الخميس، 23 أكتوبر 2025

ماذا نتعلّم من حياة زياد وموته وقيامته؟

 


ماذا نتعلّم من حياة زياد وموته وقيامته؟

قد تبدو نافرةً كلمة قيامة في العنوان، مع العلم أنّ الإيمان بقيامة الموتى من شروط الديانات التوحيديّة. لكنّ القيامة التي أقصدها في هذه المقالة من نوع آخر. هي قيامة موجة لافتة من الوعي تجاه فنّ زياد الرحباني، فضلًا عن إعادة قراءة مواقفه السياسيّة والاجتماعيّة.
فمن يتابع صفحات التواصل والمقالات عنه يجد أنّ الناس لا يتردّدون في الاعتراف بأنّهم يسمعونه الآن بطريقة مختلفة، يمكن وصفها بأنّها أكثر عمقًا وأوسع فهمًا لما كان يريد إيصاله لهم سحابة عمره، من خلال موسيقاه ومسرحيّاته وأحاديثه.
أعود إلى السؤال عمّا علينا تعلّمه من تجربة هذا الفنّان.
زياد الرحباني ظاهرة لن تفيها حقّها مئات المقالات التي كتبت، والبرامج التي عرضت، والشهادات من عارفيه ودارسيه حاولت قراءة تجربته. وسيبقى لأجيال جديدة آتية محور دراسة وتحليل وتقييم.
لكنّي شخصيًّا سأكتفي بثلاثة أمور لافتة في حياة زياد وموته وقيامته من النسيان الذي أراده لنفسه في السنوات الأخيرة من عمره.
***
أوّلًا: عاش زياد ومات أمينًا لمبادئه الإنسانيّه وخطّه الفكريّ. فهناك فنّانون من جيله ومعاصريه اعتبروا أنفسهم "ملتزمين"، لكنّهم أكلوا القضايا إذا جاز التعبير، وهناك من أكلتهم القضايا وزياد على رأسهم. لقد ذهب هذا الرجل بعيدًا في التزامه ولم يستفد منه. ذهب إلى الصلب عن سابق تصوّر وتصميم، رافضًا الانصياع لإغراء ماديّ أو مكسب آني أو مساومة عائليّة. اختار طريقه ومشى وحيدًا نحو جلجلة عطائه بلا مرافقين أو ألقاب أو امرأة تمسح وجهه المتعرّق الدامي، أو عابر سبيل يساعده في حمل صليب العمر والغربة.
***
ثانيًا: الحبّ عند زياد واقعيّ معيوش. صحيح أنّ أغنيات الحبّ عند الأخوين رحباني ليست بالطهر الذي يحلو للبعض أن يضعوها في خانته، لكن زياد الرحباني راح نحو المباشرة وفضح المشكلات وترك للمرأة مجالًا كي تطالب بتحقيق رغباتها فتطالب ببيت آمن وحياة طبيعيّة، وعلاقة جسديّة...
منذ زمن أراه الآن غير بعيد كما كنت أشعر قبل موت زياد، كنت أدرّس في الصفّ الثانويّ الأوّل ما اصطلح على تسميته بالغزل العذريّ. فطلبت من التلامذة أن يقيموا مقارنة بين قصيدتَي غزل (واحدة لجميل بن معمر وثانية لقيس بن الملوّح)، وأغنيتين لزياد الرحباني تؤدّيهما سلمى، هما "ولّعت كتير" و"حبّك مش حقيقيّ". اعتبر "الأهالي" هذا النشاط التربويّ عملًا ثوريًّا في مدرسة كاثوليكيّة، لكن آفاقًا جديدة فُتحت أمام أعين التلامذة الذين اكتشفوا زياد (كما اكتشفوا في مناسبات أخرى فيروز ومرسيل خليفة ومحمود درويش وطلال حيدروميشال طراد وغيرهم من شعراء وفنّانين من خارج المنهج).
وما لم يدخل زياد الرحباني بهذا الأسلوب إلى المنهج التعليميّ فكلّ تكريم له باطل وآنيّ ولا يعوّل عليه.
***
ثالثًا: لا يختلف اثنان على عبقريّة زياد الموسيقيّة التي تبدّت ملامحها منذ الصغر. لكن ما يجب أن يتعلّمه جيل جديد من كتّاب المسرحيّات والأغنيات تحديدًا هو اختيار مواضيع لم يلتفت إليها أحد بعد. إنّ الشجون التي تحملها أغنيات هذا الرجل تستحقّ أن تكون مادة لدراسة علميّة اجتماعيّة تكشف عن عمق التصاقه بالمجتمع ويوميّات الناس.
فلنأخذ مثلًا عبارة: "بعلمي أكلنا رجعنا جعنا لازم ناكل عن جديد" من أغنية إسمع يا رضا التي يؤدّيها جوزف صقر توأم زياد الفنيّ. ففي عبارة من بضع كلمات يطالعنا الهمّ اليوميّ المرتبط بحاجة الجسد إلى الغذاء، وما يتطلّبه ذلك من عمل وتضحيات. ويمكن الاستطراد إلى سوق العمل ومعاناة المزارعين ودوّامة الحياة التي تفرض على الإنسان غريزة حبّ البقاء... وهذا كلّه يحتاج إلى صفحات كثيرة من التحليل والتأمل.
إنّ كتابة زياد أغنياته، عدا ما لاءم همّه الإنسانيّ كشعر جوزف حرب مثلًا، لصيقة بحياته، إذ كتب كما عاش، وعاش كما كتب. لذلك لن يسهل تصديق فنّان آخر يكتب من برجه العاجيّ عن الفقر، وآخر يغنّي من منتجعه الصيفيّ عن أتون الحرّ ولا كهرباء عند الناس، وثالث يصدح من بلده الثاني المضياف الدافئ متحسّرًا على الذين يموتون دنقًا.
صدق زياد مع نفسه ومع الناس هو الذي سيصعب إيجاد شبيه له. فالعباقرة يولدون في كلّ زمن، ولكن من النادر أن نجد فنّانًا صادقًا إلى حدّ بذل نفسه في الموسيقى والكتابة والموقف في حين أنّ العصر عصر رفاهيّة وأنانيّة وتهافت على الشهرة والظهور.
لا شكّ أنّ ثمّة مغنّين ومغنيّات بدأوا بالتعاون مع شعراء مميّزين برصد حاجات الناس، فيطرحون في أغنياتهم أفكارًا جديدة على الأغنية اللبنانيّة. لكنّ المسار طويل والعمل ليس سهلًا من أجل تأسيس جمهور يتذوّق هذه الأعمال ويفهمها. وهذان التذوّق والفهم هما ما افتقده زياد في جمهور بات مع الوقت عبئًا عليه بدل أن يكون دافعًا له لمزيد من العاء وحبّ الحياة.
***
هي دروس ثلاثة في مسيرة زياد الذاهب عميقًا في دمنا، الذاهب عميقًا في الطحين (بحسب تعبير محمود درويش) ليتنا نعمل على الاستفادة منها آملين ألّا نسمعه يصرخ بنا حين نسيء إلى إرثه: وقمح!

الخميس، 9 أكتوبر 2025

أرز الربّّ هيكل مقدّس أم خشب مكدّس؟

 


صفحات التواصل الاجتماعيّ ملأى بالأخبار المتناقضة حول ما يجري في غابة أرز الربّ. ومن أعرفهم في تلك المنطقة منقسمو الرأي حول حقيقة ما يجري فيها ما يدفعني شخصيًّا إلى طرح جملة أسئلة حول هذه المسألة التي تدخّل فيها أهل العلم وجماعة الإكليروس ومن ينطق باسمهم وأرباب السياسة والمشاريع الإنمائيّة والمنشغلون بالهموم البيئيّة. لن أسأل أحدًا من معارفي وأصدقائي من أبناء تلك البقعة، فلكلّ منهم، بحسب صفحته على فيسبوك مثلًا، رأي يخالف الآخر ويختلف عنه جملة وتفصيلًا. لكنّي لن أعتبر غابة الأرز شأنًا خاصًّا بأهل نلك المنطقة وأنأى بنفسي عنها. فحين تختلف الآراء بهذا الشكل القاطع والحاسم يعني أنّ في الأمر قطبًا مخفيّة ومخيفة، ما يدفعني للتأمّل ومحاولة فهم ما أقرأ.
هل نحن ما زلنا في غابة الأرز حيث الشموخ والسموّ أو صار يصحّ أن نقول "غابت شمس الحقّ" عن غابة بات يراد لها أن تكون حلبة صراع جديدة؟ وهل نحن أمام مرض بيئيّ فقط أمّ أنّ سوس المصالح الخاصّة يريد اجتياح تلك البقعة الجميلة؟
الأسئلة عندي كثيرة، والمخاوف أكبر وما أسمعه وأقرأه لا يبعد القلق بل يضاعفه.
كتب أحدهم إنّ الكنيسة المارونيّة تريد هدم كنيسة الربّ الصغيرة لإقامة كنيسة أكبر.
كتبت إحداهنّ إنّ استريدا جعجع تريد أن تبني مدرّجًا ثابتًا ودائمًا من خشب الأرز لتنافس بمهرجاناتها مهرجانات بعلبك.
تساءل ثالث: أين يذهبون بكلّ هذا الخشب المقطوع؟
واستهجن رابع سكوت وزارات البيئة والثقافة والزراعة عن مسألة وطنيّة كهذه كون الأرزة رمز لبنان.
وقرّر خامس أنّ "ولاد المنطقة أدرى بأمورهم وما حدا لو حقّ يتدخّل"
وحسم أحدهم الأمر بأنّ الغابة وقف للكنيسة وهي حرّة أن تفعل بها ما تشاء.
في مسرحيّة "جبال الصوّان" للأخوين رحباني تسأل غربة (فيروز) أهل بلدها: هدّتكن الإشاعات؟ فيجيب الناس: فاجأتنا يا غربة.
فهل من يحسم أمر الغابة ووضعها وأمراضها وطرق معالجتها وحمايتها قبل أن تنتشر الأقاويل والتكهّنات أكثر وأكثر، وقبل أن تقع "الفأس في الرأس" على ما يقول المثل اللبنانيّ الشعبيّ؟
يقال في لبنان إنّ اللجان مقبرة المشاريع، وأضيف أنّ كثرة الخبراء تمهّد الطريق للوصول إلى هذه المقبرة. فلماذا لا تتمّ الاستعانة بخبراء أجانب تحت رعاية الأونيسكو لحسم وضع الغابة وتحديد سبل حمايتها لتكف الألسنة والأقلام والمقالات عن نشر أشجار هذه الغابة؟
من المؤسف أنّنا في هذا البلد صرنا يومًا بعد نفقد الثقة بخبراء الدولة ولجانها، ولا نؤمن بتدخّل بكركي إلّا إذا كان في الأمر مشروعًا (غير شرعيّ) مثمرًا لجيوب المشرفين عليه، ولنا في حرج حريصا مثل وعبرة. لذلك لا بدّ من حسم الأمر قبل فوات الأوان وقبل أن يطال منشار الخشب الشجرة على علم نريد له أن يبقى سليمًا غير ممزّق.

الأحد، 21 سبتمبر 2025

أنا المارونيّة اللاشيوعيّة الموقّعة أدناه أعلن...

 


أنا المارونيّة اللاشيوعيّة الموقّعة أدناه أعلن...

أنا الموقّعة أدناه، ماري القصّيفي، المارونيّة اللاحزبيّة، كتبت يوم مات رضوان حمزة عام 2016 نصًّا بعنوان:
"عن موت رضوان حمزة الذي يميتني خوفًا"، فتداوله الشيوعيّون وحقّق 63 مشاركة، عدا مئات علامات الإعجاب ورسائل التقدير.

في 2022، حين رحل مازن عبّود كتبت نصًّا بعنوان: "مازن عبود من طلب منك أن تطلق الرصاصة الأولى؟" فتناقله 83 شخصًا، فضلًا عن مئات أثنوا وشكروا.

في 2023، مات فيصل فرحات فكتبت: " كل مرة بكتب عن الحزب الشيوعي بيكون مات حدا من الحزب، وكل مرة بينكتب انو اللي مات كان مناضل أو مثقف وإنو مات مريض متروك وما حدا سأل عنو... ومش معقول كل مرة يكون في مبالغة بالحكي عن الإهمال".

وفي 2024 مات ابراهيم قيس. فلم أكتب.

    لكنّ رنا غنوه ابنة الشيوعيّ وزوجة الشيوعيّ كتبت على صفحتها في فيسبوك عن أبيها أطال الله في عمره:

    "بابا مواليد 1957 / عاش فقر وجوع ال 1960/ رجع عاش الحرب الأهلية 1975/ رجع الاجتياح اكل مستقبله 1978/ تجوز ماما وعاشوا سوا من 1980/ خسروا كل رفقاتهن وخالي وكتير ناس بعد حوادث اغتيالات اللي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي/ خسروا كل اللي جمعوه ليعيشوا مع بعض بال 1985 وما تلاها من تدهور الليرة ب وقتها/ رجعوا لملموا حالهن وجابونا انا واخواتي/ تم أسره متل كل شباب الضيعة 1987/ بعدان بلش الإحتلال وعيشة القرف/ بعدان تحررنا عام 2000/ بعدان صارت حرب تموز 2006/ بعدان نزلنا عالجامعات وتعلمنا وصار يخاف علينا/ بعدان اشتغلنا وعملنا عائلاتنا وخلص كل حدن بحاله/ بعدان عمل جلطة دماغية اودت لشلل جانبي عندو 2012/ بعدان تعافى جزئياً وكمل عيشتو/ وصارت حرب 2024... وهو بيقول: كل اللي انقال فوق كوم، وهاي الحرب كوم. وأنا بقول مش حرام جيلهن وجيلنا وجيل ولادنا يعيشوا كل هالأشياء؟ حرب لا أفق لها/ لا هوية لها/ بلاد لا افق لها/ لا هوية لها" (انتهى كلام رنا).

(رنا غنوة: اختصاصيّة صحة اجتماعيّة وخبيرة في الحماية الأسريّة والدعم النفسيّ. كاتبة شعر ونثر وناشطة في الشأن الإنسانيّ)

     ماذا يعني كلّ ذلك؟

     بعد مئة عام على تأسيس الحزب الشيوعيّ، وما انبثقت عنه من منظّمات وحركات ضمّت آلاف المنتسبين، وبعد المشاركة في الحرب اللبنانيّة، والمساهمة التي لا بدّ من الاعتراف بنجاحاتها ضدّ إسرائيل، ماذا يمكن للحزب الشيوعيّ أن يقول وهو يرى إلى نفسه اليوم بعيدًا مئة سنة عن مفكّريه وقادته ومثقفيه المقتولين وبعد الإبادة في غزّة؟

    في حوار مع صحافيّ صديق، عتيق في الكتابة السياسيّة ومتمرّس في القيادة الحزبيّة سألته: هل يفهم الشيوعيّون اليوم ما تكتبه؟ اعترفَ أنْ لا. يفهمها فقط من هم من رعيله أو من المشتغلين على أنفسهم لغة وفكرًا.

     والباقون؟ سألته. ما دورهم.

     أجاب: كلّ الأحزاب في مرحلة معيّنة اضطرّت إلى استقبال طالبي الانتساب إليها ولو من دون فهم للعقيدة. الأعداد كانت عهد الحرب أهمّ من الإعداد الفكريّ، وحملة السلاح كانوا بالنسبة إلينا أهمّ من حملة الشهادات. فتنازلنا عن المستوى الثقافيّ.

      للحرب شروطها ومتطلّباتها. والذين كانوا يؤمنون بالشيوعيّة فكرًا وعقيدة تقدّم بهم العمر على دروب الخيبة، ومات أكثرهم فقيرًا معدمًا مريضًا مهملًا. والعدد الذي كان مطلبًا قتاليًّا زمن الحرب، بقي ضرورة ملحّة لموسم الانتخابات.

       لا يغيب عن بال أحد ما فعلته الشيوعيّة في العالم، وما أحدثته من تغيّيرات في أنظمة الدول وفرض مشاركة المرأة في الحياة السياسيّة وتحديد أيّام العمل ومنع عمالة الأولاد وسوى ذلك كثير. لكن في لبنان، هل يمكن الحديث عن إنجازات تتعدّى العمليّات الاستشهاديّة، فمات الذين واللواتي كانت تليق بهم وبهنّ الحياة، ليبقى من يقتل كلّ حياة حرّة وفرح مشروع؟

      في الأحزاب كلّها قدامى متروكون منسيّون. يتنكّر لهم القادة الذين تسلّقوا جراح مرؤوسيهم وتعبهم ونبل أخلاقهم ليصلوا إلى قمّة الفساد، وبين هؤلاء القدامى من يسخر منهم أولادهم قائلين:

       جيلكم ماذا فعل لنا؟ تركتمونا أطفالًا في أحضان أمّهاتنا وذهبتم لتصنعوا لنا وطنًا، فلا ربحناكم آباء ولا عدتم إلينا بمستقبل آمن. ذهبتم لتحرّروا فلسطين فخسرنا بسببكم لبنان. غادرتم على عجل لتنقذوا القدس وأنتم تنشدون "الآن الآن وليس غدًا"، فلا أنتم غنمتم "الآن" ولا نحن ربحنا "غدًا".

وحين كنتم تتسلّلون إلى أسرّتنا ليلًا مغافلين الجواسيس لتسرقوا قبلات من جباهنا، تركتكم خلفكم وعودًا لأحلامنا الصغيرة بمشاريع كبيرة عن الحريّة والمساواة والعلمانيّة والعلم. وحين استيقظنا وجدناكم مشرذمين مضطهدين مهاجرين يائسين مرضى مقعدين. وفي كلّ مرّة تنفجر الأمور في غزة تنتفضون في كراسيكم المتحرّكة كأنّكم تقودون دبّابات، وتلعنون العكّاز لأنّه ليس بندقية، وترمون أطرافكم الاصطناعيّة لعلّها تصير قنابل. وتبكون. تبكون على أنفسكم، على عائلاتكم التي لم تعرف الأمان، على نساء صرن عجائز وهنّ ينتظرن خروجكم من الأسر، على المجد الذي كان لكم، على رفاق سبقوكم إلى حيث اكتشفوا أنّ الحرب لم تكن من أجل لبنان، وقطعًا ليس من أجل فلسطين، وهناك سمعوا ملاكًا يقول لهم ضاحكًا: ألستم أنتم الذين واجهتم الله وسكتم أمام حزبه؟

        أيّها الشيوعيّون الأعزاء

         مؤسف أنّنا نحن الجيل التائه ضعنا بين سلام واهٍ عرفه لبنان زمن الستينات مع ملامح بحبوحة وحريّة ولو بعيدة عن الأطراف والريف، وبين جيل يهزأ من سلامنا الهشّ وحروبنا العبثيّة ولا يحلم إلّا بجنسيّة أجنبيّة أو فرصة عمل في دولة خليجيّة.

        محزنٌ أن تصير أغنياتكم وأناشيدكم ذكريات لمغنٍّ يكاد، لولاكم، ينفض عن صوته كلماتها. ثمّ فجأة وعند مجزرة جديدة يمسح الغبار عن آلته الموسيقيّة ليدعوكم إلى القتال والاستشهاد. هو يدفعكم إلى الموت وأنتم تدفعون ثمن بطاقة الدخول وتصفّقون.

مذلّ أن تصير شواهد القبور شاهدة على أكبر لقاء شيوعيّ في انتظار مأتم آخر، ورثاء آخر، ودمعات افتراضيّة عبر مواقع التواصل لا تحرق العين ولا تطفئ الغليل.

        معيب أن يكون لبنان في آخر سلّم اهتماماتكم، وأن تحبّوا فلسطين أكثر ممّا تحبّونه، وأن تخافوا على أهلها وتخافوا من أهله، وأن تنسوا مرفأ بيروت لأنّ ضحاياه أقلّ عددًا من ضحايا غزّة.

        تعبتُ منكم ومن سواكم. كلكن يعني كلكن. لا عامل لبنانيًّا يريد العمل والكلّ يضطهد السوريّين العاملين، ومع ذلك تحتفلون بالأوّل من نوّار. بلد الكسالى يحتفل بعيد العمّال. بلد انتقل من الزراعة إلى الخدمات السياحيّة وينقّ من الجوع والفقر ولا يعرف كيف يستخدم المطرقة والقدّوم. بلد يريد أكثر سكّانه عودة الحرب كي لا يعمل بل ينتظر صناديق الإعاشة تهبط عليه من السماء. بلد يعمل الناس فيه السبعة وذمّتها ويعظون عن العفّة والثواب والعقاب والوطنيّة... والقدس وغزّة.

في 14 كانون الثاني 2009، كتبت مقالة في صحيفة البلاد البحرينيّة تبدأ بهذه الجملة: "هل كنّا في حاجة إلى حرب غزّة كي نجد لأنفسنا قضيّة نتكلّم عنها ونقوم بمظاهرات من أجلها ونثور ونبكي ونغضب ونريح ضمائرنا؟" وفي 2012 نشرت قصيدة بالمحكيّة عن أطفال غزّة عنوانها: ما عادوا عم يلعبوا قدّام البواب...

        ومع كلّ حرب على غزة تستعاد الكلمات نفسها، وتُستعار خلال مجازر سوريا، وعند قصف الجنوب... كلمات كلمات كلمات...

        فيا أيّها الشيوعيّون اللبنانيّون

        انتهى دور لبنان الكبير عند وصوله إلى المئة عام، وأنتم اليوم، كما لبنان، إلّا:

- إن انتفضتم على قياداتكم المتردّدة الخائفة، وأعدتم إلينا نحن غير الشيوعيّين الإيمان بأنّكم حقًّا علمانيّين، وبأنّكم تعيدون كلّ يوم، على مثال جورج حاوي، مراجعة مواقفكم، وبأنّكم تحتملون النقد وتتقبّلونه.

- إن أعطيتم لبنان المرتبة الأوّلى في مسار إصلاحكم كي نصدّق أنّكم تحبّون بلدكم أوّلًا، لنؤمن أنّكم تحبّون بلدان العالم المضطهدة، وفي مقدّمتها فلسطين.

- إن أعدتم الدور، ولو من باب الاستئناس بالرأي، لحكمائكم من أهل القلم والصحافة والفكر والأدب.

- إن أعدتم للثقافة مجدها كما كانت عهد مهدي عامل والمطران غريغوار حدّاد وعصام محفوظ وأكاد أقول الأب ميشال الحايك...

- إن جاهدتم من أجل نشر كتاب بمثل ما تدافعون عن ملهى أقفلوه أو مسبح أغلقوه.

 

وإنْ لا، فأنا الموقّعة أدناه، ماري القصّيفي المارونيّة المضطهدة مارونيًّا، واللامنتمية إلى أيّ حزب أو تيّار أو حركة، أعلن سلفًا الحداد على من يموتون منكم فقراء مرضى عاجزين متروكين مذلولين في حرب قالت عنها رنا غنوة: "مش حرام جيلهن وجيلنا وجيل ولادنا يعيشوا كل هالأشياء؟ حرب لا أفق لها/ لا هويّة لها/ بلاد لا أفق لها/ لا هويّة لها".

 

 

 

 

 

 

الخميس، 18 سبتمبر 2025

النكّيشة

 

الصورة من الإنترنت

النكّيشة

كلمة جديدة أدخلها الواقع الاقتصاديّ المتردّي، والفساد المستشري في الدولة، وغياب أيّ حل لمشكلة النفايات: "النكّيشة". رجال ونساء وأطفال يفتّشون في جبال النفايات ومكبّاتها عمّا يمكن الاستفادة منه.

هو مشهد جديد على شاشة حياتنا. كنّا نراه عبر محطّات التلفزيون ومواقع الإنترنت في بلدان العالم الفقيرة، وكنّا نستغرب كيف تصير النفايات مصدر رزق، ونشكر حظّنا الذي جعل الصور بلا رائحة.

اليوم، المشهد على مقربة رمشة عين، و"تنشيقة" أنف. والنكّيشة يقيمون على مقربة منّا، ويتجوّلون في أحيائنا، ويحفرون بأيديهم العارية وأظافرهم السوداء تلال النفايات التي نرميها بلا فرز لأنّنا بتنا نعرف أن لا أمل بإعادة تدويرها، في غياب أيّ خطّة حكوميّة لحلّ هذه المأساة البيئيّة والصحيّة.

هويّة النكّيشة الفقر، وجنسيّتهم العوز، وطائفتهم الجوع، ومذهبهم في الحياة البقاء على قيد الحياة. لكن ذلك لا يعني أنّهم لن يتشاجروا على براميل القمامة أو علب الكرتون وصناديق الخشب وقناني البلاستيك. فهنا أيضًا البقاء للأقوى على فرض سلطته على قُمم الزبالة، تمامًا، كما هي الحال في قِمم الدول. وإذا كانت البلدان الكبرى تنقّب عن النفط والغاز والمعادن النادرة الثمينة، فالنكّيشة يبحثون عن وسيلة لتأمين الطعام... الطعام الذي قد يكون هو نفسه المرمي حديثًا، ولا يغري الهررة والكلاب التي باتت تجد جمعيّات وأفرادًا يهتمّون بها.

وأرضنا التي كانت خصبة بمياهها وثمارها وحبوبها، ينكش الفلّاحون تربتها فيفور الخير، صارت أرضًا تفوح منها روائح كريهة. وبلادنا التي كان البحّارة يعرفون من بعيد أنّهم اقتربوا منها بمجرّد تنشقّهم عطور اللزّاب والأرز والسنديان والحور والصفصاف أمست بلاد النتانة والعفونة والقذارة.

النكّاشة هنا. لكنّهم لا يعلمون أنّ ثمّة من هم مثلهم. نحن الذين ننكش تاريخ وطننا بحثًا عن ومضات مجد فتزكمنا روائح الدمّ المخثّر من حروب لمّا تنته بعد، وننكش لاوعينا فتصفعنا أيدٍ كنا نظنّها تمسح دمعنا، وننكش ماضينا فتخرج منه أشباح تعرقل سيرنا نحو مستقبل النكش فيه من التراب وإلى التراب يعود.

 

الجمعة، 12 سبتمبر 2025

جسمي وطن موجوع


 


جسمي خرايط

متل شي بلاد كلّا حروب

أهلها كلّن غضب

ومقطّعة الدروب

متل شي أرض ملغومة

متل فكرة

مرقت وفلّت

وكان بدا تنكتب

كلمات مفهومة

***

جسمي وطن موجوع

صوتو صريخ ولاد جوعانين

أو متل المخلّع

ناطر حدا

ت يحملو ليسوع

أو متل شي ختيار

قاعد يعدّ سنين

يحكي لحالو

وينطر يرد الصدى

***

جسمي جروح مفتوحة

متل شي عيون

هاجرها الغفا

متل الجنون

بأرض ساكنها الجفا

متل شي بواب

شلّعها الخراب

متل شي كتاب

مفتوح ع صفحة الغيّاب

 

الخميس، 11 سبتمبر 2025

ليش بيفلّوا اللي بيفلّوا (عن زياد الرحباني)


 


ليش بيفلّوا

اللي بيفلّوا؟

يمكن لأنو

ما حدا قلّن

ضلّوا بعد ضلّوا

ويمكن ضجروا من الدني

وما عاد بدن للسما يصلّوا

ويمكن ما عرفوا

لمّا حدا بيفلّ

ومنكون منحبّو

ما في حدا بالكون

راح ياخد محْلّو

ليش يللي راح

ت يرتاح

فكّر بحالو

وما افتكر فينا

من درب البكي

حيّد ع مهلو وزاح،

من عصف الحكي

تخزّق شراعو

وما لقي مينا

فلّ قبلو كتار

وبكينا

انطرنا الوقت ننسى

ولليوم ما نسينا

يا آخد سرّك معك

الله معك

بس وين الله كان

وقت الكنت وحدك

وما في حدا حدّك

معقول الله يعرفك يئسان

ويضلّ مش سئلان؟

وين نحنا كلّنا كنّا

ت مش ع غفلة تروح

وتترك وراك جروح

هيدا الجرح بالروح

باقي ع طول العمر

ولو شو ما عملنا

 

الخميس، 4 سبتمبر 2025

مجنون فيكي



 

وجّك إلي

ت إرسمو

لوحات عشق ملوّنه

عيونك ألف مرة

يكرموا

جبينك عِلي

فوق القهر

من حنان الشمس

ومن عبير الزهر

مين بيحرمو؟

***

جسمِك إلي

ت حررو

عنك لباس العيب

هالمرة سقط

جسمك إلي

ت أغمرو

بالغنج

ت كرّمو

مش ت إقهرو

ولا اجرحو

بلمسه غلط

***

إسمك إلي

ت يصير

اسمي معلق بإسمك

متل اللي جنّوا كتير

وما عاد بدن يعقلوا

ولا ياكلوا ولا يشربوا

مجنون فيكي

والناس مش رح يعتبوا

لما ع إسمك

حروف إسمي بيسألوا

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.