الخميس، 13 نوفمبر 2025

حكايات القميص الأزرق (2)


 

حكايات القميص الأزرق (2)

     حين سألتني عن قمصانك الزرق المختفية من خزانتك ضحكت قبل أن أخفي وجهي في الوسادة كأنّها ستعفيني من مواجهة تبدو علاماتها على وجهك. وإذا بك تنتزع الوسادة وأنت تقول بلهجة لا تخلو من المداعبة: لا تتهرّبي من الإجابة. هناك قمصان ناقصة. واجهتك وأنا أقف على الكنبة كي أبدو أكثر طولًا منك، وفي محاولة منّي للهيمنة على الوضع: حسنًا. لقد أخذت بعضها وصارت لي.

     أمام ضحكتك الصاخبة شعرت بأنّني هُزمت. فسألتك لماذا تضحك. قلت لي: لكنّك ارتديتها كلّها فما حاجتك إلى بعضها. أجبت وقد شعرت بانّني سأحقّق انتصاري الموعود: لا. الوضع الآن مختلف. فهذه القمصان المصادرة لن تعود إلى خزانتك. أصلًا هي صارت قديمة وبات عليك أن تشتري غيرها.

     سألتني: ما دامت قديمة فماذا ستفعلين بها؟ جلست "متربّعة" على الكنبة وبدأت أحصي على أصابعي: القميصان الرقيقان للنوم، والقميص السميك للعمل في الحديقة، والقميص المخطّط بالأبيض للعمل في المطبخ، والـ "تي شيرت" لممارسة الرياضة، والقميص القطنيّ أرتديه بعد الاستحمام... أنا أؤمن يا حبيبي بإعادة تدوير الأقمشة ولا أسمح لقمصانك بمغادرة هذا المنزل.

     أذكر جيدًا كيف كنت تنظر إليّ وأنا أتكلّم وأحصي وأقرّر. كنت تفكّر في أنّ القدر وضع في طريقك امرأة مجنونة لا يمكنك أن تحزر ما قد يدور في رأسها.

     آخ من رأس حبيبتك يا حبيبي. ليتك تفرغه من كلّ ما ومن فيه وتبقى وحدك.

     كنت تفعل ذلك حين تنتابني نوبات الكآبة وأعجز عن الكتابة وأغرق في نوبة بكاء لا أعرف سببها. كنت تأخذ رأسي وتغرقه في صدرك وأنت تهمس: اغرقي هنا، في صدري، أفكارك السوداء. أفرغي هنا، في صدري كلّ دموع عينيك. ولا تتكلّمي لأنّني أفهم ما تمرّين به.

     من علّمك كيف تأتي إليّ من باب الحنان؟ أعرف أنّك قرأت كتبي ومقالاتي ومنشوراتي قبل أن نلتقي، وأعرف أنّ النساء بشكل عامّ يحتجن إلى حنان الرجل. لكنّك كنت الرجل الذي لا يريد أن يكسر القاعدة ليثبت للمرأة أنّ الجنس قد يكون متنفّسًا لكآبة أو مهربًا من مشكلة.

     كنت تعلم أنّ البكاء قد ينتهي بعناق لكنك لم تعترض حين كنت أبتعد، وأنّ الكآبة قد تقود إلى الكتابة لا إلى السرير. فتتركني ولا تحاول لمسي حين أرغب في أن أنزوي في عالمي الداخليّ، حيث أنت بلا جسد وبلا رغبات. بل وجود مطمئن كطاقة داخليّة تشتعل شيئًا فشيئًا قبل أن تراك مجسّدًا أمامها فأبحث عنك لأشمّ رائحتك.

     الرائحة! أنا الشديدة الحساسيّة تجاه الروائح والعطور كيف حصل أن صار لك رائحة هي مزيج من بوح مسامك وعطرك الذي لم تكن تدلقه كما يفعل بعض الرجال. آه من رائحتك التي تبدو من إنتاج الطبيعة لا خارجة من مصنع. آه منها حين تضعف مقاومتي وتخدّرني فأستسلم طوعًا لها، وأشعر بأنّني في غابة مسحورة يجتمع فيها ضوء يتسلّل بين الأغصان وعبق يفوح من نباتات بريّة وهدير شلالات يغري بالارتماء فيه... فأرتمي بك!

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.