لم تستطع أضواء العمل التلفزيونيّ أن تبهر عينيّ الإعلاميّ "أنطوان
سلامة"، أو أن تلهيه عن عوالمه الداخليّة التي لا يصل إليها المرء إلّا وقد
تخفّف من واجبات العلاقات الاجتماعيّة ووطأة العمل الإخباريّ ذي الإيقاع السريع
والمعلومات التي أقلّ ما يقال فيها أنّها نقيض الشعر. من دون أن يعني ذلك في أيّ
حال من الأحوال انفصامًا في حياة هذا الشاعر الذي عرف كيف يوازن بين عالمين
متناقضين، وإن من غير أثمان لا بدّ من أن يفرضها واقع الأمر.
لذلك يبدو أنطوان سلامة، في مجموعته "العابر بين مزدوجين"
الصادرة عن "دار النهار"، عابرًا بين مزدوج الوقت والزمن ومزدوج النوم
والموت. ومفارقة واضحة أن يسيطر الحقل المعجميّ للمزدوج الأوّل على الصفحات الأولى
في حين تسيطر مفردات الحقل الثاني على الصفحات الأخيرة. كأنّ الشاعر لا يجد بابًا
للهرب من الوقت إلّا بالنوم، النوم الذي هو تمرين على الموت، فيقول: "أجمل ما
في النوم/ أنّك تجرّب الموت/ تحمل رفاتك بيديك" (ص34). والهروب ليس مجرّد
كلمة نطلقها جزافًا على موقف الشاعر، فهو القائل في قصيدة بعنوان "هروب"
(ص26): حان
وقت الهروب/ لم يعد في الشجرة ورد/ والذين
يقفون في الساحة/ لم يعرفهم البائع الجوّال"، ليؤكّد في
الصفحة التالية، من القصيدة نفسها أنّ "الذين
هربوا نجوا" وأنْ "وُجدت أقدامنا لنهرب".
يهرب الشاعر من الوقت، والغريب أنّ هذه
المفردة، أعني بها "الوقت" ترد أكثر من كلمة الزمن، كأنّ عمر هذا الشاعر
الشابّ لم يجعله بعد في مواجهة وجوديّة حادّة مع الزمن بل مع الوقت الآنيّ الذي
يعبر بين مزودجين كأنّه آتٍ من خارج سياق الكلام. وترد
كلمة "وقت" في هذا الكتاب (78 صفحة من القطع الصغير) نحو 25 مرّة، تليها
كلمات تتعلّق بالنهار والصبح والضوء والفجر في نحو 12 مفردة، والعمر بما فيه من
كبر وصغر وعتق وماضٍ 11 مرّة، والمساء مع الليل والسهر والعتمة 11 مرّة. أمّا
الدقيقة فترد 5 مرّات، والفصول 5 مرّات، ومتى وحين نحو 3 مرّات، والزمن والتاريخ
كذلك 3 مرّات، أمّا الأبد فترد مفردته مرّة واحدة. وهذا ما اختصره الصحافيّ الأديب
رفيق خوري على غلاف الكتاب الخارجيّ بقوله: "على ساعة يده تلتقي البداية
والنهاية. حيث لا بدايات ولا نهايات، بل سفر في الرؤيا نحو مملكة الصمت
والحكمة"، وفي ذلك إشارة إلى أكثر من قصيدة تدور معانيها مع دوران عقربي
الساعة، ومنها واحدة بعنوان "ساعة يده"، وفيها: "تحمل ساعة يده/
ستّين دقيقة/ فوق ستين/ وتحمل نعشه/ وباقات الزهور/ إلى قبره الجميل" (ص16).
أليس لافتًا أن يعطى القبر صفة الجمال في مجموعة شعريّة تكاد النعوت المباشرة
والصريحة تحصر في ستة (الخمس الأخرى هي: الدائرة المقفلة أي الساعة، البائع
الجوّال، الباب المقفل، نوم خفيف، الأميرة الصغيرة).
يحكم الوقت إذًا فكر الشاعر ويفرض عليه
إيقاعه الرتيب، معيدًا خلال مروره الذكريات والطفولة والجدّين والطبيعة، بينما لا
يتبدّى المستقبل له إلّا مع ذكر ولديه، وخصوصًا ابنته التي طمأنها إلى زوال العتمة
في قصيدة بعنوان "الأميرة" (ص 46): "الضوء الذي لم يصل/ كان
يتأنّى/ علّ الأميرة الصغيرة تكبر/ فتراه".
ومن أجل الولدين، وأمام ناظري شريكة
حياته، سيبني بيتًا يحميهما من عواصف الأيّام فيقول في قصيدة بعنوان "بيت من
خشب" (ص 58): سيبني بيتًا/ قبل
أن يداهمه المطر./ يسأل ابنه/ لماذا
بنيته/ من خشب ومسامير؟/ تسأل
ابنته/ لماذا جعلته/ بين
وردة وغيمة؟/ وحدَها/ تغمض
عينيها/ لتبصرَ/ حلم
العصافير.
عاجز "أنطوان سلامة" عن مواجهة
الوقت إذًا، فماذا يفعل؟ يطفئ الضوء، الضوء الذي لم يصل إلى العينين، ويشتهي
النعاس الذي يأتي عاريًا، وينام كي لا يرى، وكلّها من تعابير الشاعر. من هنا بلغ
عدد مفردات السهر والنوم والرقاد والنعاس وإغماض والعين والسرير والفراش 43 مفردة،
يكمّلها 12 مفردة للمساء والليل والعتمة والقنديل والسراج. في حين لا يترك للأحلام
سوى 4 مفردات. يقول في قصيدة بعنوان "فراش"
(ص73): حين يغفو/ يمشي
إلى نومه/ كمن يفتح نافذته للصباح. وينهي المجموعة
بقصيدة تحمل عنوان: "آخر السطر" (ص78): ليست
فاصلة ما تراه في آخر السطر/ إنّها صلاة ما قبل النوم/ حين
تغفو/ في ضوء لم يصل إلى عينيك.
أنطوان سلامة في مجموعته الشعريّة هذه
يعبر من الرؤية إلى الرؤيا، يشعر بوطأة الوقت الذي يعجزه عن فعل أيّ شيء، كما
يُعجزنا كلّنا، فيغمض عينيه باحثًا عن احتمال الحلم، الحلم الذي، لولا إيمان الرجل
وعائلته، لتحوّل كابوسًا في وادي ظلال الموت (ص23). أليست هذه حال الإنسان مذ وعى
عجزه عن مقاومة هشاشة وجوده وشراسة الآخر؟