الخميس، 13 نوفمبر 2025

حكايات القميص الأزرق (1)

 


حكايات القميص الأزرق (1)

     لم أجد أنسب من كلمة "حكايات" تليق بقميصك الأزرق. وتقصّدت ألّا أكتب "حكاياتي". فهذه الياء التي تنسب حكايات قميصك إليّ أفضّل أن أتركها للقميص حين أرتديه فيصير قميصك قميصي، وأصيرك. وأنا في الأصل "حكواتيّة". صحيح أنّ كثرًا يعتبرونني أديبة أو روائيّة أو كاتبة. لكنّي، ولكي أكون صادقة مع نفسي أوّلًا ومعك ثانيًا أشعر بأنّي من سلالة جدّتي شهرزاد. أحكي لأنجو. أحكي وأحيك كجدتي أمّ والدي وكما غنّت فيروز: بحيّك حكاية وبحيّك تكّاية. أمّا صفة شاعرة فأهرب منها كما كانت ساحرات القرون الوسطى يهربن من تهمة الشعوذة. لا أعتقد أنّني سأتحمّل أن أكون شاعرة. فهذه مسؤولية مخيفة، ورسالة لا أجرؤ على تخيّل فكرة حملها وإيصالها. أمّا كلمة الحكّاءة فثقيلة الوقع وقد تحمل معنى الحكي الكثير والذي قد يكون لا قيمة له. وهذا ما لا أرضاه لقميصك. قميصك الأزرق الذي يصيّرني زهريّة اللون حين أرتديه مجترحًا أعجوبة تحويلي أنثى بطعم الحلوى، تلك التي يلّفونها بورق رقيق كي لا تذوب بين الأصابع بل بين الشفتين.

     لا أذكر متى بدأت حكاية قميصك الأزرق ولا كيف. أذكر أنّني حين رأيتك ترتديه في لقائنا الأوّل خطر لي أن أجعلكه. وهذا ما حصل فعلًا. لقاء أوّل كان دوره أن نتعارف فأذا بنا نتعانق كأنّنا نعرف بعضنا من حيوات سابقة كثيرة ومتنوّعة الأمكنة والأزمنة. حتى أنّ جسمك كان أليفًا كأنني داعبته مئات المرّات قبل ذلك اللقاء، لقاء التعارف الذي صار لقاء عارفَين يعلمان جيدًا ماذا يريدان. بعد هذا اللقاء صار قميصك حلمًا أراني كلّ ليلة أجعلكه وأكويه لأعود فأجعلكه. صحيح أنّك كنت ترتدي قمصانًا غيره، لكنّ اللون الأزرق صار لونك المفضّل، تبحث عن تدرّجاته في قمصان  من أقمشة مختلفة تلائم الفصول، وكنزات تتحدّى أصابعي التي تريد تجميعها في قبضتي وجعلكتها. فأخلعها عنك وأنا أردّ التحدّي بآخر.

     هل لأنّ الازرق ارتبط بلقائنا الأوّل الذي يعود لماض بعيد صار هو الحبّ والحبيب؟ مذ كتبت عن لقائنا في تلك الصحيفة التي بدأت نشر مقالاتي فيها والأزرق يصول ويجول في عناوين روايات ودواوين، وفي أحلام نساء تقيم البرودة في حياتهنّ. لكنّ الأزرق الذي لم يلامس جسمي ليس هو الأصيل والأصليّ. سيبقى عندهنّ وعندهم عابرًا، مجرّد لون سيبهت مع الزمن. إن كان صفة لبيت فمع الوقت سيحتاج إلى طلاء. إن كان لقميص غير قميصك فسوف يعتق ويُستبدل بآخر. لكنّ قميصك حالة عشق تتجدّد مع كلّ لقاء، ولونه همسة خلف أذني حيث عرفتَ من اللقاء الأوّل أنّ رغبتي تفور من هناك لنسبح معًا في مائها.

     ارتديتَ مرّة قميصًا أزرق مخطّطًا بالأبيض، كنّا في المقهى الذي اعتدنا اللقاء فيه حين نخرج إلى العلن، فكتبت لك على محرمة ورقيّة تناولتها من على الطاولة:

كلّ خطّين أبيضين متوازيين

في قميصِك الأزرق المقلّم

يلتقيان

عند نقطة من نقاط لهفتي.

     كنت أغريك لنعود سريعًا إلى البيت. ضحكت وأنت تقرأ الكلمات وعيناك تلمعان وقلت لي: دعينا على الأقل نشرب القهوة. عيب. سيزعل صديقك النادل إن رحلنا بسرعة.

     دائم السخرية أنت من علاقتي بنُدل المقاهي. تسألني كلّ مرّة: لن أفهم أبدًا كيف يسهل عليك إقامة حوار مع هؤلاء الغرباء وأنت تهوين العزلة وأصدقاؤك لا يتجاوز عددهم أصابع يد واحدة.

     وفي كلّ مرّة كنت أجيب: لأنّهم عابرون. منهم من ينتظر عملًا آخر أعلى أجرًا. ومنهم من ينتظر تأشيرة هجرة. ومنهم من يصبر على وقاحة بعض الزبائن كي يجمع قسط الجامعة... لكنّهم في النهاية سيرحلون.

     أجبتني مرّة: أصدقاؤك هؤلاء يبحثون عن مستقبلهم في مكان ما من هذا العالم. متى تؤمنين بأنّنا أولاد الحاضر الذي يجمعنا؟ الماضي قاد أحدنا إلى الآخر وانتهى دوره. أمّا المستقبل فهو ما سيحدث بعد قليل. ثم ابتسمت وأنت تمدّ يدك طالبًا أن تلاقيها يدي وقلت: تعالي لأخبرك عمّا يخبّئه لك هذا المستقبل الذي ينتظرنا في البيت. وغمزتني وتابعت: وبالتأكيد لن تجديه جالسًا في صالة الاستقبال.

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.