![]() |
مدفن زياد الرحباني في بلدة شويّا في المتن الشمالي |
شويّا شويّا يا شويّا
يا ترابا الغالي عليّا
ابني نايم بحضنك
حنّي ع إبني شويا
نصوص ومقالات نشر أكثرها في الصحف والمجلاّت اللبنانيّة والعربيّة بعضها باسم مستعار هو مي م الريحاني
![]() |
مدفن زياد الرحباني في بلدة شويّا في المتن الشمالي |
شويّا شويّا يا شويّا
يا ترابا الغالي عليّا
ابني نايم بحضنك
حنّي ع إبني شويا
ماذا نتعلّم
من حياة زياد وموته وقيامته؟
قد
تبدو نافرةً كلمة قيامة في العنوان، مع العلم أنّ الإيمان بقيامة الموتى من شروط
الديانات التوحيديّة. لكنّ القيامة التي أقصدها في هذه المقالة من نوع آخر. هي
قيامة موجة لافتة من الوعي تجاه فنّ زياد الرحباني، فضلًا عن إعادة قراءة مواقفه السياسيّة
والاجتماعيّة.
فمن
يتابع صفحات التواصل والمقالات عنه يجد أنّ الناس لا يتردّدون في الاعتراف بأنّهم
يسمعونه الآن بطريقة مختلفة، يمكن وصفها بأنّها أكثر عمقًا وأوسع فهمًا لما كان
يريد إيصاله لهم سحابة عمره، من خلال موسيقاه ومسرحيّاته وأحاديثه.
أعود
إلى السؤال عمّا علينا تعلّمه من تجربة هذا الفنّان.
زياد
الرحباني ظاهرة لن تفيها حقّها مئات المقالات التي كتبت، والبرامج التي عرضت،
والشهادات من عارفيه ودارسيه حاولت قراءة تجربته. وسيبقى لأجيال جديدة آتية محور
دراسة وتحليل وتقييم.
لكنّي
شخصيًّا سأكتفي بثلاثة أمور لافتة في حياة زياد وموته وقيامته من النسيان الذي
أراده لنفسه في السنوات الأخيرة من عمره.
أوّلًا:
عاش زياد ومات أمينًا لمبادئه الإنسانيّه وخطّه الفكريّ. فهناك فنّانون من جيله
ومعاصريه اعتبروا أنفسهم "ملتزمين"، لكنّهم أكلوا القضايا إذا جاز
التعبير، وهناك من أكلتهم القضايا وزياد على رأسهم. لقد ذهب هذا الرجل بعيدًا في
التزامه ولم يستفد منه. ذهب إلى الصلب عن سابق تصوّر وتصميم، رافضًا الانصياع
لإغراء ماديّ أو مكسب آني أو مساومة عائليّة. اختار طريقه ومشى وحيدًا نحو جلجلة
عطائه بلا مرافقين أو ألقاب أو امرأة تمسح وجهه المتعرّق الدامي، أو عابر سبيل
يساعده في حمل صليب العمر والغربة.
ثانيًا:
الحبّ عند زياد واقعيّ معيوش. صحيح أنّ أغنيات الحبّ عند الأخوين رحباني ليست
بالطهر الذي يحلو للبعض أن يضعوها في خانته، لكن زياد الرحباني راح نحو المباشرة
وفضح المشكلات وترك للمرأة مجالًا كي تطالب بتحقيق رغباتها فتطالب ببيت آمن وحياة
طبيعيّة، وعلاقة جسديّة...
منذ
زمن أراه الآن غير بعيد كما كنت أشعر قبل موت زياد، كنت أدرّس في الصفّ الثانويّ
الأوّل ما اصطلح على تسميته بالغزل العذريّ. فطلبت من التلامذة أن يقيموا مقارنة
بين قصيدتَي غزل (واحدة لجميل بن معمر وثانية لقيس بن الملوّح)، وأغنيتين لزياد
الرحباني تؤدّيهما سلمى، هما "ولّعت كتير" و"حبّك مش حقيقيّ".
اعتبر "الأهالي" هذا النشاط التربويّ عملًا ثوريًّا في مدرسة كاثوليكيّة،
لكن آفاقًا جديدة فُتحت أمام أعين التلامذة الذين اكتشفوا زياد (كما اكتشفوا في
مناسبات أخرى فيروز ومرسيل خليفة ومحمود درويش وطلال حيدروميشال طراد وغيرهم من
شعراء وفنّانين من خارج المنهج).
وما
لم يدخل زياد الرحباني بهذا الأسلوب إلى المنهج التعليميّ فكلّ تكريم له باطل
وآنيّ ولا يعوّل عليه.
ثالثًا:لا
يختلف اثنان على عبقريّة زياد الموسيقيّة التي تبدّت ملامحها منذ الصغر. لكن ما
يجب أن يتعلّمه جيل جديد من كتّاب المسرحيّات والأغنيات تحديدًا هو اختيار مواضيع
لم يلتفت إليها أحد بعد. إنّ الشجون التي تحملها أغنيات هذا الرجل تستحقّ أن تكون
مادة لدراسة علميّة اجتماعيّة تكشف عن عمق التصاقه بالمجتمع ويوميّات الناس.
فلنأخذ
مثلًا عبارة: "بعلمي أكلنا رجعنا جعنا لازم ناكل عن جديد" من أغنية إسمع
يا رضا التي يؤدّيها جوزف صقر توأم زياد الفنيّ. ففي عبارة من بضع كلمات يطالعنا
الهمّ اليوميّ المرتبط بحاجة الجسد إلى الغذاء، وما يتطلّبه ذلك من عمل وتضحيات.
ويمكن الاستطراد إلى سوق العمل ومعاناة المزارعين ودوّامة الحياة التي تفرض على
الإنسان غريزة حبّ البقاء... وهذا كلّه يحتاج إلى صفحات كثيرة من التحليل والتأمل.
إنّ
كتابة زياد أغنياته، عدا تلك التي لاءمت همّه الإنسانيّ كشعر جوزف حرب مثلًا،
لصيقة بحياته، إذ كتب كما عاش، وعاش كما كتب. لذلك لن يسهل تصديق فنّان آخر يكتب
من برجه العاجيّ عن الفقر، وآخر يغنّي من منتجعه الصيفيّ عن أتون الحرّ ولا كهرباء
عند الناس، وثالث يصدح من بلده الثاني المضياف الدافئ متحسّرًا على الذين يموتون
دنقًا.
صدق
زياد مع نفسه ومع الناس هو الذي سيصعب إيجاد شبيه له. فالعباقرة يولدون في كلّ
زمن، ولكن من النادر أن نجد فنّانًا صادقًا إلى حدّ بذل نفسه في الموسيقى والكتابة
والموقف في حين أنّ العصر عصر رفاهيّة وأنانيّة وتهافت على الشهرة والظهور.
لا
شكّ أنّ ثمّة مغنّين ومغنيّات بدأوا بالتعاون مع شعراء مميّزين برصد حاجات الناس،
فيطرحون في أغنياتهم أفكارًا جديدة على الأغنية اللبنانيّة. لكنّ المسار طويل
والعمل ليس سهلًا من أجل تأسيس جمهور يتذوّق هذه الأعمال ويفهمها. وهذان التذوّق
والفهم هما ما افتقده زياد في جمهور بات مع الوقت عبئًا عليه بدل أن يكون دافعًا
له لمزيد من العاء وحبّ الحياة.
***
هي
دروس ثلاثة في مسيرة زياد الذاهب عميقًا في دمنا، الذاهب عميقًا في الطحين (بحسب
تعبير محمود درويش) ليتنا نعمل على الاستفادة منها آملين ألّا نسمعه يصرخ بنا حين
نسيء إلى إرثه: وقمح!
يا مونة الخير
يا بيدر ومليان
السنة اللي كانت ناطرة
خلف البواب
نادرة ترجع
ت نبكي سوا
ع سنين إسما غياب
راس السنة عنّا
صار مطلع آب
وكلّ سنة بآب
رح ننر تطلّوا
تقعدوا معنا
وما نقبل تفلّوا
مشتاقة ليكن البيوت
مشتاقة ليكن بيروت
***
ما تنسوا في ولاد
لازم يرجعوا
ع غيابن زغرت تيابن
مين بدّو يلبسا
نعست عيونن
مين قادر يحرسا
اشتاقوا لحضن إمّن
ولو كان حضنا
بركة دموع ودم
والهمّ قال لاجريها اركعوا
اشتاقوا لكتف بيّن
ولو كان كتف البيّ
من صليب الحزن
صاير يوجعوا
هودي زغار
من الليل بيخافوا
الليل اللي جاب الويل
بعدو من هداك اليوم
يشرب دمع
ويلحوس شفافو
ويقول مين بدّو بعد
يرحل معي ويموت
مشتاقة ليكن البيوت
مشتاقة ليكن بيروت
***
رح نلتقي عند العصر
هونيك ع المينا
مطرح ما دمّ وقهر
بكينا مش عليكن بس
ع حالنا بكينا
مطرح ما صارت صوركن
زينة الساحات
مطرح ما صار الردم
عنوان للطرقات
مطرح ما السنابل عليت
ومن خجلها حزنت، تكيت
مطرح ما الحجارة بكيت
ع الناس اللي بلحظة صاروا
بلا حيطان تقدر تحمين
من نار كان بدا تمحين
وتترك وراها سكوت
مشتاقة ليكن البيوت
مشتاقة ليكن بيروت
حتّى لو
غرقوا عينيّي
بالعتمة بعرف
رح فيي
إقشع وجّك
بإيديي
يا لأغلى من
حالي عليّي
من خطواتك
بعرف إنّي
رح إركض صوبك
تغمرني
بتلاقيني
وبتحملني
بحبّ وشوق
وحنيّه
يا لأغلى من
حالي عليي
ريحة عطرك
بتنوّرني
بتبيعد
هالظلمة عنّي
بتخلّيني
إرقص، غنّي
وشوف إني أحلى صبيّة
يا لأغلى من
حالي عليي
لمّا بتحكيني ع العالي
بيتشيطن فيي خيالي
بتهمسلي
بيطلع ع بالي
حبّك شو بدي
بعينيي
يا الأغلى من
حالي عليي
![]() |
دلال كرم طليقة زياد الرحباني مع ابنها عاصي وهلي الرحباني شقيق زياد من مقابلة أجراها يحيى جابر مع دلال |
ع صوت الشتي اللي تأخر السنة رح إمشي معك ع
طريق مليانة سيارات وخبّرك حكايتنا الزغيرة ت تكون كلماتا علامات تدلّك ع طريق
الرجعة...
خلينا نبلّش من اول الحكاية لما أنا كتبت بجريدة الحياة عن كتابك "تلاثون
حكاية".
حضرتك كنت تعرف إسمي وكتاباتي
من وقت كنت إنشر بجريدة النهار وبعدين بالحياة وبعتقد صار عندك حشرية ت تعرف مين
هيي ماري القصيفي. ولما انعمل ندوة بجبيل وحفل توقيع لهالكتاب طلبت مني شارك وقول
كلمة وأنا عادة بتهرّب من الحكي ع المنابر... وقلتلك وقتا شو بدي قول أكتر من يللي
كتبتو عن الكتاب، وجاوبتني ما بينخاف عليكي.
كنت أنا كمان حابة إتعرّف عليك قد ما كنت سامعة عنك وبعرف نصوصك
وخبارك، رحت وحكيت، ومن وقتها انكتبت حكاية صداقة بينكتب عنك وعنها ألف حكاية
وحكاية. ولما كنت عم تكتب روايتك مهرجان طلبت مني
عيد قراءة الفصول، وما كنت عارفة رح تذكر إسمي وتشكرني مع يللي كمان طلبت منن
يقروا روايتك قبل طباعتها مع إنو أنا اللي لازم إشكرك ع ثقتك فيي.
لما خلقت يا جاد نسيت إنو اللي بيخلقوا لازم يكونوا أطفال زغار. او
بالأصح انت ما نسيت ولكن تناسيت وصار بدك تكبر بسرعة. ولما كبرت صار بدك تنسى انك
كبرت وصرت تمشي وما توقف بلكي العمر ما بيقدر يلحقك. وصار بدك ترجع زغير وتبلّش
الحكاية عن اول وجديد.
بحياتك فيه أكتر من تلاتين حكاية: السفر، الكتابة، السينما/، المرا،
الحب، الحريّة/، البحر، المغامرة، التحدّي/ البنوة، الزواج، الأبوّة/، الأخوّة،
الصداقة، الزمالة/، الكاس، الضحك، الطفولة/ الأرض، الوطن، الغربة/ الأسئلة،
المشاغبة، الشجاعة/ الحزن، الوحدة، المرض/، الجنون، النسيان، الخوف/، الإيمان،
الخيبة، الانتظار/ العمر، التعب، الموت... الموت اللي كنت عم تمشي صوبو وتواجهو
حتى ما يغدر فيك.
يمكن حدا يقول هودي كلنا منمرق فين ومنفكّر فين. صحيح. ولكن أكترنا
بيمرقوا حدن، حد قسم منن، ولكن اللي بيمرقوا فين وبيروحوا ع آخرن هني اللي متل
جاد. واللي متل جاد قلال.
كيف تجمّعت فيك كل هالحيوات والمشاعر والمغامرات؟ كيف كان جسمك يلبّيك
ت تجرّب كل شي، وما تخلي بعينك شي؟ كيف عقلك بقي يشتغل وكل هالشياطين ساكنة فيه
وآخدة راحتا؟
لما تعرّفت عليك قلت لحالي: الله يساعد اللي عايشين معك. ما في ليل أو
نهار، ما في وقت محدّد لشي او لحدا، كنت عم تاكل الحياة أكل بس مش بنهم الفجعان،
ولكن بتذوّق الخبير بكل ملذات الحياة.. ومرارة طعمها مرّات. بدك تختبر كل شي قبل
ما تحكم وتقرر وتستمتع. بدك تعيش لأنو بالآخر بدك تموت. تموت؟
هلأ عن جد انت متت؟ بحس إنك كمان كنت عم تجرّب الموت ت تتعرّف عليه
وتكتب عنو.
ياريت الوضع هيك يا جاد وبترجع. ولكن هونيك شفت إمك وبيّك وخيّك وما
عاد في شياطين براسك ما تخليك تروق، هونيك رقت ونمت بحضن إمك، إمك المرا الوحيدة
اللي قبلتك متل ما انت، وبعد سنة ونص من موتا لحقتا.
اشتقتلك يا جاد. وقت كنت تغيب أشهر طويلة كنت قول: أكيد مبسوط مع شي
ست ع ذوقو، أو قاعد عم يكتب. وكنت انبسط لفكرة إنّك مبسوط.
اليوم كمان انت مبسوط مطرح ما إنت، بس أنا حزينة، وما بعرف كيف بدي
اتركك تفل ت تروح مع إمك وبيك وخيّك.
ليش ما كان بدك حدا يشوفك بمرضك وضياعك، كيف نسيت إنو كلنا مرضى وكلنا
ضايعين... وكلنا بدنا حضن نغفى فيه وكتف نبكي عليه وقلب نسمع دقات خوفو علينا وإيد
نمسكها نحنا وفالين... وانت حرمت كتار بيحبوك إنو يكونوا الحضن والكتف والقلب
والإيد... وأول ما شوفك مطرح ما صرت رح عاتبك وإشكيك لإمك وبيّك وخيّك.
بتذكر؟ بتذكر مرّة قلتلي تعي ت نسافر.. بعرف ما بتحبي السفر بس معي
السفر غير شي لأني بعرف لوين بدي آخدك، اسألي كل يللي سافروا معي شو رفقتي حلوة.
قلتلك شو إنت مجنون، هيك الواحد بيحمل حالو وبيسافر...عندي مية شغلة ومسؤولية، هيك
منسافر من دون تحضير وتخطيط، ولما بلّشت
تنفّخ إنو ضاق خلقك من هالأعذار ضحكت وقلتلك يا ريتني صباح كنت غنيتلك: بيكفيني
كون مع شاعر مجنون تمشي ما أعرف لوين وأنا إمشي معك...
وإنت مشيت وما عدت تعرف ترجع... وأنا بقيت مع غنيّة صباح وعاتب حالي:
لو رحت معو كنت دليتو ع طريق الرجعة ولكن ع الأكيد كنت تركتو يبقى شاعر مجنون وإلا
ما بيكون جاد الحاج
رح يضل الأدب اللبناني ناقصو مجنون متلك يحكي ويكتب... ويسكتوا كل
العاقلين اللي ساكنن الضجر.
رح ضل اشتقلك يا جاد... وهيدا شي برغم عنادك ومزاجك وخناقاتنا الما
بتخلص ما فيك تمنعني عنو.
إلى سيلين ديون والياس خوري لا تحدّثاني عن الألم
بين الفيلم الوثائقيّ لسيلين
ديون عن تحوّل حياتها بعد المرض، ومقالة الياس خوري عن عام من الألم، مرّت أمامي
أنا ماري القصّيفي أربع وستون مرحلة من المعاناة النفسيّة والآلام الجسديّة، فلم
أتابع الفيلم ولم أتابع قراءة المقالة. يللي فيي مكفّيني!
لن أزايد على أحد في نسبة
المرض، ومستوى الأوجاع. فهناك من عانى وتعذّب أكثر من المسيح ومريم والحسين وزينب
وسيلين والياس، وأكثر منّي بما لا يُحصى من المرّات. يكفي أن نتذكّر سجناء الأنظمة
العربيّة والديكتاتوريّات العالميّة، وما يجري في الحروب، وما يعانيه ملايين
المعوّقين عن الحركة التامة منذ ولادتهم.
ليست هنا المسألة، بل في
أمراض الأطفال وآلامهم وهم لا يعرفون سببها ولا نتائجها ولا الآثار التي ستتركها
عليهم مدى الحياة.
سيلين ديون في الرابعة عشرة
من عمرها كان نجمها قد بدأ بالسطوع وتجري المقابلات، أنا كنت طريحة الفراش بسبب
العمليّة الجراحيّة الثانية. سيلين رقصت، غنّت، سافرت، مارست السباحة والرياضة، لبست
أحذية بكعب عالٍ، وملابس مثيرة، أحبّت، تزوّجت، أنجبت، عاشت أعمارًا في عمر. والآن
هي مصابة بمرض نادر. وكلّ ما يشغل بالها وبال العالم إن كانت ستعود للغناء، فضلًا
عن استرجاع أمجادها.
أنا كنت أسأل نفسي إن كان
سيتاح لي المشي. وإن كان أحد سيرضى بالارتباط بفتاة عرجاء في مجتمع يتسلّى
بالتنمّر، وحين ترفض رجلًا يقول لها اشكري ربّك لقيتي مين يطّلع فيكي. ولا تذهب
إلى البحر لأنّها تخشى أن تحرج من معها، ولا ترقص لأن لا أحد يدعوها إلى الرقص.
الياس خوري يصف عامًا من
الألم. دعني أخبرك يا أستاذي الذي أحبّ رواياته والذي نشر مقالاتي في ملحق النهار،
أنّني في العاشرة من عمري أمضيت سنة ونصف في السرير أخضع لعمليّة تطويل في الساق.
ولا يزال صوت تلك الفتاة يصرخ في أذني مع كل صباح حين تصحو وهي تعرف أنّ الطبيب
سيمرّ لثوان، وعلى مدى ثلاثين يومًا، ليطيل ساقها مليمترًا واحدًا يكفي كي تشعر
بأنّ الموت أسهل ألف مرّة. وفي هذه السنة والنصف تابعت برامج تلفزيون لبنان،
واستمعت إلى حوار بين المطران خضر وأنسي الحاج وغسّان تويني عن الله ودوره في
حياتنا، وأنسي يسأل بالنيابة عني، ربّما، لماذا يسمح الله بالألم. رحل أنسي وغسّان
واحتفل المطران خضر بعامه الأول بعد المئة. وما زالت تلك الفتاة تنتظر الجواب. وإن
تعلّمت مع الوقت والعمر أن لا دخل لله بكلّ ذلك.
الياس خوري أيضًا عاش وصار أديبًا
عالميًّا، وسافر والتقى كبار السياسيّين والأدباء، وتزوّج وصار أبًا وجدًّا، لكنّ
سنة واحدة من الألم في غرفة خاصّة له جعلته يعيد حسابات العمر. والصغيرة التي
كنتها وضعوها مع العجزة المحتضرين لأنّها لم تعد طفلة لتكون في قسم الأطفال.
مأساة تلك الصغيرة ليست في
رجلها، بل في ذاكرتها التي لا تنسى آلام الآخرين حولها. بينما سيلين والياس
يتحدّثان عن ألميهما الخاصّين. مأساة تلك الطفلة، وسواها من الأطفال المرضى
والمعوّقين أنّهم لم يعيشوا حياة كاملة ثمّ مرضوا. بل مرضوا وصار عليهم أن
يتعلّموا كيف يعيشون. وكيف يسدّدون الديون للأهل، ويعتذرون من الأخوات والإخوة
لأنّهم سرقوا منهم ع غير قصد الاهتمام والرعاية، وكيف يقنعون الأصحّاء أنّهم
يسمعون ويلاحظون ويبكون في صمت. لا بسبب أوجاعهم الجسديّة فحسب، بل لأنّ الندوب
التي التأمت في الجسد لا تزال تنزّ في الذاكرة.
قرأت منذ زمن مقالة للدكتور فيليب سالم، زمن كان
يعالج الثريّ أوناسيس. قال هذا الأخير لطبيبه وهما على شرفة القصر: أنظر إلى هذا
البستاني. أنا أحسده على صحّته، وهو يحسدني على ثروتي. فكّرت يومذاك أنّ هذا
الثريّ يريد كلّ شيء: الصحة والمال والجاه والشهرة والحب والزواج من أرملة جون
كينيدي، ولكن من قال له إنّ البستانيّ لا يكتفي بالصحّة وتشذيب الأشجار وريّها.
سيلين ديون لن يعنيها ما
أكتبه، ولن يخبرها أحد أنّني أتمنّى لها الشفاء ولكن أيضًا أن تتذكّر أنّها عاشت.
وآمل ألّا يعتب الياس خوري على الصبيّة التي تكتب الآن، وهي تستعيد مع تقدّمها في
العمر أوجاعها القديمة، وترجوه ألّا يكتب عن ألم سنة أمام من يتألم كلّ يوم. هل
هذا يعني أنّني لست متعاطفة معه ولا أتمنّى له الصحّة والعافية؟ قطعًا لا. لكني
أريد له أن يفكّر من خلال آلامه بآلام البشريّة التي كتب عنها في رواياته ولكن من
دون أن يختبرها في جسده. وأن يتذكّر كذلك أنّه عاش.
قال لي مرّة يحيى جابر بعدما
قرأ شذرات كتبتها في صحيفة النهار: اكتبي كل شي عن الشلل وخلّصينا. وضحك ليخفّف من
قسوة كلمته. وضحكت لأنّني فهمت ما يرمي إليه: ألّا يكون الشلل عذرًا أختبئ خلفه كي
لا أعيش. لكن لا يحيى ولا سواه فهم ما معنى أن تولول أمّي - بطيبة قلب أفهمها الآن
– وهي تراني أحمل ابن الجيران: إنتي ما فيكي تحملي ولاد، بتوقعي وبتوقّعين معك.
يومذاك قلت: إذًا من سيحمل أولادي؟ أو أن يستغرب والدي كيف يحبّني الرجال، فيخاف
عليّ منهم ويقول لأمي: أكيد عم يضحكوا عليا. يومذاك قلت: يمكن معو حقّ. أو أن
يخبرني أحد طالبي القرب المنسحب: قالولي ما بتجيبي ولاد. فأقول ساخرة: وهل أنا
مريم بنت عمران كي أنجب من ساقي؟ طبعا الزلمة ما فهم شي.
فيا أيّها المتألّمون الكبار
العاجزون عن تقبّل الألم... اخشعوا أمام أوجاع الصغار والفقراء والمعوزين. فلا
أنتم ولا المسيح ولا مريم ولا الحسين ولا زينب ولا الله نفسه بقادرين على شرح سبب
المرض أو الإعاقة لطفل أو طفلة، ومحو ما تركته المعاناة في نفوسهم.
كنت اثنتين. ولكنّ أحدًا لم يصدّق. وبقيت اثنتين حتّى اللحظة الأخيرة. ولم يقبل أحد، أصرّ الجميع على اعتباري أقلّ من واحدة.
عندما اسودّت الدنيا في نظري، هذا ما سمعتم يقولونه في وصف حالتي، فهمت أنّّ الآخرين يرفضون أن يروا ما أرى، لذلك نقلوني إلى المصحّ، لعلّني أرى ما يرونه. لكنّ المكان الذي أُخذت إليه زادني اقتناعًا بأنّ الطريقة التي أتعامل بها مع الوضع هي الأكثر أمانًا والأكثر وعيًا.
وحين دخلت في الصمت الضبابيّ وجدت متعة في النظر إلى العالم والناس من خلال حجاب رقيق، خيوطه الدهشة المكبوتة والقبول القانع. ولكنّ أحدًا لم ير ذلك، كأنّ ما يقف بيني وبينهم يسمح لي بالرؤية من جهة واحدة، في حين كانوا يتخبّطون في سعيهم إلى الإدراك والتحليل بلا أدنى نجاح.
لذا لم بفهم أحد كيف انتقلت من الصراخ الأحمر إلى الصمت الأصفر. أنا نفسي لم أفهم كيف استطعت إقناعها بأنّي بتّ عاجزة عن تحمّل نوبات صراخها وانفعالها، وبأنّ خوفها من الليل، واختباءها تحت السرير حين تظنّ أنّ خطرًا يهدّدها لن يجديا نفعًا، بل إنّها تلهيني في الحقيقة عن أمور كثيرة يجب أن أفكّر فيها، وأحلام يجب أن أحقّقها.
وهكذا أمضيت الليالي وأنا أحتضن رعبها، وأغنّي لتوتّرها كما كانت أمّي تغنّي لها، لعلّها تهدأ وتنام. وحين توصّلت بعد أعوام إلى إشراكها في لعبة الصمت، لم يعترف لي أحد بالنجاح، وظنّ الجميع أنّ الأدوية الملوّنة والصدمات الكهربائية فعلت فعلها أخيرًا.
أعوام الصمت لم تكن كلّها صمتًا. كانت تفلت منّي أحيانًا ابتسامات أحار أنا نفسي في فهم أسبابها، ولكنّها كانت تمرينًا جيّدًا لوجهي المتيّبس من انحسار الحنان بعد رحيل أمّي.
عندما ماتت تلك المرأة التي لا أذكرها إلّا منكسرة النفس، اكتشفت أنّني سأشتاق إلى البيت الذي لن أعود إلى زيارته. كأنّ أمّي هي بوّابة البيت. وبغيابها النهائيّ لم يبق ممكنًا الدخول إلى الغرف الأنيقة والسرير الدافئ، واستنشاق العطر الذي لا يوجد إلّا حيث تكون. وحين كنت أزور البيت في مناسبات متباعدة كنت أتزوّد الألوان والروائح وملمس الأشياء. وهناك في المصحّ حيث كلّ شيء أبيض مريض، ورائحة النظافة تحاول أن تلغي خصوصيّة كلّ واحد منّا، كنت أنعزل وأستعيد ألوان المقاعد المتعبة، ورائحة الأغطية الحنون، وخشونة الجدران العتيقة، وأشعر بأنّ أمّي هي الوحيدة التي فهمت صمتي ودخلت فيه من دون أن تزعجه.
يوم ماتت أمّي كانت جميلة وحزينة. أعرف ذلك ولو لم أشهد عليه. أعرفه كما عرفت أنّها ماتت من غير أن يخبرني أحد أو أسأل أحدًا. ويوم متّ أنا كنت بشعة وغريبة. ولكن ما يعزّيني هوأنّي لم أكن أنا. وحين كنت أنظر إلى النعش البنيّ الذي سُجّيت فيه، في انتظار وصول أفراد قلائل من الذين تذكّروا وجودي، كنت أراقب وجهًا غريبًا لم أعتده طيلة عشرين عامًا من إقامتي في المصحّ. إقامة؟ لا أعرف لماذا أستعمل هذه الكلمة وكأنّي كنت أنزل في فندق فخم لا رغبة لي في مغادرته. لم أكن أملك في الحقيقة أدنى رغبة في الخروج من المصحّ الذي لا يشبه الفندق. فهو مكان كسواه. كنت أريد الخروج منها هي. لقد تعبت من الاهتمام بها.
في البداية لم يعنني المكان إلى الحدّ الذي كان يظنّه الذين حولي. لا لأنّي لم أعِ وجودي فيه، وما يحوطني من مآس وأمراض نفسيّة كانت تبكيني على أصحابها. بل لأنّي كنت أعتبر أنّ مروري من هنا لن يطول وسأغادر قريبًا هذا المكان الذي لم يستطع أحد أن يحزر سبب دخولي إليه. لا. هذه ليست الحقيقة. أمّي كانت تعلم، وأنا كنت أعلم، والأخرى التي أقيم في جسدها كانت تعلم. ولكننا صمتنا ولم نخبر أحدًا، وقبلنا الإقامة في هذا المكان في انتظار أن يصدّق الآخرون، كما صدّقت أمّي أنّي اثنتان. وأنّ هذا الأمر طبيعيّ جدًّا، ولشدّة ما هو طبيعيّ اعتبره الجميع، ما عدا أمّي، غير طبيعيّ ومرفوضًا.
في البداية لم يعنني المكان، ولا الزمان الذي يتجمّد لحظة يعبر الحيطان المرفوعة. ولم أخف فعلًا إلّا حين فقدت القدرة على استعادة الألوان التي بهتت في ذاكرتي، والرائحة التي لم تكن لتعود إليّ إلّا في الحلم. ومنذ ذلك الوقت وأنا أنتظر.
كنت سعيدة في الكنيسة الخالية إلّا من وجوه حائرة بين التأثّر واللامبالاة، والباردة لولا جمرة تحاول أن تغفو فتوقظها حبيبات من البخور تعيد إلى ذاكرتي المتعبة رائحة البيت حين كانت أمّي تحاول أن تطرد عنّي الأرواح التي تريد احتلال عقلي وجسدي، قبل أن تصدّق أن لا علاقة للأرواح الخبيثة بالأفكار التي تضجّ في رأسي والمشاعر التي تصطرع في قلبي، والتي لم يكن الزمن الذي عشت فيه زمنها، ولا المكان مكانها. فرضخت أمّي ورضيت بالأخرى التي أقيم فيها وصارت تستقبلها كما تستقبلني، كأنّها تحاول استرضاءها خوفًا عليّ منها, وتعلّمت مع الوقت كيف تحبّها كأنّها ابنتها.
ولو كانت اليوم في وداعها لوضعت على نعشها زهرة. ولكانت الزهرة الوحيدة.
كنت أقف شابّة جديدة وحرّة، وكانت الأخرى في الجسد الذي أغلق عليه النعش عجوزًا أتعبها الصراخ المحنوق وشوّهها الزمن البطيء. ومرّة أخرى عجزت عن أن أثبت لهم أّنّنا اثنتان، ولا علاقة لي بها سوى أنّي محكومة بالإقامة في جسمها العاجز. مرّة أخرى رحلت إلى المكان الأبيض ولم أجد الكلمات الواضحة. مرّة أخرى خانتني، هي، وانتقمت منّي. فجسدها البارد الآن لن يسمح لي ولو بابتسامة باهتة بلهاء على وجه متيبّس، يشتاق إلى قبلات تساقطت عن شجرة العمر مع رحيل أمّي. أمّي التي لم أعرف أحيانًا من كانت تقبّل فينا.
لم يجد الكاهن ما يقوله في عظته. أنا نفسي لم أجد طيلة حياتي الكلمات التي تستطيع حمل ما أشتهي قوله. الآخرون الحاضرون كانوا على عجلة من أمره. أنا نفسي كم استعجلت الخروج من الأبيض الضبابيّ وها هو أبيض الساتان الرخيص ينتظرني. السرير في المصحّ متلهّف لاستقبال سواي. أنا نفسي كنت أرغب في الرحيل، في النسيان، في منح الذاكرة أخيرًا متعة الكسل والتثاؤب بلا تفكير، بلا تحليل، بلا انتظار.
الشمعة في زاوية الكنيسة ترقص رقصتها الأخيرة. في استطاعتي الآن أن أمشي صوبها. منذ زمن بعيد لم أحتفل بعيد ميلادي. هل كنّا عهدذاك نحتفل بأعياد ميلادنا أم هي ذاكرتي تختلط عليها الأمور؟ انحنيت على الشمعة الهزيلة. أغمضت عينيّ وفكّرت في أمنية. جمعت الهواء في رئتيّ. نفخت في قوّّة ادّخرتها طيلة تلك الأعوام. انطفأت الشمعة. وفي الظلام الذي حلّ فجأة شعرتُ بتعب شديد، وأردت أن أنام إلى جانبها في النعش البسيط. رغبت في أن أغفو وأنا أحتضن كهولتها المستسلمة، ولكنّ الرجال أسرعوا في حملها وغادروا.
مسكينة أمّي.
كان أجدادنا الموارنة يردّدون مثلًا يقول: "من القلّوسة للقلّوسة ، إيّامنا بتكون منحوسة" ومعناه أنّ الطقس يكون عاصفًا من عيد مار أنطونيوس أبي الرهبان في 17 كانون الثاني حتى عيد مار مارون في التاسع من شباط (والإثنان كانا يعتمران القلنسوة ، القلّوسة) (وبينهما مار افرام السرياني)
لذلك وبسبب النحس غير المتأتي من الطقس والبرد،
وفي مناسبة عيد مار انطونيوس الكبير اليوم ولغاية عيد مار مارون أنشر سلسلة مقالات (قديمة وحديثة) عن الأيام المارونيّة المنحوسة
على رجاء أن تعود المارونيّة لاعتمار القلنسوة الرهبانيّة التي صنعت مجدهم ورسمت هويّتهم
نصّ رقم ١
لا تصدّقوا مسيحيًّا لبنانيًّا يبيع أرضه
صحيفة النهار - 5 آب 2009
لا تصدّقوا مغتربًا مسيحيًّا عائدًا إلى ربوع الوطن بعد طول غياب ليقول لكم إنّه يحبّ لبنان، ويتابع أخباره، ويقلق على مستقبله، ويؤسفه ما آلت إليه أوضاع أبنائه المسيحيّين... لا تصدّقوه لأنّكم حين تسألونه إن كان يملك قطعة أرض في لبنان، سيجيبكم في حزم لا يقبل النقاش: لبنان يصلح لشمّ الهوا والعطلة والسياحة، أما الحياة فيه فلا تطاق بسبب الفوضى والفساد، فضلاً عن أنّ مصير المسيحيّين فيه إلى زوال.
ولا تصدّقوا إعلاميًّا مسيحيًّا يحاور ويناور ويسأل ويتّهم ويعارض، وكلّ ذلك في سبيل الوطن وحريّة الكلمة وحقوق المواطنين ومستقبل المسيحيّين. لا تصدّقوه لأنّكم حين تسألونه إن كان يملك في أرض لبنان أمتارًا من التراب توازي عدد ربطات عنقه أو ساعات يده أو قمصانه أو جواربه أو اللوحات التي تصوّر مشاهد من بلده الحبيب، سوف يجيبكم بثقة من يعرف كلّ شيء: الإطلالات الإعلاميّة والعلاقات العامّة تفرض نمط حياة خاصًّا، ولا يمكن التوفيق ما بين البذخ على الحياة الاجتماعية وشراء الأراضي، ثمّ حين أقرّر شراء عقار فسيكون شقّة باريسيّة أو نيويوركيّة.
ولا تصدّقوا مدرّسًا مسيحيًّا يعلّم تلامذته محبّة الوطن ويعطيهم دروسًا في المواطنيّة، ويجبرهم على حفظ النشيد الوطنيّ، وتقديم مسرحيّة من وحي عيد الاستقلال، وموضوعات إنشائيّة في ضرورة التضحية في سبيل لبنان. لا تصدّقوه لأنّكم حين ستسألونه إن كان حافظ على قطعة الأرض التي ورثها عن أبيه وجدّه سيقول لكم وهو يهزّ رأسه علامة الأسى: كان عليّ أن أبيعها لأرسل الأولاد إلى أميركا وفرنسا كي يتابعوا دروسهم، فالحياة هنا لا تبشّر بالخير، والمستقبل غامض.
ولا تصدّقوا رجل دين مسيحيًّا حين يعظ عن ضرورة التمسّك بأرض الشهداء والقدّيسين، ويصرخ فيكم من أعلى منبر كي تتحمّلوا الظلم والاضطهاد على مثال من سبقكم على هذه الأرض، لا تصدّقوه لأنّكم إن سألتموه عن عقارات الوقف التي بيعت فسيحاول أن يقنعكم بأنّ بيع الأراضي خطّة ذكيّة من وحي السماء ولن يفهم أهل الأرض أبعادها لقسوة قلوبهم وغباء عقولهم.
ولا تصدقوا رئيس مدرسة مسيحيًّا حين يقول لكم لا تخافوا أنا معكم وإلى جانبكم كي تعلّموا أولادكم وكي يبقوا في هذه الأرض. لا تصدّقوه لأنّكم حين تعجزون عن دفع القسط سيطلب منكم أن تبيعوا أرضكم كي يبقى أولادكم في صفوف تعلّمهم قصائد وطنيّة تدعو إلى التعلّق بالأرض.
ولا تصدّقوا محازبًا مسيحيًّا يصرخ بأعلى صوته بأنّه مع هذا الزعيم ويفديه بالدم والروح أو مع ذلك القائد فيعادي كلّ الناس من أجله، لا تصدّقوه لأنّه باع أرضه كي يشتري سيّارة لابنه ويقيم عرسًا لابنته، فمن كان في مثل مركزه (وهو مجرّد محازب صغير مجهول لم يقرأ في حياته الحزبيّة مقالة سياسيّة أو يستمع إلى خطاب قائده) لا يجوز له أن يبهدل أولاده فيحرمهم متعة قيادة سيّارة سريعة أو إقامة حفل زفاف أسطوريّ.
لا تصدّقوا كلام مواطن مسيحيّ لا يملك قطعة أرض في وطنه مهما قال عن تعلّقه بلبنان. ولا تصدّقوا أنّ المسيحيين اللبنانيّين مجبرون على بيع أرزاقهم لأنّهم في حاجة إلى المال، ولا تصدّقوا أنّ المسيحيّ اللبنانيّ لا يستطيع أن يشتري قطعة أرض صغيرة في أيّ جرد لبنانيّ ليبقى له موطئ قدم في هذا الوطن. فلو أراد المسيحيّ لكان اشترى عددًا من حبّات التراب تفوق عدد حبّات البرغل في الكبّة والتبّولة اللتين لا تغيبان عن مائدته، ولاشترى كميّات من الهواء النظيف تفوق ما ينفثه من دخان سيكاره وأركيلته، ولاشترى أشجار زيتون أكثر بكثير من عدد قطع الحليّ في يد زوجته وعنق صديقته وأصابع ابنته. لو أراد اللبنانيّ المسيحيّ لكانت الأرض له، ولما وقف على أبواب السفارات والدول يتسوّل الكرامة والبقاء.
(نشر النصّ في صحيفة النهار بعنوان: لا تصدّقوا هؤلاء)
#ماري_القصّيفي
#الموارنة_مرّوا_من_هنا_جزء_٢
فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...