أراد بو سعيد أن يتخلّى عن حماره بعد عِشرة عمر استمرّت أكثر من ثمانية عشر عامًا.
كبر الرجل في العمر وتعب من العمل وضجر من قحط الأرض، فقرّر أن يعتزل الزراعة ويتسمّر أمام التلفزيون آملاً في أن يربح في اللوتو أو اليانصيب. ولذلك كان من الطبيعيّ أن يتخلّص من حماره العجوز الذي بات يرهقه بنهيقه المزعج ويثقل كاهله بمصروف علفه، خصوصًا أنّ المسكين تقوّس ظهره من حمل أكياس الزيتون وتنك الزيت طوال مدّة خدمته، فضلاً عن الخضار والفاكهة. لكنّ التحرّر من المسؤوليّات تجاه الحمار العاجز لم يكن بالأمر السهل، فمن قد يرغب في شراء حمار، خاصّة إذا كان هذا الحيوان معتادًا العيش على أطراف العاصمة ويتنقّل بين السيّارات ويتفرّج على أولاد الذوات؟
بدأت المفاوضات مع أهل القرى وسكّان الجبل العاملين في الزراعة لعلّ أحدهم يريح الحمار من صاحبه الناقم ويريح الرجل من حماره العجوز. وواجهت عمليّة البيع مسألة أساسيّة: كم سيكون ثمن الحمار ومن يمكنه تحديد السعر؟ فسوق الحمير لا علاقة لها بأسواق المال والبورصة، وبالتالي على كلّ من البائع والشاري أن يحدّدا المبلغ المناسب على نحو لا يثير سخرية متتبّعي الخبر والمراقبين من سكّان البلدات القريبة من بيروت حيث يقيم الحمار، ولا سكّان القرية الجبليّة التي سينتقل إليها ليتابع تحميل الخضار والفاكهة. فإن كان السعر زهيدًا تعرّض البائع للسخرية لأنّ رفقة الحمير أساءت إلى أحكامه، وإن كان مرتفعًا سخر الناس من الشاري لأنّه في عصر الحداثة والآليّات المتطوّرة دفع مبلغًا كبيرًا ثمنًا لـ"حمار" موديله قديم وجسمه تعب وأيّامه معدودة.
استمرّت المفاوضات أيّامًا عديدة، استشار خلالها المعنيّون بالأمر مزارعين وتجّارًا لعلّهم يصلون إلى تحديد الثمن العادل الذي تستحقّه خدمات الحمار. وفي هذا الوقت بدأ اصحابه يستعيدون ذكرياتهم معه، والأمراض التي عانى منها، والحوادث التي وقعت له. وأخذوا يتذكّرون كيف كانوا يهرّبونه خلال الحرب خوفًا من القصف، وكيف كانوا يخبّئونه عن أعين المقاتلين خشية أن يأخذوه ويعذّبوه بغية التسلية والانتقام، وكيف كانت أزقّة البلدة تشهد عند كلّ غروب اللقاء التاريخيّ بين بو جريس العائد من حقله، محمِلاً حماره خضارًا وفاكهة سلمت من السرقة، وهواة رياضة المشي المنطلقين بثيابهم الأنيقة جماعات جماعات. كان ينظر إليهم ساخرًا من "قلّة عقولهم" وينظرون إليه مستغربين شكله العتيق. ثمّ يتابع الرجل طريقه وهو يفكّر كيف أنّه يتعب في العمل ويريد أن يرتاح وكيف يبحث هؤلاء عن التعب في الرياضة. وابتسم حين خطر له أن يعرض عليهم العمل في أرضه بدلاً من المشي على الطريق، لكان استفاد واستراح ولكانوا تعبوا وأصبحوا أكثر نحافة. غير أنّه صمت، وكبر، وضجر من نهيق الحمار وصار يريد أن يرتاح ولن يرتاح ما لم يبع الحمار ويتخلّص من مسؤوليّته تجاهه.
مع مرور الأيّام وتعثّر عمليّة البيع توتّرت العلاقة بين الرجل وحماره، فصار الأوّل يكثر من الصراخ والشتائم، والثاني من النهيق والرفس، وبات على العائلة أن تجد حلاًّ مشرّفًا ولو اضطرّت إلى دفع المال لمن يرغب في خدمات الحمار. وبعد اجتماعات مكثّفة وبعدما طال الانتظار قرّر الجميع إطلاق سراح الحيوان المسكين في غابة بعيدة، والتبرّؤ منه والتنكّر له في حال السؤال، وأن يقولوا لمن يصرّ على معرفة إن كان الحمار المتنزّه وحيدًا في الغابات والبساتين هو حمارهم: " ولو! شو ما في حمير إلاّ عنّا؟".
هناك 7 تعليقات:
سطور ادابيه من طراز ثرى
اعجبت بها جدا
تقبلى مرورى
أشكرك على مرورك ورأيك/ لك خالص تحيّاتي
ذكرتني يا ماري بقصة سيدة قديمة كانت تشتكي من قلة وفاء أهل بيتها، وتقول: "ولو ما في حدا منن بقلي العوافي بس تا وقف الحمار وانزل عنو" وإذا شي مرة كنت جايي لوحدي ما حدا بيتأهل فيي، غير الحمار، بدل يشهنق بس تا يسمع حسي وبيقول عن الكل: "يا أهلا وسهلا، يا أهلا وسهلا"
كانت ستي تقلي تا تعلمني بس بطريقتا: " الدبة ما بتدق مرتين" وكنت اتحير ليش بهينوها وبينعتو الغشيمي بالدبي والغشيم بالحمار.
قرأت مرة أن الذكاء يٌقاس بطول الأذنين، والنظرية علمية.
تعليقاً على الصورة الثانية:
من أجل العيش بعضهم يحمل الحمير.
أعجبني تعليق (Fr. Hanna). في لهجتها حلا آسر، فرحت لأن أهل قريتي بنطقون مثلها فيقولون "لقيتا" بحذف الهاء، وذكرني مقياس الذكاء العلمي بـ(Animal Farm) لجورج أورويل حيث كان الحمار هو الحيوان الذكي الوحيد في المزرعة.
قلمك الرشيق أخرج فكرة عتيدة مستنفدة بثوب جديد ومعنى جديد طريف زاخر بالفن وبالحياة.. وانفتح النص على تأويلات شتى. عافاك يا ماري.
وادي المعرفة أشكرك على كل كلمة يسمح لك وقتك بكتابتها لي وتجود بها محبّتك المترافقة مع حسّ نقديّ علميّ نحتاج إليه في حياتنا الأدبيّة. أعجز عن ردّ التحيّة بأحسن منها. فلتكن أيّامك سعيدة وهائنة.
Merci Madame de défendre la cause de l'âne. J'apprtiens moi-même à cette race:travailleur-fidèle-corvéable-patient- je vis seul ou presque-
إلى الصديق المدافع عن الحمار:
أغلبنا ينتمي إلى هذه الفئة العاملة المخلصة المتفانية الصابرة والتي يشعر كلّ فرد منها بالوحدة إلى حدّ كبير، لكنّنا نكابر ونصرّ على الانتماء إلى عرق يظنّ أنّه أسمى وأعلى شأنًا. وما نفعله كبشر ببعضنا لا تفعله الحيوانات.
اشكرك على المداخلة المعبّرة عن الكثير وإن بكلمات قليلة
إرسال تعليق