الثلاثاء، 1 يناير 2019

بصبّحك بالخير يا عين




     في أوّل يوم من السنة كانت "بربارة" جدّة أمّي تنطلق مع الفجر إلى عين المياه المتفجّرة بسخاء في وسط الضيعة. تحمل المرأة المنتصبة القامة كالألف في يدها اليسرى الجرّة الفارغة وفي اليمنى صحنًا من الفخّار فيه كمشة من أصناف الحبوب التي أنتجتها الأرض كالعدس والحمّص والفاصولياء والقمح، وحين تصل إلى العين تبادرها قائلة: "صبّحك بالخير يا عين، ينعاد عليك وتضلّك تعطينا مي". تتابع العجوز الحكيمة تحيّاتها وتمنيّاتها وشكرها وهي ترمي الحبوب من الصحن الفخّار في حضن العين هديّة لها في مناسبة السنة الجديدة.
     النساء اللواتي يحاولن كلّ سنة أن يسبقن "بربارة" يصلن متأخّرات دائمًا ويردّدن اللازمة نفسها: إم يوسف سبقتنا وعيّدت العين قبلنا.
     وكانت العين تخجل من المرأة العجوز التي تقدّر معنى العطاء، فتتدفّق مياهها طيلة السنة إكرامًا لأمّ يوسف المعترفة بجميل الأرض وخير السماء وكرم الطبيعة. ومن أجل عين "بربارة" تسقي عين المياه المقيمين وعابري السبيل، الناس والحيوانات والزرع، فتكتمل حلقة الأخذ والردّ وتتناغم الكائنات وتنسجم، ولم يكن أحد يفكّر في أنّ أمّ يوسف مجنونة أو خرفة تتكلّم مع العين وتقدّم لها التهنئة بالعيد ولو كان الطقس عاصفًا مثلجًا لا حرارة تذيب الصقيع فيه لولا تلك التي في قلوب الناس.
     في ليلة العيد، تجتمع العائلة في بيت المرأة. خلال النهار أخرجت ابنتها "هنديّة" الحصر ونفضت عنها الغبار وما تساقط من رماد الموقد، و"مرحت" أرض الدار الترابية بالتراب الممزوج بالماء (دلغان). تعرف خالة أمّي كيف تداوي التراب بالتراب، مع أنّها لم تسمع بأبي نوّاس. ابنة أمّ يوسف الثانية "حنينة" نتفت ريش الدجاجة وحضّرتها للعشاء، جدّتي "هند" والدة أمّي ترتّب المكان، فالليلة سيأتي أفراد العائلة في الحيّ الفوقاني ليسهروا في بيت عميدتهم أمّ يوسف، أمّا عائلة الحيّ التحتاني فتجتمع في بيت آخر، الطريق الوحيدة التي تشقّ القرية هي الحدود بين الحيّين. في تلك الليلة يتوقّف القتال على جميع الجبهات، ويحمل جميع أهل الحيّ أطباق القشّ وعليها ما حضّروه ويجتمعون في بيت واحد، ليسلّموا على السنة الجديدة ويسلّموها أمنياتهم وأحلامهم.
     تتابع أمّي وصف مجريات السهرة وهي تعلن شوقها إلى تلك الأيّام، فأفكّر في أنّ المياه شحّت في لبنان لأنّ النساء نسين كيف يشكرن الطبيعة ويستدررن عطاءها. جفّت الصدور والغيوم والينابيع. فصار الحليب مجفّفًا والمطر كبريتيًّا والمياه ملوّثة. وحين تمتلئ الصدور بالسيليكون لا بدّ أن تكون الأجيال الجديدة من النايلون.

هناك 5 تعليقات:

Ramy يقول...

هأكتب عن حاجات كتير

أم يوسف لم تكن مجنونة أبداً و هما هارفين كدة

دى عادات أهل الزرع

والدى الله يرحمه كان بيجيب طبق قبل السنة الجديدة بكام يوم و يملاه حبوب قمح و قطن لغاية راس السنة تنبت خضار (:

أسم حنين جدتى لوالدى أسمها كدة (:

الحليب مجفّفًا والمطر كبريتيًّا والمياه ملوّثة. وحين تمتلئ الصدور بالسيليكون لا بدّ أن تكون الأجيال الجديدة من النايلون

الجملة دى ضحكتنى جداً (: (: (:

برغم قساوة حقيقتها

معلش رغيت برضه (:

جمال السيد يقول...

قال شاعرنا يصف كيف صار حال أهل قريته وتدعى (الجليلة):
كانه الجليلة فوق بايام السلف
م اليوم (وِلْئة) قد صورها ناشفة
كلٌّ مع الثاني بيشهد له سلف
من خبثهم كل المناهل نازفة

كانه: كانت، وِلئة: جماعة
أي والله، البطر يزيل النعمة.

المداواة النواسية علمية.
عافاش وسلّمش.

غير معرف يقول...

ينعاد عليك، انشالله تبقى البركة في البيوت

ماري القصيفي يقول...

رامي
أهل الأرض يتشابهون مهما كانت أسماء بلدانهم
أفكاري معكم في ما تواجهه مصر من مؤامرات
حماكم الله

وادي المعرفة
طبعًا المداواة النوّاسيّة علميّة وهذا ما أكّدت عليه لتلاميذي حين كنت لا أزال في مجال التعليم لأمحو من رؤوسهم ما زرعته المناهج التربويّة المشوِّهة التي تميّز بين العلم والأدب


غير المعرّف
شكرًا على التهنئة بالعيد ولتكن السنة الجديدة سنة خير وبركة

ميشال مرقص يقول...


رائعة ... هذه التراث ضيعناه ... وصرنا نفتش عن هويتنا الضائعة عند "عين أم يوسف"

روعتكِ أنّكِ مثل قوس قزح في ألوانك الأدبيّة

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.