الأحد، 21 سبتمبر 2025

أنا المارونيّة اللاشيوعيّة الموقّعة أدناه أعلن...

 


أنا المارونيّة اللاشيوعيّة الموقّعة أدناه أعلن...

أنا الموقّعة أدناه، ماري القصّيفي، المارونيّة اللاحزبيّة، كتبت يوم مات رضوان حمزة عام 2016 نصًّا بعنوان:
"عن موت رضوان حمزة الذي يميتني خوفًا"، فتداوله الشيوعيّون وحقّق 63 مشاركة، عدا مئات علامات الإعجاب ورسائل التقدير.

في 2022، حين رحل مازن عبّود كتبت نصًّا بعنوان: "مازن عبود من طلب منك أن تطلق الرصاصة الأولى؟" فتناقله 83 شخصًا، فضلًا عن مئات أثنوا وشكروا.

في 2023، مات فيصل فرحات فكتبت: " كل مرة بكتب عن الحزب الشيوعي بيكون مات حدا من الحزب، وكل مرة بينكتب انو اللي مات كان مناضل أو مثقف وإنو مات مريض متروك وما حدا سأل عنو... ومش معقول كل مرة يكون في مبالغة بالحكي عن الإهمال".

وفي 2024 مات ابراهيم قيس. فلم أكتب.

    لكنّ رنا غنوه ابنة الشيوعيّ وزوجة الشيوعيّ كتبت على صفحتها في فيسبوك عن أبيها أطال الله في عمره:

    "بابا مواليد 1957 / عاش فقر وجوع ال 1960/ رجع عاش الحرب الأهلية 1975/ رجع الاجتياح اكل مستقبله 1978/ تجوز ماما وعاشوا سوا من 1980/ خسروا كل رفقاتهن وخالي وكتير ناس بعد حوادث اغتيالات اللي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي/ خسروا كل اللي جمعوه ليعيشوا مع بعض بال 1985 وما تلاها من تدهور الليرة ب وقتها/ رجعوا لملموا حالهن وجابونا انا واخواتي/ تم أسره متل كل شباب الضيعة 1987/ بعدان بلش الإحتلال وعيشة القرف/ بعدان تحررنا عام 2000/ بعدان صارت حرب تموز 2006/ بعدان نزلنا عالجامعات وتعلمنا وصار يخاف علينا/ بعدان اشتغلنا وعملنا عائلاتنا وخلص كل حدن بحاله/ بعدان عمل جلطة دماغية اودت لشلل جانبي عندو 2012/ بعدان تعافى جزئياً وكمل عيشتو/ وصارت حرب 2024... وهو بيقول: كل اللي انقال فوق كوم، وهاي الحرب كوم. وأنا بقول مش حرام جيلهن وجيلنا وجيل ولادنا يعيشوا كل هالأشياء؟ حرب لا أفق لها/ لا هوية لها/ بلاد لا افق لها/ لا هوية لها" (انتهى كلام رنا).

(رنا غنوة: اختصاصيّة صحة اجتماعيّة وخبيرة في الحماية الأسريّة والدعم النفسيّ. كاتبة شعر ونثر وناشطة في الشأن الإنسانيّ)

     ماذا يعني كلّ ذلك؟

     بعد مئة عام على تأسيس الحزب الشيوعيّ، وما انبثقت عنه من منظّمات وحركات ضمّت آلاف المنتسبين، وبعد المشاركة في الحرب اللبنانيّة، والمساهمة التي لا بدّ من الاعتراف بنجاحاتها ضدّ إسرائيل، ماذا يمكن للحزب الشيوعيّ أن يقول وهو يرى إلى نفسه اليوم بعيدًا مئة سنة عن مفكّريه وقادته ومثقفيه المقتولين وبعد الإبادة في غزّة؟

    في حوار مع صحافيّ صديق، عتيق في الكتابة السياسيّة ومتمرّس في القيادة الحزبيّة سألته: هل يفهم الشيوعيّون اليوم ما تكتبه؟ اعترفَ أنْ لا. يفهمها فقط من هم من رعيله أو من المشتغلين على أنفسهم لغة وفكرًا.

     والباقون؟ سألته. ما دورهم.

     أجاب: كلّ الأحزاب في مرحلة معيّنة اضطرّت إلى استقبال طالبي الانتساب إليها ولو من دون فهم للعقيدة. الأعداد كانت عهد الحرب أهمّ من الإعداد الفكريّ، وحملة السلاح كانوا بالنسبة إلينا أهمّ من حملة الشهادات. فتنازلنا عن المستوى الثقافيّ.

      للحرب شروطها ومتطلّباتها. والذين كانوا يؤمنون بالشيوعيّة فكرًا وعقيدة تقدّم بهم العمر على دروب الخيبة، ومات أكثرهم فقيرًا معدمًا مريضًا مهملًا. والعدد الذي كان مطلبًا قتاليًّا زمن الحرب، بقي ضرورة ملحّة لموسم الانتخابات.

       لا يغيب عن بال أحد ما فعلته الشيوعيّة في العالم، وما أحدثته من تغيّيرات في أنظمة الدول وفرض مشاركة المرأة في الحياة السياسيّة وتحديد أيّام العمل ومنع عمالة الأولاد وسوى ذلك كثير. لكن في لبنان، هل يمكن الحديث عن إنجازات تتعدّى العمليّات الاستشهاديّة، فمات الذين واللواتي كانت تليق بهم وبهنّ الحياة، ليبقى من يقتل كلّ حياة حرّة وفرح مشروع؟

      في الأحزاب كلّها قدامى متروكون منسيّون. يتنكّر لهم القادة الذين تسلّقوا جراح مرؤوسيهم وتعبهم ونبل أخلاقهم ليصلوا إلى قمّة الفساد، وبين هؤلاء القدامى من يسخر منهم أولادهم قائلين:

       جيلكم ماذا فعل لنا؟ تركتمونا أطفالًا في أحضان أمّهاتنا وذهبتم لتصنعوا لنا وطنًا، فلا ربحناكم آباء ولا عدتم إلينا بمستقبل آمن. ذهبتم لتحرّروا فلسطين فخسرنا بسببكم لبنان. غادرتم على عجل لتنقذوا القدس وأنتم تنشدون "الآن الآن وليس غدًا"، فلا أنتم غنمتم "الآن" ولا نحن ربحنا "غدًا".

وحين كنتم تتسلّلون إلى أسرّتنا ليلًا مغافلين الجواسيس لتسرقوا قبلات من جباهنا، تركتكم خلفكم وعودًا لأحلامنا الصغيرة بمشاريع كبيرة عن الحريّة والمساواة والعلمانيّة والعلم. وحين استيقظنا وجدناكم مشرذمين مضطهدين مهاجرين يائسين مرضى مقعدين. وفي كلّ مرّة تنفجر الأمور في غزة تنتفضون في كراسيكم المتحرّكة كأنّكم تقودون دبّابات، وتلعنون العكّاز لأنّه ليس بندقية، وترمون أطرافكم الاصطناعيّة لعلّها تصير قنابل. وتبكون. تبكون على أنفسكم، على عائلاتكم التي لم تعرف الأمان، على نساء صرن عجائز وهنّ ينتظرن خروجكم من الأسر، على المجد الذي كان لكم، على رفاق سبقوكم إلى حيث اكتشفوا أنّ الحرب لم تكن من أجل لبنان، وقطعًا ليس من أجل فلسطين، وهناك سمعوا ملاكًا يقول لهم ضاحكًا: ألستم أنتم الذين واجهتم الله وسكتم أمام حزبه؟

        أيّها الشيوعيّون الأعزاء

         مؤسف أنّنا نحن الجيل التائه ضعنا بين سلام واهٍ عرفه لبنان زمن الستينات مع ملامح بحبوحة وحريّة ولو بعيدة عن الأطراف والريف، وبين جيل يهزأ من سلامنا الهشّ وحروبنا العبثيّة ولا يحلم إلّا بجنسيّة أجنبيّة أو فرصة عمل في دولة خليجيّة.

        محزنٌ أن تصير أغنياتكم وأناشيدكم ذكريات لمغنٍّ يكاد، لولاكم، ينفض عن صوته كلماتها. ثمّ فجأة وعند مجزرة جديدة يمسح الغبار عن آلته الموسيقيّة ليدعوكم إلى القتال والاستشهاد. هو يدفعكم إلى الموت وأنتم تدفعون ثمن بطاقة الدخول وتصفّقون.

مذلّ أن تصير شواهد القبور شاهدة على أكبر لقاء شيوعيّ في انتظار مأتم آخر، ورثاء آخر، ودمعات افتراضيّة عبر مواقع التواصل لا تحرق العين ولا تطفئ الغليل.

        معيب أن يكون لبنان في آخر سلّم اهتماماتكم، وأن تحبّوا فلسطين أكثر ممّا تحبّونه، وأن تخافوا على أهلها وتخافوا من أهله، وأن تنسوا مرفأ بيروت لأنّ ضحاياه أقلّ عددًا من ضحايا غزّة.

        تعبتُ منكم ومن سواكم. كلكن يعني كلكن. لا عامل لبنانيًّا يريد العمل والكلّ يضطهد السوريّين العاملين، ومع ذلك تحتفلون بالأوّل من نوّار. بلد الكسالى يحتفل بعيد العمّال. بلد انتقل من الزراعة إلى الخدمات السياحيّة وينقّ من الجوع والفقر ولا يعرف كيف يستخدم المطرقة والقدّوم. بلد يريد أكثر سكّانه عودة الحرب كي لا يعمل بل ينتظر صناديق الإعاشة تهبط عليه من السماء. بلد يعمل الناس فيه السبعة وذمّتها ويعظون عن العفّة والثواب والعقاب والوطنيّة... والقدس وغزّة.

في 14 كانون الثاني 2009، كتبت مقالة في صحيفة البلاد البحرينيّة تبدأ بهذه الجملة: "هل كنّا في حاجة إلى حرب غزّة كي نجد لأنفسنا قضيّة نتكلّم عنها ونقوم بمظاهرات من أجلها ونثور ونبكي ونغضب ونريح ضمائرنا؟" وفي 2012 نشرت قصيدة بالمحكيّة عن أطفال غزّة عنوانها: ما عادوا عم يلعبوا قدّام البواب...

        ومع كلّ حرب على غزة تستعاد الكلمات نفسها، وتُستعار خلال مجازر سوريا، وعند قصف الجنوب... كلمات كلمات كلمات...

        فيا أيّها الشيوعيّون اللبنانيّون

        انتهى دور لبنان الكبير عند وصوله إلى المئة عام، وأنتم اليوم، كما لبنان، إلّا:

- إن انتفضتم على قياداتكم المتردّدة الخائفة، وأعدتم إلينا نحن غير الشيوعيّين الإيمان بأنّكم حقًّا علمانيّين، وبأنّكم تعيدون كلّ يوم، على مثال جورج حاوي، مراجعة مواقفكم، وبأنّكم تحتملون النقد وتتقبّلونه.

- إن أعطيتم لبنان المرتبة الأوّلى في مسار إصلاحكم كي نصدّق أنّكم تحبّون بلدكم أوّلًا، لنؤمن أنّكم تحبّون بلدان العالم المضطهدة، وفي مقدّمتها فلسطين.

- إن أعدتم الدور، ولو من باب الاستئناس بالرأي، لحكمائكم من أهل القلم والصحافة والفكر والأدب.

- إن أعدتم للثقافة مجدها كما كانت عهد مهدي عامل والمطران غريغوار حدّاد وعصام محفوظ وأكاد أقول الأب ميشال الحايك...

- إن جاهدتم من أجل نشر كتاب بمثل ما تدافعون عن ملهى أقفلوه أو مسبح أغلقوه.

 

وإنْ لا، فأنا الموقّعة أدناه، ماري القصّيفي المارونيّة المضطهدة مارونيًّا، واللامنتمية إلى أيّ حزب أو تيّار أو حركة، أعلن سلفًا الحداد على من يموتون منكم فقراء مرضى عاجزين متروكين مذلولين في حرب قالت عنها رنا غنوة: "مش حرام جيلهن وجيلنا وجيل ولادنا يعيشوا كل هالأشياء؟ حرب لا أفق لها/ لا هويّة لها/ بلاد لا أفق لها/ لا هويّة لها".

 

 

 

 

 

 

الخميس، 18 سبتمبر 2025

النكّيشة

 

الصورة من الإنترنت

النكّيشة

كلمة جديدة أدخلها الواقع الاقتصاديّ المتردّي، والفساد المستشري في الدولة، وغياب أيّ حل لمشكلة النفايات: "النكّيشة". رجال ونساء وأطفال يفتّشون في جبال النفايات ومكبّاتها عمّا يمكن الاستفادة منه.

هو مشهد جديد على شاشة حياتنا. كنّا نراه عبر محطّات التلفزيون ومواقع الإنترنت في بلدان العالم الفقيرة، وكنّا نستغرب كيف تصير النفايات مصدر رزق، ونشكر حظّنا الذي جعل الصور بلا رائحة.

اليوم، المشهد على مقربة رمشة عين، و"تنشيقة" أنف. والنكّيشة يقيمون على مقربة منّا، ويتجوّلون في أحيائنا، ويحفرون بأيديهم العارية وأظافرهم السوداء تلال النفايات التي نرميها بلا فرز لأنّنا بتنا نعرف أن لا أمل بإعادة تدويرها، في غياب أيّ خطّة حكوميّة لحلّ هذه المأساة البيئيّة والصحيّة.

هويّة النكّيشة الفقر، وجنسيّتهم العوز، وطائفتهم الجوع، ومذهبهم في الحياة البقاء على قيد الحياة. لكن ذلك لا يعني أنّهم لن يتشاجروا على براميل القمامة أو علب الكرتون وصناديق الخشب وقناني البلاستيك. فهنا أيضًا البقاء للأقوى على فرض سلطته على قُمم الزبالة، تمامًا، كما هي الحال في قِمم الدول. وإذا كانت البلدان الكبرى تنقّب عن النفط والغاز والمعادن النادرة الثمينة، فالنكّيشة يبحثون عن وسيلة لتأمين الطعام... الطعام الذي قد يكون هو نفسه المرمي حديثًا، ولا يغري الهررة والكلاب التي باتت تجد جمعيّات وأفرادًا يهتمّون بها.

وأرضنا التي كانت خصبة بمياهها وثمارها وحبوبها، ينكش الفلّاحون تربتها فيفور الخير، صارت أرضًا تفوح منها روائح كريهة. وبلادنا التي كان البحّارة يعرفون من بعيد أنّهم اقتربوا منها بمجرّد تنشقّهم عطور اللزّاب والأرز والسنديان والحور والصفصاف أمست بلاد النتانة والعفونة والقذارة.

النكّاشة هنا. لكنّهم لا يعلمون أنّ ثمّة من هم مثلهم. نحن الذين ننكش تاريخ وطننا بحثًا عن ومضات مجد فتزكمنا روائح الدمّ المخثّر من حروب لمّا تنته بعد، وننكش لاوعينا فتصفعنا أيدٍ كنا نظنّها تمسح دمعنا، وننكش ماضينا فتخرج منه أشباح تعرقل سيرنا نحو مستقبل النكش فيه من التراب وإلى التراب يعود.

 

الجمعة، 12 سبتمبر 2025

جسمي وطن موجوع


 


جسمي خرايط

متل شي بلاد كلّا حروب

أهلها كلّن غضب

ومقطّعة الدروب

متل شي أرض ملغومة

متل فكرة

مرقت وفلّت

وكان بدا تنكتب

كلمات مفهومة

***

جسمي وطن موجوع

صوتو صريخ ولاد جوعانين

أو متل المخلّع

ناطر حدا

ت يحملو ليسوع

أو متل شي ختيار

قاعد يعدّ سنين

يحكي لحالو

وينطر يرد الصدى

***

جسمي جروح مفتوحة

متل شي عيون

هاجرها الغفا

متل الجنون

بأرض ساكنها الجفا

متل شي بواب

شلّعها الخراب

متل شي كتاب

مفتوح ع صفحة الغيّاب

 

الخميس، 11 سبتمبر 2025

ليش بيفلّوا اللي بيفلّوا (عن زياد الرحباني)


 


ليش بيفلّوا

اللي بيفلّوا؟

يمكن لأنو

ما حدا قلّن

ضلّوا بعد ضلّوا

ويمكن ضجروا من الدني

وما عاد بدن للسما يصلّوا

ويمكن ما عرفوا

لمّا حدا بيفلّ

ومنكون منحبّو

ما في حدا بالكون

راح ياخد محْلّو

ليش يللي راح

ت يرتاح

فكّر بحالو

وما افتكر فينا

من درب البكي

حيّد ع مهلو وزاح،

من عصف الحكي

تخزّق شراعو

وما لقي مينا

فلّ قبلو كتار

وبكينا

انطرنا الوقت ننسى

ولليوم ما نسينا

يا آخد سرّك معك

الله معك

بس وين الله كان

وقت الكنت وحدك

وما في حدا حدّك

معقول الله يعرفك يئسان

ويضلّ مش سئلان؟

وين نحنا كلّنا كنّا

ت مش ع غفلة تروح

وتترك وراك جروح

هيدا الجرح بالروح

باقي ع طول العمر

ولو شو ما عملنا

 

الخميس، 4 سبتمبر 2025

مجنون فيكي



 

وجّك إلي

ت إرسمو

لوحات عشق ملوّنه

عيونك ألف مرة

يكرموا

جبينك عِلي

فوق القهر

من حنان الشمس

ومن عبير الزهر

مين بيحرمو؟

***

جسمِك إلي

ت حررو

عنك لباس العيب

هالمرة سقط

جسمك إلي

ت أغمرو

بالغنج

ت كرّمو

مش ت إقهرو

ولا اجرحو

بلمسه غلط

***

إسمك إلي

ت يصير

اسمي معلق بإسمك

متل اللي جنّوا كتير

وما عاد بدن يعقلوا

ولا ياكلوا ولا يشربوا

مجنون فيكي

والناس مش رح يعتبوا

لما ع إسمك

حروف إسمي بيسألوا

الأحد، 31 أغسطس 2025

'قبل الوجع بشوي" للشاعرة زينب حمادة


 

"قبل الوجع بشوي" للشاعرة زينب حمادة

محكيّتها اللبنانيّة من محبرة الشعر الصافي
تقيم "المرا" التي هي زينب حمادة في ذاكرة ملأى بالموت، موت الناس والأحلام، فتقصّر عمر الوقت بالسهر لتنسى الوجع وتقطّب الجراح بإبرة التحدّي الحادّة وخيط رقيق تركته لها شمس المغيب.
هذا هو عالم مفرداتها التي قد تستعاد مرّة بعد مرّة، لكن في صور جديدة تثير الدهشة بثورتها وانتفاضها، حتّى أنّنا، نحن قرّاءها، نرى أن شيطان شعرها وجد لأجلها فقط وليس له عمل سوى "الحركشة" بمخيّلتها لتأتي بشعر صاف لا ثرثرة فيه.
أكثر من ثلاثين مرّة ترد كلمة "مرا"، لكأنّ هذه الشاعرة تريد أن تقول: بلى، ثمّة شعر نسائيّ. فهي في إصرارها على أنوثتها وهي تقارع الشعراء الذين يصولون ويجولون في المحكيّة اللبنانيّة مصرّة على أنّ هموم المرأة في عالمنا العربيّ ليست كهموم الرجال. وبالتالي لا يمكن أن يكون نتاجها الأدبيّ شبيهًا بنتاجات الأدباء الرجال. فالزواج والطلاق وتربية الأولاد والعشق والبوح الحسيّ أمور تقع تبعاتها على المرأة التي ما زالت ضحيّة التربية الصارمة والمحاكم الشرعيّة أو الروحيّة وأحكام مجتمع يقتل الحب بحجّة الدفاع عن الشرف.
وأكثر من عشرين مرّة ترد كلمة "حلم" ومشتقاتها. كأنّ هذه "المرا" تهرب من الواقع إلى الأحلام، فتقول:
ال متلي مرا
ع طموحها بتنلام
أكبر من الأحلام عينيي
ويمكن لأنّي
بلبس الأحلام
ت ظبّط قياساتها عليي
بشدّ الحلم
ت يطول شويي
ومع الحلم تأتي مفردات الموت والليل والكأس والذاكرة والوجع. كيف لا والصبيّة التي حازت جائزة عصام العبد الله في دورتها الأولى عام 2019، ولدت على يد قابلة اسمها "وجع"، حين خسرت والديها باكرًا فذاقت طعم اليتم الذي تحاربه كلّ يوم بأمومة سخيّة وقصيدة ساخنة. لذلك لا تنفصل حياة زينب حمادة عن قصيدتها التي لا تولد بلا أوجاع ومعاناة. فعن موت والدتها كتبت:
ماشي الفرح كان ومرق ع الدار
عا باب إمّي دقّ...شو قلّا؟
بدي فرح... عالدرب نتسلّى
ما بحبّ وحدي كمّل المشوار
مشّي معي...
طالع عند الله
وعن رحيل والدها كتبت في قصيدة الأرض:
قالو عطيها... بترجع بتعطيك
بس اللي قالو... كذبو عليي
طيّب يا قبر... زرعت بيي فيك
وصرلي عمر دمع ووجع بسقيك
ليش بعدو ما رجع بيّي؟
وعن موتها هي كتبت تحت عنوان "وحدي أنا والموت":
وبكرا إذا ما عاد عطري فاح
وشردق الموت حبال حنجرتي
وقفّل الوقت بواب ذاكرتي
رايحة لهونيك تا إرتاح
بجياب شِعري تاركه المفتاح
لا تدقدقوا ع باب مقبرتي
فهل هناك أقسى من أن تقرأ لشابّة هذه الرغبة في الراحة؟ حتّى القصيدة التي نالت عليها جائزة كانت بعنوان "خطايا"، جاء فيها:
وبآخر العمر الهني ..بعتاز
كلّ الخطايا الساكنة فيي
جمّعتهن بقزاز عينيّي
وكلّ دمعة عا طريقي
قزاز
بدعس عليها ..
بجرّح جريّي
وبفوت عا قبري
ب ولا خْطية
لكنّ هذه "المرا" تنتفض ولا تقبل أسرًا يقيّد حريّتها، أيًّا يكن نوع هذا الأسر حتى ولو كان الحزن واليأس، فيعلو صوتها في الشعر قائلًا:
جسمي أنا حقلة قمح
بيموج حنيّه
كلّي مرا
كانت بحر حابس ملح
طالع ع بالي كون حريّة
هذه الرغبة في التحرّر تعلنها صراحة في قصيدة "كبريا" حين تقول متسائلة :
وبزعل عليك؟
وبحطّك ببالي؟
وبترك عيوني فيك ينهمّوا
ال متلي
ما في عندو حدا يهمو
عالأرض يا ما موقّعة خيالي
وما كان عندي وقت تا لمّو
لكنّها حين تعشق لا تخجل من البوح، ولا تخفي رغبتها تحت رداء الرياء، ولا تناور أو تومئ، بل تجاهر وتكتب عن جسمه البنيّ:
والليل عم يدلف عتم عالباب
هات القمر ت نسكّر المزراب
جايي ع بالي
جسمك البنيّ
هونيك
في خلف الدني جنّة
جايي أنا... نطرني ورا الغياب
رح نيّم عيوني وإجي منّي
انجبتن معي رح ضيع
مستعجلة وهنّي
ما بيشبعوا تطليع
وهونيك في شجرة حكي
وغلال
بتعب ت قطّف صوتك الدافي
وتمّي سلال
وبيننا مسافة
وأنجق "بحبّك"
حرف منها طال
عا قد ما بيتناوطوا شفافي
زينب حمادة حالة خاصّة في المحكيّة. تأتي خصوصيّتها أوّلًا من كونها شاعرة بمرتبة عالية في عالم أكثر نجومه من الرجال، وثانيًا من ريادتها فيه من دون أن تكون نسخة عن سابقات لها، لا بل أظلمها إن قارنتها بشاعرات هن أصلًا قليلات العدد في المحكيّة ولم يجدن لغتهنّ الخاصة بعد. أمّا شعر حمادة فيقارب المحظور، ويتحدّى الممنوع، ويقارع المحرّمات بلغة مصفّاة من الحشو،لا تخدش شعور الشعر، ولا تهينه ولا تخونه.
ولكن إن كان ثمّة ما أنصح به عشيقة الشعر كما تصف نفسها فهو عدم نشر هذه الكميّة من القصائد في ديوان واحد، ففي ذلك إجحاف في حقّ موهبتها التي أعرف كم هي سخيّة ومعطاءة ولا خوف عليها من النضوب، لكن لا بأس إن تركتنا في شوق إلى المزيد بدل أن نسأل أنفسنا: أيّة قصيدة هي الأجمل؟
أمّا النصيحة الثانية فللصفحات الثقافيّة في الصحف والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة: فليكن للمحكيّة مكان بارز، أفسحوا لها المجال فهي لغة أجمل أغنياتنا وبسببها برز كبار شعرائنا. "آن الأوان" يقول لكم طلال حيدر يا أهل الثقافة. افعلوا ذلك لنطالب لاحقًا بأن يكون للزجل والشعر المحكي مكانًا في المناهج المدرسيّة، فلا يبقى معلّقًا على يافطات في الشوارع والجادّات.
للتذكير:
1- الغلاف من تصميم الفنّانة التشكيليّة دارين روكز.
2- يُطلب الديوان من الشاعرة مباشرة عبر الهاتف أو عبر صفحتها على فيسبوك.
3- النسخ الموجودة لدى مركز بربارة نصّار يعود ريعها لمرضى السرطان.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.