يخفى شغف الكاتبة في دخول عالم الرواية بدءًا من العنوان المكتوب
باللغتين العربيّة والإنكليزيّة (وكذلك اسم المؤلّفة)، أو بصورة الغلاف التي تشي
بموضوع مثير جريء، لكنّ الأمل يخيب صفحة بعد صفحة ونحن نقع على تفاصيل لا داعي لها
وحوارات غير مقنعة مع ضعف في التحليل النفسيّ للشخصيّات.
بطلة الرواية فتاة جميلة يغتصبها خطيبها، فتهرب إلى مغامرات عاطفيّة تبحث فيها
عن الحبّ الحقيقيّ، ثمّ تتزوّج، وتنجب ثلاثة أولاد، ثمّ تخون زوجها مع زميلها في
العمل، المتزوّج كذلك، لتنتهي الرواية باكتشاف زوجها خيانتها فتدافع عن تفسها
بتوجيه اللوم له لأنّه لم يشبع عاطفتها. هذه هي الحكاية في اختصار. وكان من الممكن
أن تكون هذه العناصر مادة خصبة لمعالجة موضوعات دقيقة وحسّاسة كالاغتصاب، خصوصًا
متى قام به حبيب أو خطيب، والخيانة الزوجيّة وواقع المرأة الاجتماعيّ، غير أنّ
الرواية جنحت نحو الاستسهال الانشائيّ القائم على فهم مغلوط للحداثة. فالمعاصرة
والتجديد لا يتحقّقان بمجرد ذكر المحطّات الإذاعيّة الأجنبيّة: "في اليوم
التالي، وهي في طريقها إلى الجامعة، وغالبًا ما كانت تستمع إلى إذاعة تنطق باللغة
الفرنسيّة فيها برنامج يقدّمه "نوا" وهو مذيع فرنسيّ يعيش في لبنان منذ
عشر سنوات" (ص 12)، ولا في الإشارة إلى أحدث ماركات الأزياء العالميّة: "فتحت
صديقتها الخزانة وأعطتها إحدى عشرة علبة، فتحت ياسمينة العلب ووجدت فيها سترة من
ماركة "بربري" وعطورات من ماركة "شانيل" وجزادين من ماركة
"برادا"" (ص 122)، ولا في استعمال أحدث الهواتف الخلويّة: (ياي!
مبروك البلاكبيري...إنّه يسهّل التواصل مع الأصدقاء بوساطة الـ بي بي أم" (ص
139).
أمّا الحوارات فلا تتلاءم مع طبيعة الشخصيّات وأجواء الحديث، فجاءت مفتعلة
مصطنعة تحمل أفكار الكاتبة وأحلام المراهقات الحالمات كما في قول بطلة الرواية وهي
تخاطب "جاك" أحد الرجال الذين عبروا في حياتها: "أنا فتاة محترمة
جدًّا يا جاك، (ما دور كلمة جدًا هنا تقولها امرأة عن نفسها؟)، وقد تعوّدتُ سماع
كلمات الإطراء ومحاولات التقرّب والاعترافات العفويّة والمدروسة، والتملّق
وإعلانات الاستسلام، وتحرّشات الأقوياء، وتلميحات الضعفاء، وسعي الساعين إلى خطب
الودّ، ومحاولات المخادعين للإيقاع و...ولم أساوم، يومًا، على ما تربّيت عليه من
مبادئ، ولم أستسلم، ولم أضعف، لكنّ هذا العالم اللامتناهي لا يشبه نفسه في كلّ
زمان ومكان. فضاءاته لا تشبه بعضها بعضًا. وأماكنه ليست صورًا طبق الأصل عن صورة
أصليّة واحدة، والإنسان معرض ليعيش لحظات ضعف تفرضها حالته النفسيّة ويفرضها البعد
الجغرافيّ عن مسقط رأسه، وتساهم في تلميعها أقداح المشروبات المسمّاة روحيّة وهي
معادية للروح لكن مناصرة للجسد إن فهمت قصدي..." (ص 127) فهذا الجزء من كلام
"ياسمينة"، بطلة الرواية، وتتمتّه لا تختلف عن ذلك، لا يمكن أن يصدر في
حديث اثنين من هذين العصر والمجتمع، يحتسيان النبيذ على متن الطائرة. فما الداعي
لكلّ هذه المعاني التي تعبّر عن أنواع التحرّش بالمرأة ترد على لسان مضيفة طيران
جميلة ومحترمة جدًا في حديثها مع رجل يعجبها ثمّ يتبيّن لها أنّه مصاب بالإيدز ولا
يصلح لكي يكون حبيبًا؟
في مرحلة متقدّمة من الرواية يشعر القارئ بالتسرّع الذي سيطر على الصياغة،
ما يفضح غياب مصحّح أو محرّر كان عليه أن ينتبه إلى سهو لا ينجو منه أحد منّا
فتسقط حروف وتختفي كلمات وترد أخطاء تدلّ على ارتباك لم نلحظه في الصفحات الأولى
من الكتاب، مثل: "تواعدا على اللقاء في ثانية خلال إقامته ببيروت" (ص
132) والصحيح تواعدا على اللقاء مرّة ثانية خلال إقامته في بيروت، "لم يحدث
ما يدع إلى الزعل" (ص 137) والصحيح يدعو، "فهل يعني ذلك أنّها بحاجة إلى
عينها المعالجة التي احتاجها هاني" (ص146) والصحيح المعالجة عينها، "أراني
أعانق وسادتي الخالية إلّا من عطره الذي أدسّه كلّ ليلة على جسدي قبل أن
أنام" (ص 149)، فهل يتلاءم فعل دسّ مع العطر؟
لا شكّ في أنّ رياح الرغبة في الكتابة تعصف في وجدان نادين الأسعد فغالي
الغارقة بحكم عملها الإعلاميّ في عالم الكتب، غير أنّ الرياح لا تجري دائمًا كما تشتهي
السفن، وهموم المرأة وأهواؤها تستحقّ أفضل من شعارات تقليديّة لا تلائم المرحلة
والعصر، خصوصًا أنّ بطلة روايتها متحرّرة جدًّا، فكيف نصدّقها حين تقول: "هُم
الرجال يديرون الدفّة كما يريدون على وجه العموم، فبالإجمال هم يتّخذون من النساء
حلوى لما تتّسع لهم شهواتهم ويقذفون بما بقي إلى سلّة المهملات" (ص 171).
فإذا كان هذا قول فتاة جامعيّة تسافر إلى كلّ عواصم العالم بحكم عملها كمضيفة
طيران، ثمّ إعلاميّة جريئة، ثمّ زوجة رجل سياسيّ، فماذا تركت لغيرها من المعنّفات
والمعذّبات الراغبات في أبسط مقوّمات الكرامة؟
هناك تعليقان (2):
يا سلام عليك وكأنني قرأت الرواية سطرا سطر.. ولعلك وفرتي الكثير على القارئ الذي ارهقه الاختيار امام هذا الركام المعرفي .. يكفي ما لدينا من موروث ضجرت منه ارفف المكتبات ومخازنها .. سلمت يداك صديقتي الرائعة
عابدالقادر
يسعد أوقاتك
تسلم صديقي وألف شكر على إضافتك التي تصف حال الكتب والرفوف والمكتبات
إرسال تعليق