نصوص نقديّة في صحيفة "الحياة"


21- متى يحاكِم الشعب العربيّ نفسه؟


Marc Philip


  صحيفة الحياة، الأحد، 06 نوفمبر 2011
غالب الظنّ أنّ الشعوب العربيّة، في لاوعيها الجماعيّ، تتهرّب من محاكمة ديكتاتوريّ الأنظمة الذين يسقطون الواحد تلو الآخر، كأنّ ثمّة شعوراً بالذنب (أو بالخجل) يختبئ في أعماق الناس ويذكّرهم في كلّ لحظة بأنّهم ليسوا بلا خطيئة ليرجموا غيرهم بالحجارة، وأنّ رضوخهم الطويل الأمد هو خطيئتهم الكبرى. ولعلّ علم الاجتماع، الغائب والمغيّب شبه الدائم عن المشهد الثقافيّ، مطالَب قبل الصحافيّين والشعراء والروائيّين بدراسة الأسباب التي جعلت الحركة الشعبيّة تتأخّر كلّ هذا الوقت، مع أنّ ثمّة من كان يسرّح شعره كلّ صباح، ويرتدي أجمل ملابسه، ويهرع كالعاشق في موعده الأوّل، لملاقاة الثورة التي يبست الأقدام في انتظارها، كما كتب محمّد الماغوط.
الثورة المصريّة
أن يُحاكم الشعب نفسه خطوة أولى في طريق الحريّة. وهذه المحاكمة ليست جلْدًا للذات، ولا تبرئة للحاكم من دم المحكومين، بل هي مواجهة جريئة لتاريخ من الصمت العامّ بدت أمامه الأصواتُ الجريئة القليلة الصارخة صخباً في غير محلّه؛ وهي كذلك اعتراف بخوفِ كلّ واحد منّا على خبز أولاده، ما جعله يسكت عن جوع أولاد جيرانه، وخشيةِ كلّ واحد على وظيفته، ما أجبره على غضّ الطرف عن تغييب العدالة الاجتماعيّة؛ وهي اعتراف علنيّ مسؤول وصريح بأنّ الشعب الذي يريد الآن إسقاط النظام كان ساكتاً يوم أسقطتِ الأنظمةُ كتباً على لائحة الممنوعات، وأبعدت مفكّرين عن العمل الجامعيّ، وزجّت بحزبيّين في غياهب السجون وقتلت وهجّرت وأهانت. وكان، هذا الشعب نفسه، مستسلماً للفنّ الرخيص والكلمة المبتذلة والكتاب الممجوج والفيلم السخيف والألحان المسروقة والحزب الحاكم والأصوليّ الحقود.

نحن لا نتكلّم عن أعوام قليلة من الاحتلال الأجنبيّ الغريب، بل عن عقود طويلة من «ظلم ذوي القربى» وأبناء الوطن، ولا نتكلّم عن دولة صغيرة واحدة عانت من الظم والفساد، بل عن دول كبيرة شاسعة غنيّة الموارد أذاقت شعوبها الذلّ والقهر، ولا نتكلّم عن شعب محاصر خلف جدران عالية وأسوار لا يمكن تخطّيها، بل عن شعوب تمتدّ من المحيط إلى الخليج، ومن المغرب إلى المشرق، وتملك ما لا يُستهان به من القدرات والوسائل، ومع ذلك، مع كلّ ذلك، تأخّرت الثورة. فهل يكفي أن نستعين بالمثل الفرنسيّ القائل إنّ الوصول المتأخّر أفضل من عدم الوصول، أم علينا أن نسأل أنفسنا عن أسباب التأخير والتأخّر، كي نجد ما نجيب عنه الأجيال المقبلة حين تسألنا: لماذا لم تُحلّ القضيّة الفلسطينيّة وقد مرّ عليها أكثر من ستّين عاماً؟ ولماذا طالت الحرب اللبنانيّة أكثر من ثلاثين سنة؟ وكيف صمدت دول الفساد والقهر التي ادّعت أنّها جبهة الصمود والتصدّي في وجه إسرائيل لأكثر من أربعة عقود؟ حين كانت هوليوود تسيء إلى صورة العربيّ في إنتاجاتها، كنّا نعتذر من أنفسنا متذرّعين بأنّنا لا نملك ماكينة إعلاميّة ضخمة تتيح لنا الوصول إلى العالم لتحسين صورتنا، فما عذرنا اليوم وفي متناولنا وسائل اتّصال تضعنا على تماس مباشر مع العالم كلّه؟ وما هي الصورة التي ننقلها إلى الناس عبر شاشات التلفزيون وشبكة الإنترنت، بعدما بات كلّ منّا قادراً على امتلاك «صحيفته» اليوميّة التي تتيح له التواصل مع الآخرين، أينما كانوا؟ وحين كنّا نُتّهم بأنّنا شعب لا يقرأ، كنّا نضع الحقّ، عن غير وجه حقّ، على القمع والفقر، وها هي اليوم وسائل الاتصالات تتيح القراءة المجّانيّة الحرّة، فماذا يقرأ مدمنو الدردشة على الإنترنت؟
الثورة الأميركيّة
ثمّة جوّ عـــام يوحي بأنّ الشعوب العربيّة تتحايل كي لا تواجه نفسها عندما تحاكم الحكّام الطغاة: فالأثرياء كانوا ينعمون بالرفاهيّة ولم يكن هناك ما يدعوهم للثورة خوفاً على الثروة، والفقراء استسهلوا احتلال المقابر والإقامة فيها ومجاورة الموتى على دكّ العروش واقتحام القصور وتحدّي السلطات، و «العسكر» كان يغيّر صورة القائد داخل الإطار نفسه وهو مشهد عربيّ متكرّر جعل «الأخوان رحباني» يصوّرانه في مسرحيّة «يعيش يعيش» (1970) برؤية عميقة وعبثيّة لافتة وجماليّة جارحةِ الصدق. لذلك يبدو قتل الديكتاتور العربيّ أسهل من مواجهته وهو يسأل محاكميه: لماذا انتظرتم كلّ هذا الوقت لتثوروا على جنوني وعهري ووقاحتي وجهلي؟ ولحظةَ يجرؤ العربيّ على مواجهة نفسه بجواب صادق عن هذا السؤال تكون الثورة، أو مهما كان اسمها، قد بدأت تحقّق أهدافها.


20- براءة السرد في رواية السعوديّة نور عبد المجيد


صحيفة الحياة، السبت، 29 أكتوبر 2011

تأتي رواية «أريد رجلاً» (دار الساقي) للكاتبة السعوديّة نور عبد المجيد من عالم قصصيّ رومانطيقيّ يعيد إلى الذاكرة العهد الذهبيّ للسينما المصريّة، حين كانت حكايات الأفلام تدور بين الصعيد والقاهرة والإسكندريّة، والبطلة (فاتن حمامة أو مريم فخر الدين أو شادية) تريد تحقيق وجودها في مجتمع ذكوريّ كثيرِ الرجال ولكن لا رجل يتّخذ مواقف شجاعة. من هنا كان عنوان الرواية الخبيث الذي يوحي مع لوحة الغلاف بصرخة امرأة تريد رجلاً للحبّ، فإذا بالرواية تأخذ القرّاء في رحلة البحث عن رجولة تقاوم الجهل والتقاليد البالية، وتنتصر للعلم والحريّة والمساواة.
وما كانت نور عبد المجيد لترفع الستر عن الخلل في المجتمع «لو أنّ في هذي الجموع رجالا»، في صرخة تذكّر بصرخة ابنة «بزرجمهر»، في قصيدة شاعر القطرين خليل مطران، حين أعدمَ «كسرى» الفارسيّ والدَها الوزير بسبب نصيحة. ولكنّ «أمينة» بطلة هذه الرواية، وعلى الرغم من كلّ الحريّة التي أعطيت لها، لن تستطيع أن تصل إلى مستوى تلك الفتاة، لأنّها حوّلت المطالبة بحقوق المرأة من قضيّة عامّة إلى قضيّة غرام وانتقام، كما كانت الحال مع بدايات الرواية العربيّة وكأنّ الزمن توقّف بالكاتبة عند تلك المرحلة، ولذلك لم تنجح «عصرنة» القصّة (الجينز، المايكروويف، السيّارة، السينما، المرأة الموظّفة في المصرف، أسماء العطور الأجنبيّة...) في إقناعنا بأنّنا أمام رواية من القرن الحادي والعشرين، لا من حيث حرمان المرأة من حقوقها فحسب، بل من حيث المعالجة الروائيّة.
«أمينة»، التي أمضت حياتها متعاطفة مع والدتها المجروحة من خيانة زوجها لها (والد أمينة)، تتعرّض هي الأخرى لخيانة زوجها الذي تزوّج عليها سرًّا وبضغط من والدته لينجب صبيًّا بعدما أنجبت له هي ابنتين. ويكون ردّ فعل «أمينة» الانتقاميّ طلب الطلاق بحجّة أنّ زوجها لا ينجب الذكور، وذلك بالاعتماد على الرأي العلميّ القائل إنّ الرجل وحده يتحمّل مسؤوليّة نوع الجنين، ولأنّها تريد رجلاً في حياتها، طلبت التحرّر من زوجها لتتزوّج آخر ينجب الصبيان. حول هاتين الشخصيّتين المحوّريتين، هناك امرأتان طاغيتا الحضور: والدة «أمينة» المتوفاة ومع ذلك نراها حاضرة بقوّة في حياة ابنتها التي أقامت بعد زواجها في منزل والديها، وبقيت تخاطب أمّها عبر دفتر يوميّاتها، فضلاً عن أنّها ورثت عنها العمل في القطاع المصرفيّ؛ المرأة الثانية هي والدة «سليم» زوج «أمينة» التي فقدت زوجها وهي حامل بابنها، فصبّت كلّ اهتمامها على مستقبل وحيدها وزواجه وإنجابه.
الرجل المغيب
هكذا بدا الرجل/ الوالد في حياة الزوجين «أمينة» و»سليم» مغيّبًا: الأوّل بسبب الخيانة فهمّشته زوجته، والثاني بسبب الموت فخلّدته الزوجة عبر الإبقاء على كلّ ما في البيت كما كان. كأنّ الموت (موت الرجل الحبيب) في نظر المرأة أفضل بما لا يقاس من خيانته لها وغدره بها.
وبسبب ذلك يمكننا قراءة الرواية بعكس ما نفترض أنّ الكاتبة رمت إليه، أي يحقّ لنا أن نرى فيها تصويرًا لطغيان المرأة وتسلّطها لا لضعفها وحرمانها من حقوقها، ولو كان كلا الطغيان والتسلّط ردّي فعل في أكثر الأحيان. فبقدر ما تمثّل «أمينة» المرأة التي ظلمها المجتمع حين نظر إليها على أنّها وسيلة استمرار النسل، نرى في والدتها وحماتها المرأة التي تفرض ما تريد (الأولى على زوجها والثانية على ابنها) وتحصل عليه مهما كان الثمن.
ولهذا انتهت الرواية بأن دفع الجميع أثمانًا باهظة لهذه المواقف المتطرّفة حين طلّق «سليم» زوجتيه بعدما صارت حكايته مادة إعلاميّة دسمة، تاركًا جيلاً جديدًا من الأولاد يتحمّل النتيجة: ابنتيه من «أمينة» والجنين الذكر من زوجته الثانية «لبنى». وقد نجحت الكاتبة في اختيار وظيفة القاضي للزوج الشابّ الذي لم يستطع أن يكون عادلاً في حياته الشخصيّة كما هو في حياته العمليّة، كأنّ «نور عبد المجيد» تريد التنبيه من أنّ ما يسمح به الشرع الإسلاميّ من حيث تعدّد الزوجات ليس سهلاً كما يحاول كثر الإيحاء به. ولعلّها لذلك اختارت مسرح روايتها طبقة اجتماعيّة ميسورة ومتعلّمة، لتقول: إذا كان الأثرياء والمتعلّمون يعجزون عن احترام حقوق المرأة وصون الأسرة فكيف بالمعوزين البسطاء؟
يؤخذ على الرواية، وإن تميّزت بشكل عامّ بسلاسة لغتها وانسيابها، أنّها لم تولِ الناحية الجماليّة الأدبيّة اهتمامًا كافيًا، فلا عبارة تترك أثرًا ولا صياغة تثير الدهشة، كأنّنا أمام قصّة مصوّرة اعتنت صاحبتها بالتقاط أدنى حركة يقوم بها الأبطال، وبمراقبة أدقّ تفصيل في الثياب وأثاث المنزل، علمًا أنّ الرواية العربيّة تخطّت ذلك منذ زمن لا يُسمح بالعودة إليه. حتّى التكرار الذي يمكنه أن يكون أداة تعبيريّة مفيدة وجميلة تحوّل في الرواية إلى مجرّد استعادة لا تشي بحالة نفسيّة ضاغطة بل بدوران النصّ في حلقة مفرغة لم تذهب عميقًا في التحليل النفسيّ العميق أو التصوير الاجتماعيّ الدقيق.
ولم يعد يكفي كي يشعر القارئ بالحالة النفسيّة للشخصيّات أن تتلاحق التساؤلات وتتوالى أساليب الاستفهام والتعجّب وأن تمتلئ الصفحات بالنقاط الثلاث الدالة على عجز الكلمات عن الوصف: «لم تكن هالة طلبة يومًا بهذا الجنون.. لم تكن يومًا بهذا التهوّر..ما الذي حدث؟ ما الذي أصابها في هذا العمر؟ إنّها في الخامسة والخمسين من عمرها...كيف تتصرّف كما كانت تفعل وهي في العشرين؟ صبغت شعرها...لم يعد فيه شعرة بيضاء واحدة... اشترت أثوابًا ملوّنة جديدة وزهورًا بيضاء وضعتها في غرفتها... وها هي تقف لتطهو طعام العشاء الذي دعت إليه عزّت عبد الرحيم... إنّها تقاوم... تقاوم في جنون لكنّ جنونها أكبر من جنون مقاومتها... تقاوم وهي تغتسل... تقاوم وهي تتعطّر... تقاوم وهي ترتدي ثيابها وتخرج إلى لقائه.» (ص242)
أمّا اختيار مصر مسرحًا لأحداث الرواية فيهدف على الأرجح إلى عدم التعرّض للمجتمع السعوديّ الذي تنتمي إليه الكاتبة. وهذا الاختيار من حقّها إن رأينا فيه محاولة لتخليص عملها الروائيّ من سوء فهم يضعه في خانة السيرة كما يحصل عادة مع الروائيّات العربيّات، أو لعدم تحويل العمل من قضيّة تحرير المرأة إلى تهمة التعرّض لمجتمع معيّن.
ولكن من حقّ القارئ أن يتساءل في هذه الحال عن دور الرواية عمومًا، وهذه الرواية خصوصًا، في إحداث تغيير ولو بسيط ما دامت خاضعة لرقيب داخليّ (له شكل رجل) يعطّل الإبداع.

19- آثار 11 أيلول قصصاً في «عين لندن» لفاتح عبد السلام


صحيفة الحياة - الجمعة، 14 أكتوبر 2011
يبدو واضحاً أن شخصيات المجموعة القصصية «عين لندن» للكاتب العراقي فاتح عبد السلام ( الدار العربية للعلوم - ناشرون)، على اختلاف أعمارها وظروفها، لم تستطع النجاة من سوء فهم حضاري كبير وخطير اختبره العالم بسبب الإرهاب، فالقصص التي كتبت بين عامي 2010 و2011، تستعيد على طريقتها ذكرى 11 أيلول 2001، وما أثاره ذلك الاعتداء الإرهابي من ردود فعل تجاه العرب، إنْ بالحرب على العراق أو بالتعرض لمسلمين يقيمون في بلاد الغرب. وبما أن الكاتب يقيم في لندن، جاءت هذه القصص من وحي معايشته وضع الجاليات العربية وكيف تعرض كثير من أبنائها لمواقف يختلط فيها استدعاؤهم ذكريات من بلدانهم الأم بتفاصيل حياتهم في البلد الذي يحاولون الذوبان فيه.
في القصة الأولى التي تحمل المجموعة عنوانها، يتوجه المهندس «يوسف» بعد مقابلة عمل فاشلة إلى العجلة الدوارة الكبيرة المرتفعة في لندن والتي يطلق عليها اسم «عين لندن»، أو عجلة الألفية، لكونها افتتحت عام 2000. وبسبب عبارة مزاح قالها في معرض حديث عفوي مع سيدة بريطانية حين كانا يتناقشان في بشاعة شوارع لندن الضيقة، واقترح فيها أن يقوم بهدم نصف المدينة ليعيد بناءها، صار، وبناء على ملامحه الشرقية، متهماً بالإرهاب. أما في القصة الثانية «الشظية لا تزال في ساقي»، فالرجل يقع ضحية جهله اللغة الإنكليزية، إذ شارك، وهو المصاب بشظية في رجله من القصف الأميركي البريطاني، في تظاهرة ظن أنها ضد الحرب على بلاده (العراق)، واعتدى بالضرب على رجلَي شرطة، في حين أن التظاهرة قام بها سائقون بريطانيون لأسباب تتعلق بمطالبهم الخاصة، ولكن سوء الفهم ليس محصوراً في هذه القصص بالعلاقة مع الآخر الغربي، لذلك تصور القصة الثالثة «ماراثون المسافات القصيرة» رجلاً لم يجد في عائلته من يسمعه، وحين اعتصم بالصمت اعتُبر مريضاً أصم، بينما يتحول قرع الأجراس في القصة الرابعة «الناقوس لا يقرع الآحاد» لغة تعلن وفاة شبان بريطانيين يشاركون في الحرب على العراق.
التباسات
«لحظة الاستنساخ البشري» هي القصة الخامسة، وفيها يخيل للرواي أنه رأى معلم اللغة العربية الذي كان أستاذه في بغداد، ثم تبين له أنه ليس هو. والالتباس يتكرر في القصة السادسة «حديقة عباس في ساوث هول»، حين يخيل لجيران «عباس» أن والده الذي أتى من العراق ونقب الحديقة المهملة أمام المنزل وباركها بعمله، لا يزال يقيم مع ابنه، مع أنه عاد إلى بلاده ومات منذ أعوام. والقصة السابعة «جنية الساعة الحادية عشرة»، تروح أعمق في الالتباس نفسه، إذ يصر بطل القصة على أن المرأة العجوز التي يراها تمر في الشارع كلَّ يوم في الموعد نفسه جنية، على الرغم من كل المؤشرات التي يعرف أنها تتناقض مع ذلك.
فما الذي يريد «فاتح عبد السلام» قوله عبر جمع كل هذه الالتباسات في مجموعة قصص كتبت من وحي الحياة في لندن؟ لا شك في أنه يريد التأكيد على أن الجميع ضحايا حالة الرعب التي أثارها الإرهاب في العالم، يتساوى في ذلك أهل الشرق والغرب، المهاجرون والمقيمون، كأن الناس كلهم وقعوا في غربة عن أنفسهم وعما يحيط بهم، فعمَّ التيه والضياع، ولم يعد أحد يرى أحداً على حقيقته أو يصغي إلى ما يقوله، فالأحكام المسبقة جاهزة تنتظر من تنزل فيه من دون منطق أو إنسانية. من شاهد فيلم «إسمي خان ولست إرهابيا» (2010) للمخرج الهندي «كاران جوهار»، لا يستطيع وهو يقرأ هذه القصص أن يبعد وجه ذلك الرجل الهندي المسلم المسالم الذي يسعى طوال الفيلم لمقابلة الرئيس الأميركي لإعلامه بأنه وإن كان مسلماً فهو ليس إرهابياً. أستدعي هذا الفيلم لأقول إن الفنون والآداب العربية لم تستطع بعدُ أن تخاطب الضمير العالمي بجرأة وجمالية لتعلن تبرؤها من الإرهاب، فمازالت الإنتاجات فردية متواضعة محكومة بقدرات أصحابها المحدودة في غياب آلة إعلامية ضخمة تسوِّق صورة العربي المثقف المتمدن وتطرد من المخيلة ما زرعته هوليوود خلال عقود، لولا بضعة أفلام، عن العربي السكير، اللعوب، تاجر البترول... ثم الإرهابي. لذلك، أصاب «عبد السلام» في اختيار شخصيات إيجابية التفكير وإنْ عاجزة، متعلمة تسعى لإثبات نفسها، عاملة، وليست عبئاً على أحد: ففيها المهندس، والمجدّ في عمله، والبَرُّ بوالديه، والمتعاطف مع جيرانه، والمزارع الذي جعل الملكة إليزابيث ترغب في التعلم من تجربته في معاملة الأرض. ولعل الكاتب نفسه يعرف أن محو ما علق في الوعي الجماعي العالمي يحتاج إلى مزيد من هذه الشخصيات.
العودة الى اللغة
ثمة أمر آخر يستدعي التوقف عنده في موضوع اللغة، وأستعير هنا عبارة من الكتاب: «أعود إلى اللغة، لعلها هي السبب العائق اليوم» (ص 71)، فسوء الفهم الذي يتوزع على صفحات هذه المجموعة قد يكون بسبب جهل بعض الشخصيات اللغة الإنكليزية، الضرورية بلا شك لمن يريد الانصهار في الحياة البريطانية. لكن من يجيد هذه اللغة كأهلها لم يكن في منأى عن تحوير كلماته، ما يعني أن الأمر أبعد من قضية اللغة، علماً أن الشعوب العربية اليوم تتخاطب بالإنكليزية حين يعجزون عن فهم لهجاتهم العربية المحلية. وفي هذا المجال، نتوقف عند رأي مهم ومعبر أبداه الكاتب على لسان إحدى الشخصيات (مدرس اللغة العربية)، وهو يصف تعامل المستعمرين مع اللغة العربية: فالفرنسيون في الجزائر مثلاً حاولوا إلغاء اللغة العربية، ما جعل الرئيس الجزائري «بومدين» يطلق حملة للتعريب ضد فَرْنَسَة الحياة الجزائرية، في حين لم يُوْلِ الإنكليز اللغةَ أيَّ اهتمام، ولعلهم كانوا يسعون لتعلم العربية بدل نشر الإنكليزية (ص 70). وهذا أمر يستحق دراسة أثره على شعوب المنطقة، ولعلنا في لبنان معنيون مباشرة به، كوننا منقسمين بين هاتين اللغتين، وغالباً على حساب اللغة العربية. مع التأكيد على ملاحظة الكاتب أن الفرنكوفونيين يفتخرون باستخدام الفرنسية في أحاديثهم اليومية ومع أولادهم، في حين لا نجد مثل ذلك عند الأنغلوفونيين. «استعماران وأسلوبان في التعاطي مع اللغة»، بحسب هذه المجموعة القصصية، وموضوع يحلو التعمق فيه خارج إطار هذه القراءة النقدية، وإنْ من وحيها، وذلك للوقوف على الأسباب والنتائج.
القصة القصيرة نوع أدبي يحاذر أكثر الكتاب العرب المعاصرين الاقتراب منه لصعوبته، إنْ في اختيار الموضوعات أو في الاعتناء باللغة التي يجب أن تجمع بين الجمالية والمتانة والاختزال، غير أنني أخشى أن تكون «عين لنـدن» مـصوَّبة على القارئ الأجنبي ففاتها أن تنظر بعمق إلى ما يتـوق إلـيه القارئ العربي النيّق.


18- ربيع جابر يطارد أطياف الحرب



جريدة الحياة، الجمعة، 30 سبتمبر 2011
لا يهمّ أن يحفظ القارئ أسماء الناس والأمكنة في رواية «طيور الهوليداي إن» لربيع جابر (دار التنوير)، وليس أمراً أساسيّاً أن يسجّل في ذاكرته أدقّ التفاصيل عمّا جرى لسكّان البناية التي تدور فيها وحولها أحداثٌ متشابكةُ الأزمنة لكنّها تصبّ كلّها في بداية الحرب اللبنانيّة أو ما صار يعرف بحرب السنتين (1975- 1976). فما جرى في بناية «أيّوب العبد» التي يعرفها الناس بـ «المبرومة» بسبب شكلها شبه الدائريّ يمكن أن يحصل في أيّ بناية أخرى، وما حصل في «الأشرفيّة» حيث تقع البناية حصل ما يشبهه في سائر المناطق اللبنانيّة، وما عاناه سكّانها الأصيلون أو المهجّرون إليها ومنها حصل لسواهم من اللبنانيّين وسائر المقيمين على الأرض اللبنانيّة. فما من بيت في تلك الحرب الأهليّة لم يختبر التهجير والخطف والتعذيب والهجرة والموت والإعاقة، وما من عائلة كانت بمنأى عن الآثار النفسيّة والجسديّة والاجتماعيّة لكلّ ذلك، حتّى ولو كان أفرادها في المهجر. الحدث هو المهمّ في الرواية، بل الأحداث، و «عندما تحدث الأشياء تحدث إلى الأبد. لا تقدر بعد ذلك أن ترجع في الزمن إلى الوراء وأن تبدّل مكانك، أن تختار هذه النقطة بدل تلك النقطة، هذه الحياة بدل تلك الحياة، هذا القدر بدلاً من ذلك القدر. تحدث الأشياء مرّة واحدة إلى الأبد. هذا مرعب، فظيع، وقاتل، لكن ماذا تفعل» (ص 254).
ولكن من هو هذا القارئ الذي يتوجّه إليه ربيع جابر؟ هو الذي يريد أن يعرف أكثر عن تلك الحرب، أن يواكب يوميّاتها، أن يرى من خلال الكلمات والأسطر كيف وقعت المعارك ساعة بساعة ومن قضى فيها ومن نجا منها. هو قارئ مستقبليّ إذاً، يقرأ كما لو أنّ ما بين يديه كتاب تاريخ لا يعرف أبطاله أو مجرميه فلا يضيق نفساً وهو يعاين عن كثب معاناة الناس الذين كان واحداً منهم. هي كتابة للتاريخ وليست عن التاريخ، تقرأها أجيال لم تولد بعد، وتريد أن تكتشف سيرة شعب تقاتل أبناؤه بعنف وشراسة بلا سبب مفهوم ومن دون نتيجة، ومع ذلك استمرّوا يبحثون عن أسباب جديدة لقتال جديد. وهي بسبب كلّ ذلك كتابة فيها الكثير من المخاطرة، يخوضها صاحبها غير عابئ بجماهيريّة لا يمكن أن تلتهم بسهولة رواية من 674 صفحة في مجتمع ليست القراءة فيه هواية مفضّلة، وفيها جداول بدوام تقنين الكهرباء (51) وثبت بأسماء البارات والفنادق والمومسات (ص62 و87)، ووصف لأغراض التتخيتة (العليّة) (ص 102)، وخريطة توزيع الحواجز مع أسماء القتلى (ص 108)، وأسماء السينمات والأفلام (135ص) وأسعار العملات وأسماء السيّارات (ص138)، والكثير من التقارير البوليسيّة عن سير المعارك وأسماء المخطوفين، ومقالات من الصحف، وسرد لعناوين كتب وأسماء مجلّات وروزنامات (ص181)، وصفحات منسوخة حرفيّاً من مخطوطات وكتب قديمة، ولائحة بأسعار المواد الغذائيّة... فهل يكتب ربيع جابر لمتعة الكتابة غير معنيّ بإغراء القارئ وجذب اهتمامه أم لا يزال يراهن على قرّاء، مهتمّين بيوميّات معارك لم تنته بسرعة فتحوّلت حرباً، وراغبين في متابعة حيوات الناس الذين توالوا على شقق الطبقات السبع التي يتكوّن منها المبنى ولا تشبه في أيّ شكل من الأشكال نعيم السموات السبع؟
المصعد الكهربائيّ في «المبرومة» معطّل في شكل شبه دائم، لذلك لم يكن سهلاً على سكّانها الوصول إلى بيوتهم من دون أن يتلاقوا ويتعارفوا. هذا الواقع انعكس على قارئ الرواية الذي أجبره الكاتب على السعي خلف السكّان والتنقّل مثلهم بين الشقق في شكل عشوائيّ كما كانت القذائف تفعل. ومن شقّة إلى شقّة، بدءاً من الطابق الأرضيّ حيث الناطور الذي يضرب زوجته، وصولاً إلى الطابق السابع ذي الشقق الأربع، مروراً بالطبقات الأخرى بينهما والمؤلّف كلّ منها من شقّتين، ارتفعت مداميك الرواية في جزءين أساسيّين، ينتهي الأوّل منهما بتبنّي إحدى عائلات المبنى طفلة تُركت على باب المستشفى، وكانت رائعة الجمال وهادئة ودائمة الابتسامة، فأدخلت الحياة على «المبرومة» وأخرجتها من متاهة الحرب حين ليّنت أكثر القلوب قسوة ورسمت ابتسامة على وجوه أشدّ المقاتلين شراسة. بينما ينتهي الجزء الثاني بالعثور على جثّة الناطورة «راغدة زغلول» والدة المخطوفة «كوليت» مهترئة في خزّان المبنى، ووصول إحدى الفتيات المقيمات فيه (مسيحيّة طبعاً) إلى أميركا حيث يقيم حبيبها المسلم الذي سبقها إلى هناك بعدما عافت نفسه الحرب.
هي رواية السقوط: سقوط الهوليداي إن، سقوط الدامور، سقوط تلّ الزعتر والكرنتينا، سقوط الجميع في اليأس، سقوط الإنسانيّة إلى درك الإجرام، سقوط الشعارات المخادعة، ولا ارتفاعَ إلّا لطيور تقيم في الفندق الذي شهد معارك شرسة بين جانبَي العاصمة والذي لا يزال خراباً، وطائرات تحمل الناس إلى أوستراليا واليابان وقبرص وفرنسا وأميركا هرباً من الجحيم اللبنانيّ، ترافقهم بركات الكاتب المتضامن مع رحيلهم أفراداً وعائلات، إيماناً منه بحقّ الإنسان في البحث عن حياة لائقة تضمن له الأمان والكرامة والعمل والحبّ. أمّا الآخرون العالقون في رمال الواقع اللبنانيّ المتحرّكة، فتعلّموا التعايش مع سلْمٍ يعرفون في قرارة نفوسهم أنّه هشّ فحاولوا الاستفادة منه قدر الإمكان.
في الطابق الأرضيّ يتابع آل «زغلول» حياتهم بعد اختفاء الابنة «كوليت» وموت الأم «راغدة» فتستلم الابنة «فريدة» مهمّة التنظيف تحت أنظار المخطوفين المعلّقة صورهم على الحيطان. ومن الطابق الأوّل هاجر آل «زخّور» إلى فرنسا مع ابنهم «ريمون» الذي أصيب بحروق بالغة وهو يقاتل ليلة سقوط «الهوليداي إن»، وغادر الصهر المسلم «سليمان» شقّة آل «ثابت وشرارة» التي اختبأ فيها طيلة حرب السنتين، في حين أوهمت زوجته «ليديا» الجميع بأنّه طلقها والتحق بالمنطقة الغربيّة، ولكن عند سقوط تل الزعتر والتهديد بمعاقبة من يؤوي «الغرباء» خاف على زوجته التي استشهد إخوتها الثلاثة، فغادر البيت. من الطابق الثاني، خرج «ألبير سمعان» لزيارة عائلته في قبرص ولم يعد بعدما اختبر على طريق المطار رعباً مهيناً، أمّا آل «صعب» فحاولوا التأقلم مع أقربائهم الذين تهجّروا من الدامور ولجأوا إليهم. في الثالث، آل «عطيّة» اليهود المهجّرون من وادي أبو جميل ينصهرون في المجتمع الجديد على رغم رائحة الجثث في مخيّمات الفلسطينيّين، وفي الشقّة المقابلة يحاول «لويس الخوري» الاستمرار في الحياة بعد وفاة زوجته ومقتل ابنه «شارل» بعد خطفه وانصراف ابنه «جرجي» إلى المخدّرات وتصفية الأسرى. في الرابع، السيّدة «حبيب» تنضمّ إلى جمعيّة للمطالبة بالمخطوفين بعد اختفاء ابنها «كارلوس» ويسمح زوجها لابنته «حلا» بالسفر إلى أميركا حيث خالها، وهو لا يعلم أنّها تريد الالتحاق بحبيبها «رضا حيدر» الشيوعيّ السابق. في الخامس، آل «زيدان» يقرّرون مغادرة البناية إلى مكان أفضل، وآل «طانيوس» ينشغلون بالتجارة. وفي السادس شقّة غارقة في الغبار والذكريات لـ «آل العبد» أصحاب البناية المسافرين، وشقّة آل «هاينيكين» التي هرب إليها من الغربيّة آل «معلوف». أمّا في السابع فأربع شقق صغيرة يقيم فيها: السيّد «موراني» مع ابنته التي فقدت أمّها/طليقته وأتت لتقيم معه، آل «بدّور» المتأقلمون مع الحياة على رغم إعاقة ولدهم، آل «الحويّك» المشغول بالهم على شقيق الزوجة «بشارة» المصوّر في جريدة «النهار» والذي يتهدّده الخطر بحكم عمله، آل «عازار» الذين نبغ منهم مقاتل شرس اسمه «سعيد» صفّى جميع من صادفهم خلال المعارك ما عدا الأطفال، وهو الذي ابتسم للطفلة «مرغريتا» التي تبّناها أهله.
في ازدحام هذه العائلات، وتلاحق حكايتها واستعادة أخبار جيرانٍ هربوا إلى بيروت الغربيّة، يتداخل السرد والوصف بلغة غنيّة تتخلّلها أساليب الرسالة العاطفيّة والتأريخ الجافّ والتقارير العلميّة، وحين ترد الصور البيانيّة تبدو عابرة وإن غير عفويّة، كأنّ الكتابة عن الحرب لا تحتمل الشعر. ولافت كيف يختار ربيع جابر صوره من عالم الحيوان (هل الحرب إنتاج غريزة بهيميّة؟): سيلان الدم على الوجه «كأنّ بزّاقة تجرّ بطنها على خدّه» (ص101)، «ساكتة كسلحفاة» (ص119)، «كلمات يابانيّة تشبه أثراً تتركه قوائم الطيور مطبوعاً في باحة موحلة» (ص127)، «طنين الوقت الذي يعبر بليداً ويترك أثر بزّاقة رطبة على صحن الشاي» (ص623). كما يلفت أنّ أكثر المشاهد المؤثّرة هي التي يؤدّيها رجال لا نساء حتّى ولو كنّ أمّهات مفجوعات أو مريضات: كمشهد والد «سعيد عازار» وهو يبحث عن ابنه قبل أن يعرف أنّه التحق بالأحزاب، ومشهد تصفية المخطوف على يد خاطف ينتقم لخطف أخيه، ومشهد الدكتور «معلوف» يقاوم بالاغتسال رائحة الجثث المنبعثة من المخيّمات.
في الصفحة 551 من الرواية، يستعيد الكاتب، وهو يروي حكاية انتقال آل «حبيب» من عين الرمانّة إلى الأشرفيّة، مقطعاً ورد في الصفحة 10 يعطينا فكرة عن حياة هذه العائلة. غير أنّه في الاستعادة يبدأ بعبارة: «كيف مرّ الزمن؟» كأنّ الحياة في البناية التي اسمها «المبرومة» تدور كحجر الرحى حول نفسها قاتلة الوقت وطاحنة مصائر الناس. وناس الرواية منساقون سلبيّون، يخوضون الحرب حين تفرض عليهم ويتحوّلون مقاتلين بلا قضيّة أو هدف، لا فرق إن كانوا من «الشرقيّة» أو «الغربيّة»، وتجمعهم رغبة في انتصار وحيد هو الهرب حين تسمح الظروف، وعندها فقط يعودون بشراً يصعب الاقتناع بقدرتهم على ارتكاب المجازر.
ولكن ماذا بعد الكتابة للتاريخ؟ هل تستطيع رواية الحرب والسلم هذه أن تغرينا بالعودة إليها بحثاً عن مواقف إنسانيّة خالدة أو شخصيّات آسرة. سؤال تصعب الإجابة عنه قبل أن نترك مسافة بيننا وبين المصوّر الصحافيّ الذي ماتت أمّه في غيابه، وسكّان البناية الذين تسمّموا من مياه الخزّان الذي غرقت فيه الناطورة، والمقاتلة الجميلة التي بتروا ساقيها من الحوض بعد إصابتها في معركة «الهوليداي إن»، والمخطوفين العالقين بين العودة والغياب، أو ربّما بعد أن يرمّم فندق تنزل فيه الطيور آمنة، ويتنقّل الناس حوله من دون أن يلتفتوا إليه.

17- سلوى بكر في حديقة «الصفصاف والآس»


صحيفة الحياة - الجمعة 23 أيلول (سبتمبر) 2011
إن كان من شروط الرواية أن تتخطّى المئة صفحة على الأقلّ، خصوصاً إذا كانت من القطع الصغير، فرواية «الصفصاف والآس» لسلوى بكر الصادرة عن الهيئة المصريّة العامّة للكتاب ليست كذلك (94 صفحة). وإن كان من شروطها حشد أكبر عدد من الشخصيّات التي توضع تحت مجهر التحليلين النفسيّ والاجتماعيّ، فالرواية المشار اليها لا تفي بالمطلوب، وإن كانت الرواية عرضاً لغويّاً يجمع بين أساليب كلاميّة مختلفة ومن ضمن تقنيّة مغايرة، فما نحن في صدده ليس قطعاً كذلك. أمّا إن كان العمل الروائيّ هو ذلك الذي ينقل قارئه إلى عالم آخر، مع ما يستدعي ذلك من الوصول إلى تحديّات ذهنيّة وحالات عاطفيّة ومستويات خياليّة، فتكون الرواية قد لامست هدفها ولكن من دون التعمّق فيه أو إعطائه حقّه. ففي الصفحات القليلة التي تكوّن هذه القصّة، يمكننا العودة إلى مرحلة مجيء نابوليون بونابرت إلى مصر، والتعرّف إلى عائلة الشيخ خليل البكري، نقيب الأشراف، الذي تغاضى عن علاقة ابنته بالقائد الفرنسيّ في سبيل تحقيق مصالحه، وحين رحل الفرنسيّون تنكّر لابنته وتركها عرضة للقتل. ونستطيع كذلك أن نعاين تفاصيل الحياة اليوميّة في تلك المرحلة التي شهدت احتكاكاً آخر بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والمسيحيّة، ولكن هذه المرّة في ديار العرب، بعدما كانت المرّة الأولى في الأندلس. وذلك من خلال ما دوّنه المؤرّخ عبدالرحمن الجبرتي (1756- 1825) الذي عاصر الحملة الفرنسيّة على مصر وكتب عن التغيّرات الحياتيّة والاجتماعيّة والحضاريّة التي نتجت من الوجود الفرنسي في بلاد النيل. ومع كلّ ذلك يبقى شيء ناقصاً، ونعتب على الروائيّة التي لم تذهب بالمتخيّل إلى آخر المشوار طلباً لمزيد من الدهشة والإبهار، ولم تستغلّ التاريخ كمسرح لحدث لافت بقدر ما استقت منه معلومات تقريريّة جافّة، ولم ترسم لشخصيّاتها أدواراً أكثر تأثيراً وبقاء.
زينب ابنة الشيخ البكري تفقد يوماً بعد يوم ثقتها بنفسها نتيجة معاملة أمّها وأبيها له: فالأمّ تجد ابنتها سوداء قبيحة نحيلة لن تجد من يطلبها للزواج، والأب منشغل بحياته الخاصّة مع الجواري والغلمان فلا يكاد ينتبه إلى وجود ابنته، فاستعاضت الفتاة معنويّاً عن هذا التهميش بشقيقها الذي يروي لها ما يجري خارج حدود البيت وخصوصاً في ما يتعلّق بعلوم الفرنسيّين واختراعاتهم، وجاريتها «مال» التي تسبغ عليها بعض حنان واهتمام. ولكن حين تنال الفتاة حظوة في عين بونابرت وتصبح عشيقته، برضا والدها التاجر ورغماً عن أمّها التي اعتبرت الفرنسيّين كفرة قذرين، تنقلب حياتها رأساً على عقب وتجد نفسها محطّ إعجاب واهتمام وعلى تماس مع تقاليد غريبة وعادات مثيرة تدفعها إلى المقارنة بين المصريّين والفرنسيّين في مختلف شؤون الحياة وطرائق المعيشة. ولعلّنا نفهم طبيعة هذا النوع من العلاقات من خلال ما نقلته «زينب» عن امرأة شاميّة كانت تحتمي بالفرنسيّين لأنّ زوجها عميل لهم فتقول: «إذا رغب الإنسان في أن يعرف مصر من الأمصار فعليه أن يعرف نساءها وطعامها» (ص49)، ونضيف: وأن يغري رجالها بالمناصب، لأنّ ذلك ما يسهّل الجلوس إلى موائد الطعام والاحتكاك بالنساء والضرب بعرض الحائط بتقاليد كانت إلى حين من المقدّسات. ولا يخفى أنّ كلّ علاقة تولد في ظلّ احتكاك حضاريّ تصلح للكتابة عنها، خصوصاً متى كانت بين مستعمِر ومستعمَر، بغضّ النظر عمّن يحمل الحضارة الأكثر تأثيراً، كما حصل على سبيل المثال بين اليونانيّين والرومان، والعرب والبيزنطيّين أو العرب والفرس أو العرب والإسبان، والأوروبيّين والهنود الحمر، والألمان والفرنسيّين، والفرنسيّين واللبنانيّين، والبريطانيّين والهنود، والإسرائيليّين والفلسطينيّين. بل يمكننا الوقوع اليوم على مئات القصص عن علاقة جنود القوّات الدوليّة التابعة للأمم المتحدّة بالسكّان المحليّين في جنوب لبنان مثلاً وكيف انتهت، وفق الانتماءات الطائفيّة، إلى مصائر تتنوّع بين الارتباط والتصادم.
كان في إمكان رواية «الصفصاف والآس» أن تذهب إلى ما هو أبعد من نمطَي السرد والوصف وسيطرة اللغة المحكيّة. فطبيعة العلاقات المنسوجة (أو المقطوعة) بين شخوص الرواية تصلح لكتابة أدبيّة عميقة، وتحليل نفسيّ أكثر عمقاً، خصوصاً شخصيّة الأمّ التي أراها شخصيّة نموذجيّة تختصر واقع النساء اللواتي لا يملكن زمام الأمور ويخشين التغيّرات فيوحينّ لأنفسهنّ بأنّ ما هنّ فيه هو الوضع المثاليّ. أمّا اللغة التي أرادتها الكاتبة واقعيّة فمن الممكن أن تعيق الاستمتاع بالقراءة كونها تقف أكثر من مرّة حاجزاً أمام انسياب الفهم والاستيعاب، خصوصاً مع سوء توزيع علامات الوقف التي لم تعط حقّها من الاهتمام. ولا أعتقد أنّ الحاجة كانت ماسّة إلى حدّ ربط الرواية كليّاً بلغة المؤرّخ الذي استقيت منه المادة التأريخيّة أو لغة العصر الذي تجري فيه أحداث القصّة.
نشير أخيراً إلى أنّ «الصفصاف والآس» اسم حديقة عامّة أنشأها أحد أثرياء المماليك، كان الناس يقصدونها للترويح عن النفس، وشهدت تغيّر الأحوال في مصر، مروراً بالفرنسيّين وعودة إلى العثمانيّين، وهو ما اختصرته جارية «زينب» قائلة: «مسكينة يا مصر. كلّ يوم في حال. لكن حال أنيل من حال» (ص80). أمّا نهاية الرواية فتتزامن مع نهاية الفتاة التي تكاثر عليها الرجال الذين حاكموها بعدما تبرّأ منها والدها فجذبوا ضفائرها السوداء، تلك التي أثارت إعجاب بونابرت، ولفّوها حول رقبتها لخنقها. وهي لقطة موفّقة تحيلنا على صورة معاكسة في إحدى حكايات الأطفال للفتاة التي كانت جديلتها الذهبيّة الطويلة حبل خلاصها من البرج حيث سُجنت. ولكن من قال إنّ قصص الأطفال لا تخدع الفتيات الصغيرات؟ ومن قال كذلك إنّ حوار الحضارات يؤدّي إلى نتيجة إيجابيّة إن كان المتحاورون ليسوا على مستوى متقارب كي لا نقول متساوياً من حيث المعرفة والقوّة والحريّة والرغبة المتبادلة في الحوار؟ ولعلّ السؤال الأهمّ هو: ما هو تعريف الهويّة في ظلّ الاحتكاك الحضاريّ المتولّد عن استعمار أو انتداب أو احتلال أو فتح أو حملة أو تهجير؟

16- "هلابيل" حكايات تتعدّد باختلاف رواتها


صحيفة الحياة - السبت 17 سبتمبر 2011
«هلابيل» (الدار العربيّة للعلوم - منشورات الاختلاف 2010) هي الرواية الثالثة للجزائريّ سمير قسيمي، بعد «يوم رائع للموت» و»تصريح بضياع» أتت في موعدها لتؤكّد أنّ تجربة هذا الروائيّ الشابّ تفرض نفسها لغة ومضمونًا، وبات من طبيعة الأمور أن يُعطى مشروعه الأدبيّ حقّه بعدما أثبت تميّزه بخطوات سريعة وثابتة. ولنا عودة إلى تبيّن ذلك من خلال روايته الرابعة «في عشق امرأة عاقر» الصادرة حديثًا. لا أخفي أنّ «هلابيل» تحتاج من قارئها معرفةً كافية بتاريخ الجزائر وجغرافيّتها واطّلاعًا وافيًا على الحياة الدينيّة فيها، خصوصًا في البعد الروحيّ والتأثير الصوفيّ، فضلاً عن الأساطير والحكايات الشعبيّة. ولكن هل يعني ذلك أنّ غير الخبير بكلّ ذلك لن يستمتع بقراءة الرواية وملاحقة شخوصها المهمّشين؟ قطعًا لا، بل ربّما العكس هو الصحيح، لأنّ القارئ الغريب عن هذا المجتمع، ولو كان عربيًّا (أعني بذلك القارئ)، سيجد نفسه في أجواء مثيرة وشيّقة تجذبه بما فيها من شعر وتاريخ وأديان واستعمار وجرائم وتحقيقات، وبأبطالها المختارين بعناية، وبأساليبها المتنوّعة وصياغتها اللغويّة الغنيّة وإن شابتها مجموعة أخطاء نحويّة سقطت سهوًا ونتمنّى تصحيحها في الطبعة الثانية: سمعت نحيبًا وأصوات مبحوحة (في الصفحة الأولى)، بعينين اغرورقا دمعًا (ص16)، حاولت أن أمحها (ص35)، فائدة تُرجا، ولم تكن عيناه تجهر بشيء (ص41)، بعد أن ينزعون منها المرحاض (ص43)، هامش ثاني (ص58)...وكثير غيرها.
«هلابيل» (وهو عنوان ٌغامض قد لا يجذب القرّاء) هو الابن الذي أنجبه الرجل الأول والمرأة الأولى قبل أن يزوّجهما خالقهما، ومن نسله كان الملعونون والمهمّشون والتائهون لأنّ أبويه تنكّرا له، ثمّ صار له أتباع ومريدون يعتبرونه بمثابة الأب الأول لكونه سابقاً لقابيل وهابيل. ونسمعهم في الرواية ينشدون له في حلقات ذِكر خاصّة بهم: هلابيل...هلابيل/ أبونا أنت من قبلُ/ فلا قابيل أو هابيل/ أُعطيَ قبلك العقلُ (ص67). ولجماعة هلابيل مخطوطات تتناقلها الأجيال سرًّا، لأنّ فيها الحقيقة التي يرفضها الآخرون الذين هم أولاد قابيل وهابيل، ويسأل أحد رواة القصّة: «ما الغاية من كلّ هذا التستّر؟ أكان يضرّنا أن نعلم ونستمرّ كيفما شاء، أم أنّ خوفنا من خوفنا ما يجعلنا نستمرّ...إن كان ثمّة من خطأ فليس لنا، فعلام إذا ًنخشى حقيقتنا التي بدأت بكذبة واستمرّت كالخميرة تكبر، حتّى انتهت إلينا عالمـًا قبيحًا أوّله الزيف وآخره الخوف من حقيقتنا، تلك التي ما كان آها أن تختفي لو أنّه...أأقولها وأفضحه، هذا المنزّه من كلّ ذنب أو خطيئة، إلّا خطيئة المعرفة» (ص122).
ومع ذلك فليس سهلاً أن تُكتب البداية. «ولكن من بدأ هذه القصّة»، يسأل الراوي (ص 128)، «فكما قلت لم يكن ما سبق بداية بقدر ما كان نهاية لقصّة بدأت قبل الأين والمتى، حين لم يكن للإثم اسم، ولم تكن الخطيئة قد دوّنت في قاموس الحياة». تختصر هذه الكلمات أمرين جوهريّين يشكّلان بنية الرواية ومضمونها: فمن حيث البناء نجد أنّ ما ورد في هذه الصفحة (128) يتلاءم مع عنوان القسم الأوّل الذي أعطي تسمية لافتة: «ما بعد الرواية». كأنّ الرواية، وربّما أيّ رواية، تبدأ على الورق من حيث انتهت في الواقع، أكان ذلك واقعًا معيشًا أو متخيّلًا. لذلك، نجد سؤال الراوي «من أين أبدأ القصّة؟»، والمطروح إلى حدّ ما في منتصف الكتاب (207 صفحات)، دليلاً على أنّ للرواية بدايات تختلف باختلاف رواتها، وعددهم هنا ستة. أمّا من حيث المضمون، فتختصر الفقرة المشار إليها نظرة الكاتب إلى مسألة الخطيئة. ويصبّ اختيارُه شخوصَه المحكومين بنظرة المجتمع إليهم في مصلحة ذلك: السجين، العاهرة، زير النساء المصاب بالسيدا، الشاذ جنسيًّا، الشرطي الفاسد، المستعمِر الفرنسيّ المسيحيّ. ومع ذلك فهؤلاء هم الباحثون عن الحقيقة والمؤتمنون على أسرار روحيّة لا تُعطى بحسب المتعارف عليه إلّا للمختارين بناء على مواصفات معيّنة.
لا يتوقّف تحدّي الكاتب عند هذا الحدّ، ففضلًا عن تسليمه إرث الفكر البشريّ إلى مجموعة مضطهدين، نجده يمعن في التطرّق إلى موضوعات تستفزّ المسلّمات الاجتماعيّة والدينيّة، خصوصًا في بيئة كالبيئة الجزائريّة المغاربيّة.
تستحقّ الرواية معالجة نقديّة تضيق بها هذه المقالة، ولكن يمكن التنويه بأنواع كتابيّة متعدّدة تمّ التنقّل بينها في انسياب وبراعة كالوصف والرسالة والتأريخ والفانتازيا مع ما تفرضه من مفردات وتعابير تلائم مقتضى الحال، ما جعل اللغة تقريريّة جافّة في آخر فصول الرواية حيث المعلومات التاريخيّة والتحقيقات البوليسيّة، وشعريّة وجدانيّة في الفصول الأولى: «أهو الشوق أم الاضطرار ما أعادني إلى أرض نفيتها من قلبي بغضًا وكرهًا وازدراء، حتمًا هو الاضطرار، فلا شوق يحمل إلى حيث لا ينبت الحلم وتزهر الآمال» (ص45)، «تعثّرت الحضارة عند عتبتها (البلدة) ولم تلحّ في الدخول» (ص74)، «ليس أخطر من الأحلام في وطن يرغب عنها» (ص103)، «ثمّ خاط الصمت فمه لينتهي (في وصف الموت)» (ص 106). لكن لا شيء يمنع ورود تشبيه يفاجئ يجعل القارئ يتساءل إن كان الكاتب أسقط سهوًا مشبّهًا بهما غريبين عن بعضهما أم هي عبثيّة الكاتب الساخر تزاوج بين عالمين بعيدين من حيث المناخ الخياليّ: «وجهه أحمر كحبّة رمّان أو كوجه موسكوفيّ تجرّع قارورتي فودكا» (ص76)، كما زاوج أيضاً بين أكثر من أسلوب ومزاج وزمن روائيّ.

15- "بنات البراري" لا يخرجن اليوم للتنزّه/ رواية مها حسن

صحيفة الحياة، الإثنين، 05 سبتمبر 2011
كيف نقرأ الروايات العربيّة المكتوبة أو الصادرة عشيّة الثورات العربيّة؟ هل ننظر إليها على أنّها من عصر بائد لا يصحّ ما فيها على الواقع المستجدّ، أم نفتّش بين كلماتها عن ملامح ثورة لم يصدّق الأدباء والمفكّرون أنفسهم، وهم أكثر الحالمين بها، أنّها قد تتحقّق ليكونوا هم أوّلَ المتفاجئين بها؟ وكيف نفهم أن يخرج إلى الشارع ثوّارٌ يريدون إسقاط الأنظمة الديكتاتوريّة وبينهم رجال لا تزال أيديهم ملوّثة بدماء نساء لا يسلم الشرف الرفيع من دون إراقة دمائهنّ؟ وبماذا تختلف النساء اللواتي استُشهِدن في سورية خلال التظاهرات الأخيرة (أكثر من خمسين شهيدة) عن آلاف النساء اللواتي قتلن ولو بشبهة الحبّ؟ تساؤلات فرضتها رواية «بنات البراري» للكاتبة السوريّة الكرديّة المقيمة في فرنسا مها حسن (دار الكوكب–رياض الريّس)، ولن نجد الأجوبة عليها قبل أن تتبلور صورة المجتمع الجديد ويتوضّح دور المرأة فيه مع وضع حدّ لمرحلة سوداء عنوانها: جرائم الشرف.
وإن كان من موضوع يستحقّ الكتابة عنه بمزيج من الشعر والغرائبيّة والواقعيّة التقريريّة، فهو جرائم الشرف التي هي مزيج من الحبّ والجنس والجريمة، وفيها يختلط الخاصّ بالعام، والقيم الاجتماعيّة بالظلم. وهذا ما بنت عليه الروائيّة هيكل روايتها. ومع ذلك، فالمعلومات الموثّقة عن هذه الجرائم أساءت في أكثر الأحيان إلى العمل، حين أسقطت اللغة من قمم الفانتازيا إلى حضيض الخبر النثريّ الجافّ واللهجة الخطابيّة الواعظة، كما في قولها «اخترع الرجال الأفكار، قسّموا العالم ونظّروا فيه وأفسدوه وحلّلوه (...). يجب أن تأتي امرأة لتقلب الفكر العالميّ...» (ص 98).
فهل كانت الكاتبة تتعب من ثقل هذه الجرائم على ضمير البشريّة فترزح بها ومعها، وتتخلّى عن ترف الصورة الشعريّة لتفاجئ القارئ بتدخّلها مصلِحةً اجتماعيّة ثائرة غاضبة، ثمّ تجبره على الانضمام إليها ولو شاهداً سلبيّاً؟ في الصفحة الأولى من الرواية، نقع على انطلاقة فنيّة رائعة تصوّر جريمة الشرف التي ترافقت مع ولادة الطفل الآتي من خارج شرعيّة الزواج: «في اللحظة التي انفصل فيها الرأس عن الجسد، سقط الرأس الثاني في الأسفل. مشهد بالغ الغرابة، جسد مفصول الرأس، يتدلّى من بين الساقين رأس آخر. أهو جسد يحمل رأسين، رأساً في الأعلى وآخر في الأسفل؟ انشغل الحاضرون بالرأس الأوّل، المفصول عن جسده، لهذا لم يلحظ أحدهم بروز الرأس الثاني». ثمّ تأتي العبارة التي تجعلنا فيها الكاتبة شركاء معها في رؤية ما يجري وفي عدم التحرّك لمنعه: «المرأة العجوز الجالسة خلف النافذة، الملتصقة بكرسيها، لا تتحرّك كما لو أنّها ميتة، إلاّ أننا نعلم بأنها ليست هكذا، فقط عبر دموعها». «إننا نعلم» تقول، ومع ذلك نكتفي بالبكاء، كهذه المرأة العجوز. ولكن الرجل العجوز الذي تبرق عيناه ابتهاجاً بتحقيق العدالة والانتقام للشرف، والجالس كما تجلس المرأة، يفسّر عجز المجتمع عن محاربة هذا النوع من الجرائم، وحين يتحوّل حبيبُ المرأة المفصولة الرأس ووالدُ الطفلة مرتكبَ جريمة شرف يغسل فيها العار، نفهم أنّ الرجل العجوز في بداية الرواية كان مطمئنّاً في سرّه إلى تواصل مسلسل القتل.
تتوزّع الرواية على فصول لها ألوان، كما في رواية «شرائط ملوّنة من حياتي» للكاتبة اللبنانيّة ليلى عسيران (1994): فالفصل الأوّل عنوانه «أحمر»، وهو لون الدم الذي صبغ القرية التي قتلت فيها «سلطانة» بسبب علاقتها بـ «إبراهيم» وحمْلها منه. عنوان الفصل الثاني «أصفر»، وهو لون الخوف كما تشرح الكاتبة، التي تتدخّل في الصفحة 51 قائلة: «لماذا سمّي هذا الفصل بالأصفر؟ جميع شخوص هذه الرواية يشعرون بالخوف. الخوف الذي يمتقع بسببه لون الوجه. يهرب منه الدم الأحمر». الفصل الثالث يحمل عنوان «بنات البريّة»، وفيه نرى أنّ الفتيات لا يشعرن بالأمان إلاّ متى تركن بيوتهن وقراهنّ واعتزلن في البريّة، في اتّهام مباشر للحياة الاجتماعيّة التي تغتصب المرأة وتقتلها بدل أن تحميها. الفصول الأخرى تحمل على التوالي عناوين: أحمر قانٍ، برتقالي، أزرق عابر، أسود، أخضر، وفيها دلالات واضحة على القسوة في الأحمر القاني حين ينتشر الخوف من الحبّ الذي بات الجميع يرى فيه طريقاً للموت، ثمّ يلوح احتمال خلاص في البرتقالي، حين كبرت ابنة «سلطانة» وبلغت، وغسلت بدم حيضها لعنة أمّها على القرية وبدأ الأحمر بالاختفاء تدريجاً. يليه أمل عابر في الأزرق، حين عرفت ابنة «سلطانة» الحبّ فمنحها حبيبها اسم «ريحانة» بعدما كانت بلا اسم، قبل أن يقتلها والدها غسلاً للعار. هنا تنتهي الرواية، غير أنّ الكاتبة تأخذنا تحت عنوان اللون الأسود إلى باريس، حيث تقيم، لتعرّفنا على رجل «حقوقيّ، حاصل على شهادة عليا في الحقوق، ومعارض سياسيّ اعتقل لسنوات، وتعرّض للضرب والتعذيب، إلاّ أنّه قال لي (للكاتبة)، ولم أفاجأ كثيراً، فهو أبي، أو يشبه أبي ومعظم الآباء الشرقيّين: «تعرفين، لو أنّ ابنتي خرجت عن الشرف لقتلتها» (ص 140). غير أنّ الروائيّة في الفصل الأخير الذي تصفه بأنه متخيّل، تعبّر عن رجائها بمجيء غد أفضل أعطته اللون الأخضر، ولن يتمّ ذلك ما لم تتحدّ البنات، بنات الحريّة، ويستحممن على آثار دماء سلطانة وريحانة (ص150).
لم يكن في إمكان مها حسن أن تبقى روائيّة محايدة مختبئة خلف شخوصها وهي ترى النساء يذهبن ضحايا الحبّ والرجال يَقتلون بسبب الجهل ولو ادّعوا أنّهم يشجّعون بناتهم على الدراسة، ففي مشهد من الرواية تحذّر «تميمة» نبيّة القرية، المتنسّكة في البريّة، والد «سلطانة» من إرسال ابنته إلى المدرسة من دون أن تبوح له بالسبب. فهي بحكم قدرتها على رؤية المستقبل عرفت أنّ المأساة ستقع لا محالة حين تتعرّف «سلطانة» على حبيبها في المدرسة. يرفض الوالد النصيحة قائلاً بحزم: أريدها أن تخرج، أن تملأ وقتها بعوالم مختلفة، أن تتعلّم، أن تفكّر، أن تتساءل، أريد لذهنها أن يتفتّح، ويخرج من حدوده الضيّقة. العلم مهمّ يا أمّاه، العلم يمنحها المعرفة، والمعرفة بصيرة ونور، العلم يفتح طاقاتها الداخليّة، يفتح أمامها أبواباً جديدة، ينقذها من مصير ضيّق محدود. هكذا فقط أستطيع حمايتها، لا بعزلها في المنزل كقطّة بيتيّة، أو كعصفور، في قفص، بل عبر تعليمها ومنحها صوراً جديدة واحتمالات مختلفة» (ص44). لم يأت «شريف» والد «سلطانة» على ذكر الحبّ كاحتمال شعور قد ترغب ابنته في اختباره، لذلك كان عليه أن يكون «اليد» التي تحمل السكّين نيابة عن المجتمع ويقطع عنق ابنته التي أراد لها، ربّما، أن تتعلّم كي تحصل على وظيفة وتساعده في تحمّل أعباء الحياة، لا أن تعرف جسدها وجسد الرجل وتكتشف رغباتها ورغباته. والمفارقة هي أنّ كلّ رجل يقنع نفسه بأنّه يؤدّي مهمّة مقدّسة يحميها القانون وتشرّعها التقاليد ويباركها المجتمع، فيجيب «إبراهيم» ابنته «ريحانة» حين تسأله عمّا سيفعله بها حين علم بخرقها التقاليد: ليس أنا...إنّه القدر.
«بنات البراري» لا يخرجن اليوم للتنزّه، ويرجعن بباقات من ورد الربيع، شقائق النعمان، الأقحوان، الورود الصغيرة الملوّنة التي لا يعرفن أسماءها، النرجس الأصفر (ص 65). إنّهن مساهمات في زراعة الربيع العربيّ في ساحات المدن، فهل تنصفهنّ أزمنة ما بعد الثورات، وتحمي حريّتهن ورغبتهنّ في العلم والحبّ والحياة؟

14- «أهل البياض» رواية مغربية ... مبارك ربيع يواجه السلطات المتعددة



صحيفة الحياة، الجمعة, 02 سبتمبر 2011

كيف يمكن ألّا يكون البياض هو اللون الطاغي على المجتمع الذي تدور فيه أحداث رواية الكاتب المغربيّ مبارك ربيع الصادرة لدى دار الساقي؟ يفرض السؤال نفسه على قارئ رواية «أهل البياض» وهو يكتشف صفحة بعد صفحة كيف تغيب ألوان الحياة الأخرى متى انتشر الفقر والجنون والعهر والجهل، فيسيطر بياض محايد باهت لا يبشّر بولادةٍ تنبثق من ظلمة الرحم. وقد أحسنت مصمّمة الغلاف ماريّا شعيب التعبيرَ عن مضمون الرواية من خلال اختيار صورة تمثّل خيال إنسان بلا ملامح واضحة – كأنّه مستوحى من فيلم رعب - يتخبّط صارخاً في بياض عقيم يخشى ألّا يخرج منه فراشة حرّة، مع العلم أنّ دودة الحرير لا تتحوّل في بياض الشرنقة الذي نراه نحن بل في عتمة خيطان حبكتها حول نفسها ولم تُفرض عليها قيوداً. غير أنّ قارئ الرواية سيسأل نفسه عند الانتهاء من القراءة إن كانت شخصيّات الرواية تريد فعلاً الخروج من سجنها كما يوحي الغلاف أم هي مستسلمة لقدرها، تجترّ معاناتها وهي عاجزة عن تحطيم الأسوار التي تحيط بها.
يمكن التوقّف عند ثلاث صور جامعة تختصر أجواء الرواية، ولا تعطيها حقّها في طبيعة الحال: صورة السلطة، صورة المرأة، صورة الرجل. فللسلطة مظهران طاغيان: أحدهما تمثّله الدولة والثاني يعبّر عنه الأب، وكلاهما عاجز ضعيف فاشل. فرجال الشرطة هم السلطة في الحيّ الذي تدور فيه الرواية، لكنّهم أعجز من أن يفرضوا هيبة أو يلقوا القبض على مجرم أو يحلّوا لغز اختفاء امرأة كانت تقف إلى جانب شرطيّ على ناصية الشارع. أمّا رئيسهم فخاضع لرغبته في النساء، متستّر على المغتصبين، يفتعل قضايا تتعلّق بالإرهاب وأمن الدولة لمجرّد إيجاد دور وإثبات وجود. ولا تختلف ملامح السلطة التي يمثّلها الوالد عن تلك التي تتميّز بها الدولة، فالوالد متسوّل أعمى يمضي وقته في أحاديث توفّق بين فتاوى الدين ومتع الدنيا، تاركاً ابنته القاصر تتجوّل في الشوارع وهي تبيع محارم ورقيّة وقبلات تطبعها على وجوه الناس مقابل ثمن. فكيف ينمو المجتمع الجديد (تمثّله الفتاة «فايزة») وينجو من الاعتداء على حقوقه وهو ضحيّة سلطتين من هذا النوع؟
توصلنا «فايزة» إلى صورة المرأة في رواية لا امرأة فيها تعِد بحبّ أو أمل. فـ «فايزة» المتسوّلة تتعرّض لاغتصاب لا يريد أحد أن يعترف بحصوله، و «عيدة» زوجة أبيها ليست الأمّ التي تربّي وتحضن وتعالج، ما يجعل الفتاة أكثر قرباً من والدها، يستند إلى عينيها ومساعدتها لمقاومة عماه وفقره، وتنخرط هي في مجتمعه الذكوريّ بعيداً من طفولتها وبراءتها.
وفي هذا العالم المستريح إلى فقره والباحث عن مقوّمات استمراره في متع الجسد أو غيبيّات الروح امرأتان أخريان: غيّاتة، العاهرة التي تبيع الرجال جسداً وتمنح مجنون البلدة عطفاً، و «راضية» التي اختفت في ظروف غامضة وحين «ظهرت» في الحيّ استقبلها الناس كصاحبة رؤيا يتبرّكون بها وهم يؤمنون بخطف من نوع آخر تنخطف فيه الروح وترى ما لم تره عين أو سمعت به أذن، لذلك زفّوها إلى زوجها كأنّها عروس لم تعرف رجلاً. هنا تبرع المعالجة الروائيّة في تصوير ساخر يبيّن المجتمع وهو يحتفي بالمرأة العاهرة ويحميها، ويحتفل بالمرأة التي اختفت ويسبغ عليها آيات الإجلال، في حين تواجَه الفتاة الصغيرة المغتصبة باتّهامات تدين قبلاتها البريئة، فلا تجد بالتالي من يدافع عنها أو يفتّش عمّن اعتدى عليها.
أمّا صورة الرجل فتبدو من خلال أربعةٍ أساسيّين: الفقير المتسوّل «لبصير» والد «فايزة»، وصديقه صاحب الدكّان «محجوب» المتّهم باغتصاب الفتاة، ورئيس المخفر «الشاف حمّوني» الذي لا يتخطّى دوره كشاهد لا يريد أن يرى، وأبله الحيّ «ليشير» الشاهد الذي لا يريد أن يحكي. مع هذه النماذج تبدو نهاية الرواية في منتهى العفويّة والطبيعيّة كأن لا نهاية منطقيّة سواها: فتقرّر «سلطة» رئيس المخفر أن لا إثبات على حادثة الاغتصاب، وأنّ «فايزة» قد تتهم بالزنا لأن الناس شهود على تصرّفاتها في الشارع وهي توزّع قبلاتها عليهم، وأنّها ستسجن في دار الأحداث؛ وتجد «سلطة» الوالد أنّها أعجز من مقاومة سلطة الدولة، وأنّ «سلطة» صاحب الدكان الذي يديّن رجال الشرطة أقوى من كرامة الفتاة وحقّها؛ وينتبه الأبله إلى أن لا مكان له بعد الآن في الحيّ، فيلحق بفايزة ووالدها الهاربين من مجتمع نبذهما، و «يطير باتجاههما، رافعاً أذياله المرفوعة أصلاً، بجناحي ذراعيه يرفرف في الفضاء صوبهما، بكيان مغرّد ولحن طفولي يطير إليهما، يخترق ثنائيهما، يلفّهما بجناحي ذراعيه، يدفعهما معه في الطريق» (ص 391).
لا تُعتبر النماذج البشريّة التي تتشابك مصائرها في هذه الرواية جديدة أو غريبة، ولا أحسب أنّ أحداً لا يزال ينتظر من أيّ عمل فنيّ نماذج لا تشبهنا أو تشبه الناس الذين يحيطون بنا، غير أنّ هذه الرواية نجحت في أن تكون مختلفة: بلغتها الأنيقة بلا تقعّر أو عرض معلومات مجّاني، وتحليلها اللمّاح بلا فلسفة أو حشو، وشخصيّاتها غير النادرة لكن المتميّزة في شبكة العلاقات المنسوجة بينها، وخصوصاً بمعالجة ذكيّة أظهرت الكاتب عيناً ترى وترصد بقدر ما أخفته خلف شخوصه، فنحن، وإن كنّا لا نجد أيّ تدخلّ مباشر منه في سير الأحداث، لا نستطيع أن ننفي أنّنا كنّا نشعر بوجوده، مشاهداً صامتاً محايداً، يعرف كيف يرى وأين يلتفت وماذا يختار وكيف يكتب، ولو من خلف زجاج مكتبه.
أمر آخر من المهمّ التوقّف عنده في ما يتعلّق بلغة الرواية التي تجمع بين الفصحى والعاميّة وهو من طبيعة العمل القصصيّ؛ فالرواية نجحت، ببراعة وذكاء، في ألّا تجعل العاميّة عائقاً أمام من لا يعرفها، فثمّة انسيابيّة شاعريّة وحِرفة في تمرير المفردات العاميّة بين طيّات الفصحى المحكمة السبك تكشفان التأنّي في كتابة الرواية، وتفرضان على المتلقّي تأنيّاً مقابلاً، ولكن ليس على حساب متعة القراءة التي ترسّخ شخصيّات الرواية في البال نماذجَ إنسانيّة معبّرة، لا شيء يعيقها عن إثبات وجودها في تاريخ الرواية العربيّة.

13- قاسم حدّاد يأسر الشعر في «شذرات» بقلم ماري القصيفي



صحيفة الحياة، الإثنين, 29 أغسطس 2011
"سوف تفكّر كثيراً قبل أن تطلق عقلك في حقل النار، غير أنّ قلبك هو الكفيل بالقيادة عندما يتعلّق الأمر بقراءة الجمر» (ص 37). كلمات نستعيرها من شذرات الشاعر البحرينيّ قاسم حدّاد لنصف بها ما يصحّ أن نشبّه به قراءة كتابه «الغزالة يوم الأحد» (دارالغاوون). فجموعة الأفكار (313 شذرة) المستوحاة من مشاهد الحياة، والتي وضعها صاحبها في لغة تزاوج بين الشعر والنثر، ليست وليدة لحظة تجلٍّ شعريّ أنجبت قصيدة، بل هي خلاصة عمر أثمر خواطر وآراء تقلِّب قارئها على جمر لغتها الدافئ مرّة واللاذع مراراً.
نصوص يختلف حجمها بحسب مزاج كاتبها، فقد تكتفي بسطرين تختزل حالة وجوديّة عامّة ودقيقة كما في قوله «ليس قلبك وحدك/ عندما يتعلّق الأمر بالحبّ» (ص 14)، وقد تطول لتشرح فكرة افترض كاتبها أنّ اللمحة الشعريّة لن تفيها حقّها، فأمدّها بالنثر يشرح ويحلّل. وقد يجبره موضوع ما على العودة إليه في أكثر من شذرة، رغبة في تناوله من أكثر من ناحية كأنّه لا يريد أن يترك لسواه ما يضيفه، أو كأنّ الفكرة تفرض نفسها عليه ولا تفارقه قبل أن ينهك أحدهما الآخر، كما في كلامه على المجاز في اللغة (9 شذرات) أو على الدين (13 شذرة).
ثمّة مغامرة في هذا النوع من الكتابة (رأيناها عند جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأنسي الحاج في «خواتم»)، تعرّض النصوص للفوضى والتكرار والتناقض، ما لم يكن كاتبها واعياً إلى أنّ ما بين يديه من أفكار يحتاج إلى غربلة ورقابة نقديّة صارمة تجعله في أكثر الأحيان يحذف أكثر ممّا يبقي. ففي هذه المجموعة مثلاً، نرى أنّ الشذرة الرقم 13 أعيد نشرها حرفياً تحت الرقم 227، والرقم 100 استعيدت كاملة في الرقم 228 وورد ما يشبه معناها في الرقم 187، والرقم 1 أعيد ما يكمّلها ويضيف إليها في الرقم 243، فضلاً عن أنّ بعض الشذرات لم يحافظ على المستوى الشعريّ الذي تجلّى في أكثرها، كما توزّعت الموضوعات المعالجة من دون ترتيب أو تبويب. ولكن هي طبيعة هذا النوع من الكتابة، تفرض إيقاعها ولا تنصاع.
ليست هذه الشذرات من شعر التفاصيل اليوميّة، بل هي آراء فرضتها مشاهدات لافتة أو تجارب مؤثّرة أو تأمّلات يوم عطلة. ويمكننا في هذه القراءة التوقّف عند موضوع الشعر (الإبداع، الفنّ، الكتابة) الذي توزّعت نظرة قاسم حدّاد إليه في أكثر الصفحات. فالابتكار والتجديد صفتان لا تنفصمان عن طبيعة الشعر، ولذلك لا بأس من النسيان، يقول، لأنّه يسمح بكتابة شعر جديد (الرقم 1)، وعلى الأبجديّة أن تتجدّد وإلّا هرمت القواميس (الرقم 44)، فالتكرار والاجترار عدوّا الإبداع، فحتى كتاب كألف ليلة وليلة يعجز عن حمل السحر في كلّ صفحاته (53). غير أنّ الشاعر يضع شروطاً صارمة لهذا التجديد، فالابتكار ابن الصمت (97) والنصّ الجديد يولد من المبادرة (103)، ما يدعو صاحب الغزالة للاحتفال بالكتابة الشابّة الجديدة لأنّها ابنة الموهبة والمعرفة (164)، بل إنّ الطفولة بما فيها من مغامرة وجرأة تنضح بالشعر (227). لذلك، يدعو حدّاد الشعراء إلى الكتابة ثمّ الكتابة لئلّا يقعوا في الكبت (279)، ولكنّه يحذّرهم من تحويل ذلك إلى وظيفة رتيبة (277).
ولا ينسى قاسم حدّاد ربط الشعر بالألم والمعاناة، ما يذكّرنا بالشعراء الرومنطقيّين، فإذا به يستعيد فكرة تشبيه الحبر بالدم كما فعل إلياس أبـو شبكة حين قال: اجرح القلب واسق شعرك منه/ فدم القلب خمرة الأقلام». فالكلام ينبع من القلب ويرتبط بالجراح (45)، وثمّة كتابة تتطلّب «هذا النوع» من الحبر/ الدم (106) وهي تلك التي تدافع عن الحياة؛ فلا تخرج الكلمة من الفم بلا ألم (74)، ولا دافع كالخوف يفجّر الإبداع (75) ولا كتابة إلّا تلك الصادرة عن الشجاعة على البكاء (108).
ميل الشعر إلى جهة القلب في رأي حدّاد لا يعني غياب العقل، لذلك على الشاعر الانتباه إلى متى يجب الانتهاء من كتابة القصيدة فيتحكّم هو بها ولا يتركها تسيطر عليه وإلّا قتلته (127)، مع التنبّه إلى عدم إخضاع الشعر لنواهي العقل المتمثّلة بالأخلاق (219 و253) أو تحويله وسيلة لخدمة القضايا النبيلة (226) أو تركه ينصاع لجفاف الثقافة (242)، ما يبعده عن الإمتاع. أمّا الكتابة الممتازة فهي تلك التي تخطف قلب القارئ (220)، لأنّ الجوهر ليس في الرواية بل في الرؤية (206)، وعلى الشاعر أن يتكلّم من القلب (265)، وعند ذلك يتحوّل النثر شعراً ينضح بالإحساس (255). فالشعر هو أن يضع الإنسان قلبه في طريق الموج وينتظر السفر (281)، والمتعة، كلّ المتعة، في هذا السفر لأنّ جماليّات الطريق أهمّ من الوصول (297)، لذلك تقضي الحكمة بأن يُعطى الشعر مكانته الرفيعة (278)، فالضجيج ليس بديلاً عن الكلام (286)، والكلام أقلّ بقاء من الكتابة (282)، والشعر لا يولّد المتعة عند القارئ ما لم يستمتع به الشاعر أوّلاً (126). ولكن حذار مقدّمات الكتب، يقول حداد، فهي تقتل المتعة (130) وكذلك الثقافة الفائضة (242) أو الشرح (125) أو غياب الموسيقى التي لا يحصّلها الشاعر ما لم يستمع إلى إيقاع كلماته (118) وإيقاع الحياة (194).
ليس بالموسيقى فحسب يكون الشعر، فالصور المجازيّة جزء لا يتجزّأ منه، فنقرأ: الفنّ مثل الدين، كلاهما يأتي من مصدر واحد هو المخيّلة (124)، والشعر أفق لا عتبات (133)، وعلى الشاعر أن يكون ذا «مزاج» رائق كي يتولّد «المجاز» (257) المدهش (258) الذي يجعل القارئ يحبّ النصّ، المبتكر (259)، الجريء في خلق الصور (260)، القويّ القلب (261)، الذي يسلك الطريق غير المطروقة (262)، ويخالف الحقيقة ويناقضها (263)، الرائد (264)، الحرّ القادر على اجتياز المسافات (265)، الباحث أبداً عن موقفه النهائيّ من إخلاصه للمخيّلة أم للأخلاق (290)، وغير الحاسم أمره.
والشعر متطلّب، يريد من يحسن القراءة (8)، ويفرض على الشاعر أن يمتلك عدّة ثقافيّة لا تؤمّنها إلّا القراءة: «القراءة زيت قنديلك أيّها القابع في ثقة الموسوعة» (117)، ومع أن حدّاد يحذّر من العرض الثقافيّ المجانيّ في الشعر إلّا أنّه لا ينفي ضرورة أن يقرأ الشاعر الحياة (180) قبل تأليف الكتب، وأن يقرأ التاريخ قبل كتابته (229)، وأن يصغي إلى كلّ ما حوله لئلّا تفوته نأمة تصدر عن الحياة (254).
أمّا الحريّة فمن جوهر الإبداع الذي عليه أن يتفلّت من كلّ سلطة خارجيّة، أمّا «حين يذهب المفكّر إلى القصر فلكي يوفّر على الصيدليّات صرف المزيد من المسكّنات» (114). ولكنّ الفنّ هو ابن المخيّلة الحرّة والأدوات المصقولة (250)، وللشعر حريّة لا شروط لها (280)، بل إنّ للشعر حريّة الفضح (291) وهو لا يأتي إلّا بحسب مزاجه (292)، ومع ذلك على الشاعر أن يكتب ما يخطر على باله أوّلاً «فالصور الحرّة تنهال مثل مطر رحيم بعد العبارة الأولى (295).
غير أنّ حدّاد يحذّر المبدع من ادّعاء الحريّة: لك أن تزعم أنّك حرّ، ولكنّ قصيدتك وحدها تؤكّد ذلك أو تنفيه» (294). هذه الحريّة المرتبطة بالفنّ لا تعفي الفنّان، بحسب الكاتب، من الالتزام بشرطَي التواضع والصدق: القصيدة ليست على ذوقك وذوقك ليس قانوناً لها (22)، فعلى الشاعر أن يتوارى ويبقى غير مرئيّ وأن يتحصّن بيقظته في غفلة الناس (112)، كما عليه أن يقتنع بأنّ الكتابة لا تغيّر الواقع (212)، وليست وسيلة للوصول إلى القمّة (189)، لذلك فالفنّ ليس تشدّقاً (218)، بل كشفاً لذات الشاعر بصدق وشفافيّة قبل أن يكون الهدف منه كشف الحياة للقارئ.
البيوت والآخر والحبّ والموسيقى والصداقة والزمن والحرب والحريّة، موضوعات أخرى لافتة في كونها عالم قاسم حدّاد التأمّلي، ولعلّ أكثرها كُتب من وحي العمر ولمواجهته: «هل تسأل عن الباب؟ ليس ثمّة باب، لا تدخل، لا تخرج. هذه حياتك» (30). إلّا إن كنت شاعراً.


 

12- صباح زوين تتحرر من قيود الكتابة بقلم ماري القصيفي


صحيفة الحياة، الاربعاء, 17 أغسطس 2011
ما لا يصحّ أن توصف به مجموعة صباح زوين الشعريّة «كلّما أنتِ، وكلّما انحنيتِ على أحرفكِ» (دار نلسن – 2011) ليس قليلاً، فالكتاب ليس سهلاً، ولا يصلح كي نضعه قرب السرير لنقرأ فيه بعض الأسطر قبل أن نغرق في نوم عميق. وليس من الشعر الذي يداعب عاطفة ساذجة ويحرّك رغبة عابرة، ولا يمكن نقله إلى لغة أخرى من دون أن يفقد الكثير من خصوصيّة لغته وصوره. ولا يمكن كذلك وصفه أو اختصار أفكاره أو تقليده. أمّا ما هو عليه هذا الكتاب فأكثر من أن يُحصر في مقالة. ويمكن بداية القول أنّه من الكتب التي تجبر قارئها على الجلوس إلى المكتب، وحمل القلم، والقيام بعمليّة ذهنيّة حسابيّة إحصائيّة، ووضع جدول بالحقول المعجميّة لكلمات هي من صلب لغة الشاعرة بل هي هوسها ومحور تفكيرها، تدور حولها وتعصرها وتمتصّ نسغها ولا تشبع. وكان من الممكن أن تستمرّ دوّامة النصوص إلى ما لا نهاية، لولا احتراق الحالة الشعريّة من وهج اشتعالها لتقوم من رمادها في اليوم الثالث كتاباً آخر ونصوصاً خصبة تستقي من نبع واحد ولا ثمرة فيها تشبه الأخرى.
لا تكتب صباح زوين شعراً، فالشعر الساكن فيها منذ اكتشفت اسم هذا الغامض الذي يجعلها ترى ما لا يراه الآخرون، وتشعر بغير ما يشعرون، وتلتقط من عابرات النظرات والكلمات والمشاهد ما يهرب سواها من رؤيته والاعتراف بوجوده، هذا الشعر المولود معها وفيها ومنها ينفجر ولكن تحت رقابتها الصارمة، وحين تقرّر هي. كأنّي بها تُخضع الأمر كلّه لعقلها الذي يقرّر عن سابق تصوّر وتصميم موعد جنونه وعبثه باللغة والصور والأفكار، ونحن كقرّاء، نقع تحت سحر الوهم الذي أوحى إلينا بأنّ ما بين أيدينا إنّما هو هلوسات تستعاد بلا ضابط أو نظام. وهنا تنجح الشاعرة في وضعنا على حافة مصيدتها، فلا هي تطبق علينا الخناق بالتكرار والاستعادة واختراع تراكيب لغويّة مجتزأة وغريبة تكاد تبدو بلا معنى لمن لا يصبر إلى المنتهى (رغم كلّ هذا الغروب لم تنكفئي، لم، وظلّت ساقاك تركضان)، ولا هي في المقابل تفلتنا من أسر ألاعيبها الذكيّة التي تتحدّى عقولنا وهي تؤكّد لنا أنّ الأمر كلّه مرهون بفهم العلاقة بالكلمة، فتقول لـ «أنا»ها مرّة بعد مرّة: «أنتِ التي من الكلمة تنبثقين ومنها في قلب الغسق متّ وتموتين (ص59)، «وتركضين في البراري وراء الأحرف تركضين، الهاربةُ منك الأحرف أنتِ التي في هيام الكتابة والمكان» (ص61)، «تتبدّدين، لأنّك الكلمة ولأنّك من الكلمة تموتين» (ص66).
تحيا الشاعرة لتكتب، تحبّ لتكتب، تراقب الحياة والموت لتكتب، وكلّما كانت هي نفسها كلّما انحنت على أحرفها كما تنحني الهامات خشوعاً في محراب الأحرف والكلمات، أو كما تنحني الحوامل على أحشائهنّ الحبلى لحماية أجنّة تنتظر الشهقة الأولى. ولأنّها محكومة بالكتابة، يتحوّل كيانها مجموعة من الأجهزة اللاقطة ترصد وتراقب وتسجّل وتصور ثمّ ترسل ما حصلت عليه إلى مختبر العقل حيث التحليل والربط والاستنتاج. ولأنّها مغرمة بالكتابة، يصير الآخر، أيّاً يكن، مادة عملها ومختبر مشاعرها والهدف الذي قد يتحوّل وسيلة في أيّة لحظة، ومن أجل الكتابة وبسببها تسمح الشاعرة لنفسها بالتحرّر من شتّى القيود التي قد تعيق انفجار الشعر ثمّ انسيابه، وإن كان سواها يسمح باستعمال شتّى الأساليب في الحبّ والحرب، فهي في الشعر تبيح المحظورات وتفكّك أوصال العبارات وتخترع لغة جديدة من مفردات قديمة، فلا شيء مقدّس ولا شيء محرّم شرط أن تبقى اللغة رصينة، سليمة، صحيحة، لأنّ قواعدها من عمل العقل. ونصوص صباح زوين مهمّا جنّ بها الهوى وجرفها التذكّر تبقى ابنة الوعي.
حقل ألوان لغة هذه المجموعة، ولا شيء يمنع أن تكون حقل ألغام لمن لا يملك خبرة القارئ الحذق أو جَلَد العالِم الملتزم. حقل ألوان من الأبيض والأزرق والذهبيّ. فما من صفحة في الكتاب إلا وفيها شلال من هذه الألوان يتدفّق من السماء ويتسلّل من الأبواب والنوافذ موزّعاً الحياة على كلّ ما يصادفه وناثراً رذاذ الكلمات فوق أهداب المرأة النائمة فتستيقظ لتناجي «أناها» بلغة تأخذ مرّة من كِلس الحيطان بياضه الناصع المشعّ لا حياده الفجّ، كونها غارقة في دفء البيت لا مدفونة في القبور المكلّسة، ومرّة تستعير من بياض الكلس لوناً يجلّلها كضباب من «ظلال أجساد كانت ولم تعد» (ص47)، فيصير «الأبيض في كلس البيت كالموت من الكتابة» أو هو اللون الذي تنحني عليه في ألمها (ص50) لولا أنّها تعلم «أنّ التدوين كالمحو في فراغ البياض»، ولولا اللونان الآخران: الأزرق الآتي من السماء والمتعلّق بخشب النافذة، والذهبيّ المنحدر من الشمس والمتوِّج مشاهدَ عشق تُستشفّ من خلال الشعر ولا يُباح بها بوقاحة. ثمّة ألوان أخرى، الأحمر (في الأصيل والأيدي..)، والأخضر وإن لم تسمّه بل تشير إليه في أشجار التوت والتين والسنديان. ثمّ تكتشف الشاعرة عجزها عن التقاط الألوان كلّها في شبكة الكلمات، فتختصرها في «ألوان الأفق المزركشة» و «كلّ ألوان العنب المنسيّ» و «ألوان النهار»، و «الكثيفة الألوان»، و «أيّتها الفتاة المشعّة كألوان النهار»، و «المتأمّلة في ألوان الزهور»، و «طيور ملوّنة» و «بهجة الألوان»، وهناك «ألوان الحزن» عند المساء، وألوان الصور والأرصفة الملوّنة...
صورة الغلاف وإهداء المجموعة إلى الشاعر شوقي أبي شقرا (فضلاً عن هنري عويس وألكسندرا تاجر) عنصران غير مفروضين أو دخيلين على المجموعة، فالصورة الفوتوغرافيّة على الغلاف تمثّل بيت الشاعرة بقرميده الأحمر في الجبل عام 1979 وهي تقف على درجاته، ما يتكامل مع صورة البيت في النصوص التي تبدو كأنّها انطلقت من الغلاف، فأتت العبارة الأولى من النصّ/ النصوص: «لا تزالين هنا، على حافة المكان، تنظرين إلى مسكات الباب»، لتخاطب تلك المرأة الواقفة على الدرج الحجري، والملتفتة إلى الكاميرا قبل أن تدخل إلى البيت باحثة فيه عن «أناها» الأخرى والذكريات. أمّا الإهداء إلى شوقي أبي شقرا فيأتي منسجماً مع أجواء القرية، عالمه الأثير، ومتآلفاً مع الماضي الذائب حنيناً وإلفة ووفاء في خلايا الذاكرة، والمنبثق شعراً يوحّد بين الكلمة والجسد (جسد الإنسان والأرض)، ويتمسّك بـ «أوقات الأمكنة العابرة».
صباح زوين «اللاهثة وراء إثم الكتابة» كما تصف نفسها مغفورة لها خطيئتها لأنّها أحبت كثيراً، أحبت اللغة بتواضع الإنسان المعترف بعجزه عن سبر أغوارها وفهم أسرارها في زمن يُغرقنا فيه مدّعو الشعر بالثرثرة والاجترار واللغو.

11- منير أبو دبس والمسرح اللبناني الحديث


منير أبو دبس

مشهد من أعماله
صحيفة الحياة، الأربعاء، 27 يوليو 2011
ماري القصيفي
صدر عن دار نلسن كتاب «منير أبو دبس والحركة المسرحيّة في لبنان 1960- 1975» لخالدة سعيد، وفيه كثير ممّا سبق ان نشرته الناقدة في كتابيها «الحركة المسرحيّة في لبنان» و «الاستعارة الكبرى في شعريّة المسرح» عن هذا المخرج الرائد ومساهمته الكبرى في تلك المرحلة الذهبيّة من تاريخ المسرح اللبنانيّ.
وتعود أهــــميّة الكـــتاب إلى أنّه يجمع بين دفّــــتيه (175 صفحــــة من القطـــع الصغير) ما تفرّق من معلومات في المرجعين الكبيرين المذكورين، ويشكّل مادة لا غنى عنها للمهتمّين بالمسرح اللبنانيّ عموماً أو بتلك الحقبة الفنيّة الخصبة.
يثير الكتاب، اضافة الى ناحيته العلميّة التوثيقيّة، حنينًا إلى لبنان لم نعرفه نحن الذين ولدنا مع الحرب، غير أنّنا نجده حاضرًا بقوّة في كتب تعيد قراءة تلك المرحلة، عبر الرواية والنقد والتأريخ. ولكنّه الحنين المشوب بكثير من الأسى بسبب العنف الذي قصم تلك البدايات الواعدة فأجهضها وكانت تعد بالكثير، علمًا أنّ جزءًا كبيرًا من ثقافتنا وحركتنا الفنيّة المعاصرة لا يزال يعتاش من تلك السنوات السمان، وغالبًا ما يعود ليرشقها بحجارة التنكّر والتجاهل. أمّا ملامح ذلك اللبنان وفق سيرة منير أبو دبس المسرحيّة فيمكن التعرّف عليها من خلال بعض العلامات الفارقة، وهي:
أوّلاً: الجمع بين الثقافات وصهرها في ما يلائم الواقع اللبنانيّ، فلم يسع أبو دبس إلى لبننة الأعمال العالميّة كما يحصل الآن ولم «يحاول أن يوجّه الاقتباس بحيث يصير النصّ معاصرًا أو ينطق بقضايانا وموضوعاتنا... فجلب المؤلّف إلينا هو في نظره إلغاء لحقيقته، كما أنّه إلغاء لسفرنا نحوه عبر إبداعه» (ص75).
ثانياً: المستوى الراقي للممثّلين والجمهور الذي كان نخبويًّا في طبيعة الحال بسبب نوع النصوص المسرحيّة المختارة ولغتها المشغولة بالعربيّة الفصحى التي عمل عليها تأليفًا أو ترجمة أو اقتباسًا أنطوان معلوف وأنسي الحاج وأدونيس وخالدة سعيد وسواهم.
ثالثاً: اعتبار المسرح مكانًا ذا قدسيّة معيّنة تتطلّب طقوسًا خاصّة لا يجوز الإخلال بها أو إهمالها، وذلك يعني الالتزام والاحترام والاهتمام بأدقّ التفاصيل، وهنا تلفتنا العناية التي كانت تعطى للكرّاس الذي يوزّع على الجمهور، وهو أمر يستحقّ دراسة تعالج تاريخ المسرح وتطوّره أو انحسار دوره من خلال الكرّاسات نوعًا وحجمًا ومضمونًا وقيمة توثيقيّة.
رابعاً: الالتفاف حول مسرح منير أبو دبس بدءًا من لجنة مهرجانات بعلبّك، فحين سألت سلوى السعيد رئيسة لجنة الفولكلور عهد ذاك الشابّ العائد من فرنسا: ماذا تطلب أو ماذا تشترط لكي تبقى وتعمل في لبنان، كانت مرحلة جديدة من تاريخ المسرح اللبنانيّ تبدأ، إذ أصبح أبو دبس «أوّل مسرحيّ لبنانيّ، بل أوّل مسرحيّ عربيّ، يربط بين العمل في المسرح وبين تأسيس مدرسة» (ص 44). ولم تبخل الصحافة على «معهد التمثيل الحديث» بالتشجيع، وكذلك ساندته نخبة من المثقّفين كميشال أسمر مؤسّس الندوة اللبنانيّة والشاعر جورج شحادة، وسياسيّون ككمال جنبلاط وأمين الحافظ.
خامساً: الاهتمام باللغة العربيّة، فأبو دبس كان مسحورًا باللغة العربيّة الفصحى وموسيقاها وحضورها الاحتفاليّ، فضلاً عن أنّه قادم من قلب الحركة المسرحيّة الأوروبيّة (ص7). ومع أنّ النخبة المثقّفة لم تكن تثق بإمكان قيام مثل هذا المسرح باللغة العربيّة (ص9)، إلّا أنّ أبو دبس ربح الرهان واستطاع أن يضع حجر الأساس لمسرح استفاد من التجارب الغربيّة الحديثة في الأعمال الكلاسيكيّة وأوصلها إلى النخبة المثقّفة اللبنانيّة بلغة عربيّة صافية.
في تمّوز (يوليو) 1970 تقرّر إقفال المعهد بعدما انفصل أبو دبس عن لجنة مهرجانات بعلبّك الدوليّة، وكانت خلافات في الرأي وأسلوب إدارة الفرقة أبعدت مسرحيّين واكبوا البدايات، وعلى رغم أنّ منير أبو دبس قدّم بعد ذلك بين لبنان وفرنسا أعمالاً مســرحيّة متبـــــاعدة في الزمــــن ونــــشر كتبًا باللغة الفرنسيّة، إلّا أنّ الحرب اللبنانيّة هي التي ستقفل عمــــليّاً الستارة على عهد مسرحيّ راق لن يعود في طبيعة الحال غير أنّه يستحقّ التأمّل فيه والتعلّم منه، ولذلك كان ضروريًّا أن تولي دار النشر إخراج هذا الكتاب وطباعته وصوره ومراجعته اللغويّة عناية كبيرة تليق بالمضمون.


10- ياسين رفاعية مستعيداً بيروت الستينات


صحيفة الحياة - الأربعاء، 13 يوليو 2011

انها الرواية الحادية عشرة للكاتب ياسين رفاعية، عدا ما كتبه في القصّة القصيرة والشعر وقصص الأطفال ونصوص في العشق، غير أنّ أجواء «من يتذكّر تاي» (دار الخيال) وإن لبست ثوب الرواية بقيت أقرب إلى مجموعة نصوص «رفاق سبقوا»، الصادرة عام 1989 عن دار الريّس، فكلا الكتابين يتّكئان على ذاكرة تقاوم عبور الرفاق والزملاء بالكتابة عنهم، أو إليهم، إذ إنّ الشعراء والروائيّين والسياسيّين الذين يستعيدهم ياسين رفاعية في كتاباته يزدادون حضوراً بقدر ما تتراكم السنون ورداً فوق أضرحتهم. فأمين نخلة وفؤاد شهاب ومعين بسيسو وصلاح عبدالصبور وخليل حاوي رفاق سبقوا فاستحقّوا وقفة تقدير في كتاب سابقٍ له طابع الذكريات، وكان لا بدّ من استذكار آخرين كأكرم الحوراني وسامي الجندي وغسّان كنفاني وغادة السمّان وكمال ناصر وأبو يوسف النجّار وكمال عدوان وعصام محفوظ وحسين حيدر ومرّة ثانية أمين نخلة ومعين بسيسو، فكانت هذه الرواية التي تدور أحداثها في بار بيروتيّ زمن هزيمة حزيران (يونيو) 1967، تديره ساقية مصريّة أطلقت على نفسها اسم «تاي».
هي ابنة باشا مصريّ أغضب المافيا الصقليّة التي كان يتاجر معها بالمخدّرات، فانتقم منه زعيمها باغتصاب وحيدته أمام عينيه. وحين أراد الباشا الانتقام لشرف ابنته قُتل، ما دفع الفتاة التي فقدت والدتها بعد هذه المأساة، للهرب إلى لبنان والعمل في أحد البارات تحت حماية رجل أمن كان صديق دراستها في القاهرة. وفي هذا البار، التقت مجموعة الشعراء والصحافيّين والسياسيّين، وأمام «تاي» المثقّفة والمتخصّصة في الفلسفة، دارت الأحاديث عن فلسطين والهزيمة وتخاذل الحكّام العرب، ونوقشت قضايا فكريّة عميقة، وطرحت موضوعات عن الأدب والحبّ والحزن، ورويت حكايات عشق أبطالُها هؤلاء المتردّدون على البار والمتردّدون في حزم أمر عشقهم الذي لا أمل له: غسّان كنفاني يعاني من حبّه لغادة السمّان، أمين نخله الستينيّ يعشق فتاة شاميّة في السابعة عشرة من عمرها، عصام محفوظ خانته حبيبته مع أعزّ أصدقائه، الشعراء الفلسطينيّون يذوبون في عشق فلسطين. وفي خضّم هذه الأجواء الفكريّة الموزّعة بين اليأس من الواقع العامّ وبعض التفاؤل في خلاص يحمله الحبّ، كانت قصّتا عشق تحاولان أن تشقّا طريقهما إلى نهاية سعيدة: تاي ترضى بالزواج من جارها الشابّ السعوديّ الذي يصغرها بكثير من الأعوام، والراوي الذي يحبّ «شيرين» وهي فتاة درزيّة، ترفض الارتباط به لأنّ طائفتها الصغيرة تخاف على نفسها من الانقراض إن تزوّج أتباعها من غير مذهبهم، فتقول: «نحن طائفة صغيرة، ولا نريد أن تتشتّت هذه الطائفة في زيجات من خارجها» (ص11).
يؤكّد الكاتب في ختام الرواية «الواقعيّة» وفق وصفه أنّ أحداثها جرت بين عامي 1967 و1973 وأنّ الأسماء والأمكنة كلّها حقيقيّة. غير أنّ «شيرين» بدت غريبة عن كلّ الذين يحيطون بها، كأنّ مخيّلة الكاتب أنجبتها لتنقذ الرواية من رتابة السرد التأريخيّ وتكرار أفكار تستعاد في البار كلّ ليلة، ولتضفي جانباً عاطفيّاً متفائلاً وخصوصاً حين تركت زوجها وعادت إلى حبيبها، فينتصر الحبّ الحقيقيّ على زواج المصلحة؛ أو كأنّ حقيقة وجودها نابعة من مكان وزمان مغايرين، فأتى بها الكاتب (الراوي) إلى مكان الرواية وزمنها ليعطيها صفات وتصرّفات تميّزت بها امرأة علّمت من تحبّه على صغر سنّها بالنسبة إليه كيف يأكل بالشوكة والسكّين. أمّا سرد الأحداث فيدلّ على أن الكتابة تمّت على مراحل، أو على مرحلتين على الأقلّ. ولعلّ النصّ القديم الذي كتب في مرحلة قريبة من الأحداث الحقيقية، أعيد النظر فيه في ضوء معطيات حديثة. فالعبارة الأولى تقول لنا إنّ الرواية تكتب في الوقت الحاضر «الحمرا، غير حمرا هذه الأيّام. يوم كانت شعلة بيروت ومركزها الرئيسي»، ولكن حين نقرأ في الصفحة التالية وصف الهزيمة نشعر كأنّ العبارة من بدايات عهد الكاتب بالكتابة أو هي مقصودة لتعبّر عن لغة تلك المرحلة «فما حصل يعجز عن حمله عالم عربيّ بكامله. كأنّه جمل ذو سنامين، برك... على ركبتيه، وأصبح عاجزاً عن النهوض». ثمّ يطالعنا في الصفحة 34 تعليق الشابّ السعوديّ «طارق» على موضوع العمل في الإعلانات، فيقول: «فالعالم الآن تحت سيطرة الإعلان. خصوصاً إذا كان الإعلان ذكيّاً في عرض المعلن عنه. مثلاً يعرضون أمامك امرأة جميلة جدّاً ورجلاً وسيماً وأنيقاً وكلاهما بصحّة جيّدة وهما يدخّنان نوعاً من السجائر ثمّ هذه العبارة الغليظة «التدخين يضرّ بصحّتك وهو الأساس في أمراض السرطان». ومعلوم أنّ تحذير وزارات الصحّة من مضار التدخين لم يخطر على بال أحد في نهاية الستّينات وبداية السبعينات، وهو زمن الرواية الذي لم يخطر لأحد فيه أن يصارع من أجل الدولار، إذ لم يكن ثمــّة خـــوف على العملة المحليّة، فتأتي هذه العبارة «في عالم المال، عالم الصراع على الدولار» (ص160) في غير سياق النصّ.
والرواية التي كتبت بمشاعر جيّاشة وقعت مرّات في فخّ الانجراف العاطفيّ، فلم تنتبه إلى بعض المغالطات في حبكة الأحداث وجنحت إلى الغلوّ في الانفعال ووقعت في الكثير من الأخطاء اللغويّة والإملائيّة. فالفصل الخامس مثلاً يبدأ بما يأتي: «في زيارتي الثانية لشقّة تاي التقيت عندها بضابط أمن لبنانيّ قدّمته لي: صديقي مفيد، هو الذي يهتمّ بي، ويجلب لي إقامتي السنويّة»، ثمّ دعته تاي إلى الجلوس فجلس قريباً منهما، وبعد حديث ودّي بين الراوي والضابط، ووصف دقيق لشخصيّة «مفيد» يختفي الرجل من الصورة بلا مبرّر أو تفسير، إذ يستمرّ الحوار بين تاي والراوي حول صحّتها و «طارق» الذي طلب منها الزواج، ويُنسى أمر الضابط تماماً، فلا نعرف كيف خرج أو إن كان موجوداً خلال الحديث ولم يدل برأيه فيه. وفي الصفحة 68، وخلال اعتداء الوزير على «ريتا» الصحافيّة التي أحبّها الشاعر معين بسيسو، نفاجأ بأنّ الوزير ترك مسدسه تحت وسادته، وأنّ الفتاة حين استيقظت من أثر المخدّر خطر في بالها أن تسرقه وتنتقم لشرفها، ثمّ انتبهت إلى أنّها لا تعرف كيف تستعمله. وفي الصفحة 102، لا يقنعنا الكاتب/ الراوي وهو صحافيّ وروائيّ وصديق الشعراء بأنّه «ضعيف في الشعر ولا يحفظ منه سوى أبيات قليلة، ينساها ثمّ يتذكّرها، وحين أسمعه «طارق» بيتاً متداولاً لعنترة بن شدّاد: «ولقد ذكرتك والرماح نواهل»... صاح به: الله... الله... ما أجمل هذا الشعر. وفي الصفحة 153، تشبيه يسيء إلى صورة الحبّ، ففي وصف ما فعله هجر شيرين بقلب الراوي نقرأ: ما فعل الجمر بهذا القلب الذي يتلوّى كلحم الخراف المشكوك بأسياخه فوق الجمر الملتهب تصعد رائحته مشتهاة.
أمّا ما ورد سهواً من أخطاء: سوى شيئاً واحداً (ص19)، يأتي يوماً تصطاد فيه السمك (ص 38)، أن يسهرا معاً ويسبحان ويتناولان الطعام (ص 43)، أحببتُ أخيها (ص 48)، وهو بعد طالباً جامعيّاً (ص 53)، والذين كان منهم رجالاً استشهدوا... من كلّ بيت من هذه البيوت سقط شهيداً (ص 62)، كان يردّنا عن بعضنا خجلاً أصيلاً (ص 105)، فبانَ صفّين من اللؤلؤ (ص106)، كأنّها برقاً اشتعل (ص 123) أنتما الآن شهوداً عليّ (ص 133)، وكم خدعا رجال وفنّانين وسياسيّين (ص 140)، فلا داعي طبعاً للتأكيد بأنّها تعبّر عن رغبة في استباق الوقت وكأنّ الكاتب، وذاكرته معبّأة بأصدقاء سبقوه إلى حيث لا ألم ولا خيبة، وقلبه ملتاع من غياب أحبّة تركوه في غفلة من الزمن، يسرع فيتسرّع خشية أن يغريه نداء العبور فيلبّي متناسياً أنّ لديه الكثير بعد ليكتبه ويقوله. فياسين رفاعية حين يتذكّر يشبه من أتيح له الانتقال في آلة الزمن إلى الماضي، فشغلته لهفته عن أيّ أمر آخر. وعذره أنّ في صدره قلباً لم يعرف غير الصداقة والحبّ وكلاهما ترك له ألم الفراق وأمل اللقاء.

9- هل مُنحت الرواية النسائيّة العربيّة ...حقّها؟


صحيفة الحياة، الاربعاء، 06 يوليو 2011
دور المرأة العربيّة في الرواية موضوع شائك ومجاله واسع لا تفيه حقّه الصفحات المئة والأربع والأربعون من القطع الصغير، التي ضمها كتاب «المساهمة الروائيّة للكاتبة العربيّة» للروائي والناقد السوري نبيل سليمان. وبدا الكتاب أقرب إلى دليل حافل بأسماء الكاتبات العربيّات، يرشد إلى عناوين أهمّ الروايات التي ساهمن من خلالها في هذا النوع الأدبيّ، مبيّنًا في إشارات خاطفة إلى ما هو قيّم يستحقّ الدارسة وما هو عابر أو يتيم أو مقلِّد، فيغري القارئ بالبحث عن رواية يطالعها بشغف أو يطمئنه إلى أنّه ما دام ليس باحثًا أو دارسًا متخصّصًا فليس في حاجة إلى قراءة بعضها. ليس في هذا الكلام إساءة إلى مجموعة نصوص الكاتب والباحث السوريّ «نبيل سليمان» الصادرة من ضمن منشورات مجلّة «الرافد» الإماراتيّة، بمقدار ما فيه إصرار على عدم تحميل الكتاب ما لم يدّعه. فهو قطعًا ليس دراسة شاملة وافية اتّبع فيها صاحبها منهجًا علميًّا صارمًا يقيس فيه إبداعات المرأة العربيّة في هذا النوع الأدبيّ، وفق عصور وأبواب وموضوعات. إنّما هو اعتراف كامل، وبملء رغبة الكاتب، بأنّ مساهمة المرأة العربيّة أمر شغله طويلًا، فأعطاه ما استطاع من الاهتمام في كتبه وبخاصّة في العقد الأخير، وكذلك في مقالاته طوال سنوات في جريدة «الرأي» الأردنيّة، وتحت عنوان أثير لديه هو: «بنات شهرزاد» (ص6). وما هذا الكتاب إلّا القبلة التي يطبعها على جبين شهرزاد الأمّ، وانحناءة تقدير وحبّ ووفاء أمامها (ص7).
البداية من لبنان مع رائدات الرواية في العقدين الأوّلين من القرن العشرين: أليس بطرس البستاني، لبيبة هاشم، زينب فوّاز، عفيفة كرم، لبيبة صوايا، فريدة يوسف عطيّة. ثمّ بدءًا من العقد الخامس، يتوزّع زخم كتابة الكاتبة للرواية، بحسب تعبير الباحث، من لبنان إلى سورية ومصر. «وعلى أيّة حال، يضيف، جاء ظهور الروائيّة العربيّة إعلانًا عن حدث ثقافيّ وظاهرة أدبيّة، وإن بلجلجة ستطول حتّى سبعينات القرن العشرين» (ص11). هذه «اللجلجة» تتبدّى في أكثر من مظهر لا يتردّد الكاتب في توجيه الأنظار إليها وإعطاء الأمثلة عليها، وإن بشكل سريع لكن من دون أن تفقده السرعة بُعد الرؤية وحسن الرأي. ومن ملامح الاضطراب الذي رافق الرواية «النسائيّة» منذ البدايات حتّى الآن: الأسماء المستعارة التي فرضتها ظروف كانت ولا تزال تمنع المرأة من ممارسة حريّتها في الكتابة خشية أن ينظر إلى روايتها من باب السيرة الذاتيّة؛ انتماء الكاتبات إلى أسر بورجوازيّة مدينيّة؛ الجمع بين الرواية وأنواع تعبيريّة أخرى كالصحافة والشعر والعمل الأكاديميّ والمسرح والقصّة القصيرة؛ تمحور المواضيع حول حريّة الجسد ورغباته؛ دور الدين وانعكاس أوامره ونواهيه على المجتمع؛ التاريخ وما تركه من آثار في تكوين الشخصيّة وصولًا إلى الصراع العربيّ الإسرائيليّ؛ العلاقة مع الهجرة والاغتراب؛ دخول عنصر الثقافة على الرواية كعامل مؤثّر في رسم الشخصيّات النسائيّة. وبقدر ما تبدو هذه العناصر دليلًا على بحث الروائيّة العربيّة عن لغة ومضمون، تشير في الوقت نفسه إلى مواكبتها التغيرات التي تطرأ على الحياة والمجتمع والوطن والأمّة. لكن تبقى المشكلة في اللواتي يبدأن الآن من حيث انتهت أخريات، فتبدو أعمالهنّ ترجيعًا لصدى أزمنة عبرت وغبرت.
يخصّص الكتاب فصلًا لمساهمة المرأة الإماراتيّة في الرواية، من دون أن ينسى الإشارة إلى كونها مساهمة طريّة العود لا تزال تنتظر الوقت كي تثبت نفسها وتؤكّد حضورها، وبعد عرض لبعض الأسماء والعناوين، يلفت الباحث إلى أنّ في هذه الرواية (الإماراتيّة) «ما يمثّل تاريخ الرواية العربيّة ما بين البداية وما هي عليه اليوم: فأغلب الروايات ينادي بما كتبت أليس بطرس البستاني أو لبيبة هاشم، في فجر الرواية العربيّة حتّى القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كما في روايات باسمة يونس وآمنة المنصوري وأسماء الزرعوني. بل إنّ لهذه الروايات من الأخطاء الإملائيّة والنحويّة ما يؤخّرها عن بدايات الجدّات. واللافت جدًّا أنّ هذه الأخطاء تطغى في أغلب الروايات الأخرى» (ص87).
أمّا القسم الأخير من الكتاب فأضاء فيه نبيل سليمان على نصوص روائيّات من السعوديّة (أمل الفاران) وفلسطين (إيمان البصير) والجزائر (سارة حيدر) ومصر (سلوى بكر) وسورية (سمر يزبك) والأردن (سميحة خريس) والعراق (صباح خليل متعب) والكويت (ليلى العثمان) واليمن (نادية الكوكباني) وتونس (نجاح محمّد يوسف). وما غياب غيرهنّ من البلدان نفسها، أو سواها من الدول العربيّة، سوى البرهان على الحاجة إلى مزيد من الدراسات الموسّعة تعطي هذا الموضوع ما يستحقّه من قراءة وتحليل ونقد.


8 - أمين معلوف والـ"أنا" التائهة


أمين معلوف اللبنانيّ

أمين معلوف الفرنسيّ

صحيفة الحياة، الاربعاء، 29 يونيو 2011
الاحتفال بانتخاب أمين معلوف عضواً في الأكاديمية الفرنسية يعيدنا إلى التفكير في موضوع الهوية التي سبق لمعلوف نفسه أن «حاول» معالجتها في كتابه «هويات قاتلة». وحين نقول «حاول» لا نقصد التلميح إلى فشله في مقاربة هذه المسألة بل تأكيد عبثية التفتيش عن أجوبة حاسمة ونهائية لأسئلة عن الانتماء ستبقى مطروحة ما دام الإنسان يبحث عن فردوسه المفقود وأناه التائهة. لذلك يبدو من المتوقع أن نسأل عن أي أمين معلوف نتحدث: عن الفرنسي ذي الأصل اللبناني أم عن اللبناني الذي يحمل الجنسية الفرنسية؟ ويستعاد السؤال كل مرة يتفوق فيها لبناني (وعربي) وينجح في تبوؤ مركز رفيع، وخصوصاً متى ترافق ذلك كله مع مجموعة من الشكوك والاتهامات والتوقعات واحتمال الخيبات، تجعل السؤال قضية تستحق التأمل في شؤونها وشجونها.

أول ما يتبادر إلى ذهننا حين نسمع خبراً من هذا النوع هو التشكيك: لماذا هو؟ لماذا الآن؟ ماذا في إمكانه أن يحقق لنا؟ هل يستحق؟ ما المقابل؟ ينبع كل ذلك بداية من تشكيكنا في إمكاناتنا بل من اقتناعنا بأننا غير مؤهلين إلا للخيبات والهزائم والاضطهاد والسجون والاغتيال، ثم من إيماننا بأننا معرضون على مدار الساعة لمؤامرات خارجية تريد القضاء علينا وإن تزيت بزي الدعم والمساندة والتقدير. لذلك فالجائزة العالمية التي تمنح لأحد مواطنينا هي «مكافأة» له على خدمة قدمها لغير بلاده وعلى حساب بلاده، أو «إغراء» له ليقوم بعمل يصب في مصلحة من كرمه، ولن يســتطيع التهرب من تنفيذه وإلا تعرض لما لا يتمناه. ومن هنا تولدت عندنا القناعة بأن الذين ذهبوا من «عندنا» للدراسة «عندهم» وتفوقوا في مجالاتهم لا يجرؤون على العودة لخدمة بلادهم وإلا قُتلوا في أسرتهم أو في حوادث السيارات. أما التفكير في أن عدم عودتهم سببه الفساد والطغيان وتسلط الجهلاء فلا يمكن أن نضعه في الحسبان.
السؤال الثاني الذي يفرض نفسه هو: كيف سيتصرف هذا اللبناني (أو أي عربي) مع زملائه ومواطنيه الغربيين من اليهود المناصرين لإسرائيل؟ فقد يستطيع أن يختلف معهم في الرأي بحسب ما تقره له دساتير البلاد التي صار من أبنائها، أما أن يعاديهم فأمر يتنافى مع مواطنيته الجديدة. فهل يكون عند ذلك عدو الأمة العربية ويتم التبرؤ منه؟ في الأمس القريب كانت المغنية «شاكيرا» فتاة لطيفة جميلة افتخر لبنان بها، فاستقبلها ورقص على وقع أغانيها واهتز فرحاً مع اهتزاز خصرها، وحين زارت إسرائيل وغنت وحلت ضيفة مكرمة على مائدة رئيس الدولة انهال عليها صحافيو الوطن بحجارة الرجم.
السؤال الثالث الاستطرادي: ماذا فعل لبنان (ويصح الكلام على أكثر البلدان العربية) لهؤلاء المتفوقين المبدعين عدا عن التغني بهم حين ينجحون ويبرعون؟ فهل لبنان الذي يفتخر اليوم بجبران خليل جبران هو لبنان نفسه الذي فرض على «كاملة» (والدته) أن تصطحب أولادها وترحل بهم إلى الولايات المتحدة؟ أم هو لبنان آخر حلم به وغنى له واستوحى منه لأنه لا يشبه لبنان الآخرين؟ وكيف صنع لبنان إبداع حسن كامل الصباح وكيف استفاد منه؟ وهل صار يوسف شاهين وعمر الشريف عالميين لولا هجرة عائلتيهما إلى مصر؟ وهل لبنانية كارلوس سليم وكارلوس غصن هي التي جعلت الأول أغنى رجل في العالم والثاني رجل أعمال ناجحاً؟ وهل ساهم لبنان في إيصال معلوف إلى الأكاديمية الفرنسية أم في دفعه إلى الهرب إلى فرنسا بسبب الحرب؟ وقلْ مثل ذلك عن سائر المهاجرين الذين حملوا جيناتهم ولقحوها بالعنصر الغربي: ثقافة وأسلوب حياة وزواجا وإنجاباً لذرية من الإبداع والأولاد، سينتصر فيها لا محالة العنصر الأقوى والأكثر حضارة بحكم التطور والارتقاء وبقاء الأصلح. والدليل أن أولاد أمين معلوف غرباء عن بلاد الآباء ولغة الأجداد وحكايات الجدات وإن كانت أسماؤهم عربية: رشدي وطارق وزياد، في حين يبدو اهتمام زوجته «أندريه» بالمطبخ اللبناني والتسويق له كتابةً ودعايةً محاولة يائسة لـ «لبننة» المحيط الذي «فرنج» العائلة.
السؤال الرابع يفرض نفسه حين يتعلق الأمر بشخصية عربية وبالتحديد لبنانية: ما ديانته؟ واستطراداً ما مذهبه؟ وأخيراً ما هي سياسته؟ فهل أمين معلوف مع 8 آذار أو 14 آذار؟ إن تحديد هذا الجانب من هويته يساعد المتسائلين على معرفة أسباب نجاحه وأهداف اختياره والرسالة التي يرغب الغرب في توجيهها إلى الشرق من خلال كل ذلك، فضلاً عن خلفيات التعتيم على أخباره في بعض الصحف والإضاءة عليها في صحف أخرى.
لا شيء يمنع أن يكون أمين معلوف غير معني الآن بكل هذه التساؤلات، بعدما بات على يقين من أن هويته هي هذا المزيج الحضاري الديني اللغوي، علماً بأن الآخرين سيطالبونه في مرحلة ما بأن يعبر الجسر بين الحضارتين ويحسم خياره. فهو وإن كان نال أكثر الأصوات وصار عضواً في الأكاديمية سيبقى عرضة لتساؤلات المحللين والدارسين والنقاد الفرنسيين عما إذا كان يستحق هذا المقعد، بقدر ما هو الآن موضوع تفكير عند الأجيال اللبنانية الشابة المتسائلة: لو بقي معلوف في بلاده هل كان حقق شيئاً يفتخر به؟
نحن مطالبون بالتعامل مع الهوية التي نختارها عن سابق تصور وتصميم، بغض النظر عما إذا كانت لأحلام نومنا لغةُ طفولتنا. ولكن لو لم يكن الروائي اللبناني أمين معلوف راغباً في أن يكون فرنسياً لما اختار فرنسا لغة إبداع ووطناً لحــياة جديدة بعيداً عن الوطن الأم، ولو لم يكن فرنسياً لما ترشح للأكاديمية ولما انتخبه أعضاؤها. أما هويته اللبنانية فهي على الأرجح مسألة تعني اللبنانيين من دون سواهم، الفرنكوفونيين منهم على الأقل.

7- الرواية العربية المعاصرة عندما تتذكر

جريدة الحياة، الإثنين, 20 يونيو 2011

كان للساعات التي أمضيتها في منزل الممثلة رضا خوري وهي مصابة بمرض الألزهايمر تأثير الصدمة في علاقتي مع النسيان، وبالتالي مع أمراض الذاكرة. حدث ذلك في إطار تحقيق عن مسيرتها الفنية التي غابت عن بالها تماماً تاركة المكان لفراغ غامض يحاول العلم أن يجد أسبابه وعلاجه، وكان على والدتها وشقيقتها أن تجيبا على الأسئلة وترويا السيرة المكسورة في منتصف عمر العطاء. أما السؤال الذي كان يحفر في البال مذ رأيت «رضا» غائبة في عالمها وعجزت المرأتان: الأم والأخت عن إيجاد الجواب عليه فكان: ماذا لو كانت «رضا» تتذكر ولا تستطيع أن تعلمنا بذلك؟ يملك العلم في طبيعة الحال الجواب القاطع على ذلك غير أن الذكريات الهائمة خارج الذاكرة المريضة تثير تساؤلات عبثية تفضح خوفنا من النسيان أكثر من رغبتنا في المعرفة.
دراسة الباحث السوري الدكتور جمال شحيد عن «الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) أعادت إلى «ذاكرتي» تفاصيل ذلك اللقاء وما جره من اهتمام بموضوع النسيان، خصوصاً مع ارتفاع عدد المصابين بأمراض الذاكرة في العالم، ما جعل السينما العالمية تخصص له الكثير من الأفلام التي تصور معاناة المرضى وأهلهم على حد سواء. تستفيد الدراسة من معطيات العلم وآخر ما توصل إليه الطب لفهم الأدب لتشكل نوعاً أدبياً تفتقر إليه المكتبة العربية مهما كثُر، أعني به قراءة الإبداع الفني والأدبي قراءة علمية بحتة، تضع النص في مختبر العلم وتحلله انطلاقاً من الثورة العلمية التي تفاجئنا كل يوم بجديد. ففي الأعوام القليلة الماضية توصلت الأبحاث المتعلقة بالدماغ والجهاز العصبي إلى نتائج مذهلة تدفعنا لإعادة النظر في كثير من المسلمات والموروثات، ولا يخفى كم يحمل النص الأدبي منها - فضلاً عن تحوله هو بالذات موروثاً «مقدساً» لا يرضى كثيرون بوضعه في مختبر التحليل - ما يجعله مادة خصبة لكثير من العلوم كعلم الاجتماع والنفس والفلسفة وغيرها.
منذ «قفا نبك» والذاكرة العربية تفرغ مخزونها دمعاً وشعراً ثم تعباً من الهزائم (ارتحالاً بدوياً أو فساداً حكومياً) ما يجعلها أسيرة حزن سرمدي لا يتوقف عن مدها بالدمع المنساب كلمات. وإن كانت الدراسة المشار إليها محصورة في الرواية العربية المعاصرة إلا أنها تنطلق من بدايات العلاقة القائمة بين التذكر والأدب، أكان ذلك في الشعر أو الحكايات الشعبية أو استظهار القصائد في المدرسة. فانطلاقاً من مقدمة الكتاب للناقد فيصل دراج التي تشكل فصلاً تمهيدياً لا بد منه، يجد القارئ نفسه في مواجهة تساؤلاته الخاصة حول موضوع النسيان: كيف تكون الحياة لو أننا لا ننسى؟ هل نحن صنيعة الذكريات؟ كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف نحميها من نسيان قد يجتاحها بلا رحمة؟ هذه وغيرها من الهواجس تجد أجوبتها في بابَي الدراسة: الأول عن الجانب النظري في دراسة الذاكرة، وفيه لمحة تاريخية تعرض لآراء الفلاسفة في المسألة، والثاني عن توظيف الروائيين العرب الذاكرة، فضلاً عن ملحق لصور طبية عن الدماغ تبين عمله على صعيد التذكر.
أما تحديد المعايير التي اعتمدها الباحث في اختيار الروائيين الذين تناولتهم الدراسة فأمر يستحق التوقف عنده، على رغم التبرير الوارد في الصفحة 22 من الفصل الذي يفتتح به الدراسة إذ يقول: «قد يقول قائل: لقد أهملت هذا الكتاب أو هذا البلد أو هذه المنطقة من العالم العربي، هذا صحيح، لا استهانة ولا انتقاصاً، بل لطبيعة كل اختيار. والحقيقة أن النماذج المختارة كانت بخاصة لروائيين ينتمون إلى بلاد الشام ووادي النيل وشبه الجزيرة العربية، لا لأنني أعتبرها المركز بينما البلدان الأخرى طرفية، بل لاقتناعي بأن الفن الروائي العربي نشأ وترعرع ونضج في هذا الحيز من العالم العربي منذ القرن التاسع عشر وحتى الربع الثالث من القرن العشرين». فهل وضع الناقد شحيد ثبتاً بالموضوعات المتعلقة بالذاكرة (ذاكرة المدينة، ثقوب الذاكرة...) واختار روايات تلائمها أم هي الروايات التي قرأها فرضت نفسها واتجاهات البحث فيها؟ ولكن لا يسع القارئ التغاضي عن حصة الأسد التي أعطيت لخمسة روائيين سوريين (خيري الذهبي، وليد إخلاصي، روزا ياسين حسين، لينا هويان الحسن، سمر يزبك)، في مقابل ثلاثة مصريين (نجيب محفوظ، جمال الغيطاني، صنع الله إبراهيم)، وفلسطينيين (غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا) بينما كانت حصة كل من السعودية (عبد الرحمن منيف) والسودان (الطيب صالح) ولبنان (إلياس خوري) روائياً واحداً.
وغير خافٍ أن الروائيين موضوع الدراسة ينتمون الى أجيال مختلفة متباعدة ومدارس متباينة، فضلاً عن أن الباحث حصر مساهمة المرأة في الروائيات السوريات الشابات قناعة منه «أن إسهامهن في الرواية هو إثراء لهذا النوع الأدبي» (ص241) (ألم تعد غادة السمان معاصرة؟). كما لم أجد ما يمنع نقل الفصل الرابع من القسم الأول إلى القسم الثاني وهو عن دور الذاكرة في السيرة الذاتية في كتابَي جبرا إبراهيم جبرا: «البئر الأولى» و «شارع الأميرات»، علماً أن القسم الثاني من الكتاب هو التطبيق العملي لا النظري عن دور الذاكرة في الرواية العربية، وكلنا يعلم تأثير السرد الروائي في السيرة، وتسرب ملامح السيرة الذاتية إلى الرواية. ولو نالت دراسة الروايات الحصة الكبرى لكان ذلك أكثر متعة من أن تنال النظريات العلمية والنماذج الأوروبية ما يقارب نصف الدراسة (148 صفحة في مقابل 92 صفحة للتطبيق).
تبقى أهمية الدراسة في تأكيدها انصراف الرواية العربية إلى تذكر الماضي (الأحداث، الأمكنة، الروائح، الأصوات، المشاهد) لا إلى تخيل عوالم لا علاقة لها بالواقع، وهذا على الأرجح ما يدفعنا للتعامل مع الروايات على أنها سير ذاتية لا عمل فيها للخلق الفني المرتبط في ذهننا الجماعي بالحكاية.

6- رشيد الضعيف يكشف أوهام اليقظة "السوريّة" في القرن التاسع عشر في رواية "تبليط البحر"

صحيفة الحياة/ الاربعاء, 15 يونيو 2011
قد يرى أكثر المهاجرين اللبنانيّين أنفسهم في رواية رشيد الضعيف «تبليط البحر» الصادرة حديثاً عن دار رياض الريّس، مع العلم أنّ مرحلتها الزمنيّة هي بداية موسم الهجرة إلى الغرب. سيتذكّرون أنفسهم حين حلموا بالرحيل بحثاً عن الحريّة والعلم، يعبّون ملء صدورهم من نفحات الأولى ويزوّدون عقولهم بإنتاجات الثاني، ليعودوا إلى الشرق، ويعملوا من أجل نهضته. لكنّهم سيخشون أن يروا مصائرهم في مصير «فارس هاشم»، بطل الرواية، الذي مات إلى جانب زوجته الصينيّة الحامل، بعدما تقزّمت أحلامه من «نهضة الأمّة» إلى صحن كبّة نيّة مع زيت الزيتون والبصل والنعناع، وفق ما أفضى لزوجته التي وعدته بأن تكون «أفضل طبّاخة في سورية»، سورية التي كانت تعني بلاد الشام بما فيها لبنان وفلسطين. كان المهاجرون الأوائل يعدون أنفسهم بـ «تبليط البحر» بمعنى أنّهم سيتحدّون الصعوبات ليحقّقوا ما عجزوا عنه في بلادهم، فإذا بالحياة «تلبطهم» من مكان إلى آخر كما تفعل أرجل الصبية الفقراء بطابة عتيقة في أزقّة موحلة، وتذكّرهم بأنّهم ريفيّون نازحون من الجبل وهاربون من المجازر الطائفيّة ولائذون في حمى الإرساليّات الأجنبيّة (ولكلّ مرحلة من تاريخ لبنان حروبها ومهجّروها ومغتربوها) وسيبقون غرباء أينما حلّوا: وطنهم لعبة أمم، موتاهم جثث تُنتهك حرمتها، أحياؤهم مجنونو عظمة يضحّون بفردوس يمتلكونه في سبيل مجهول يريدون اكتشافه، في تكرار لا يتعب للخطيئة الأولى التي ارتكبها الإنسان الأوّل.
تعيدنا الرواية إلى جبل لبنان خلال القرن التاسع عشر، عصر التناقضات المتشابكة، فمن جهة هناك الإرساليّات التي حملت العلوم واللغات وأساليب جديدة في التفكير تُخضع كلّ شيء للعقل: الخلق والوطن والإنسان والتقاليد. ومن جهة هناك الحروب الداخليّة التي غذّتها أطماع الدول الغربيّة في أملاك الدولة العثمانيّة. وكان على ابن الريف اللبنانيّ أن يتعامل مع كلّ ذلك دُفعة واحدة، وأن يجد لنفسه مكاناً في الوطن والعالم. لذلك أتى تكوّن «فارس هاشم» في حشا أمّه ليلة سال دم بكارتها ممزوجاً بدماء سبعة آلاف ضحيّة قضوا في مجازر 1860، دليلاً على أنّ الأقليّات الخائفة على مصيرها تقاوم الموت بالتكاثر. وحين ولد «فارس» كانت أحلام والده «منصور» تنتظره: العِلم ودراسة الطبّ وإنقاذ المجتمع ونهضة الأمّة عبر محاربة الجهل وتحرير المرأة، وهي الأفكار التي زرعها في رأس الوالد صديقُه البروتستانتي الذي يخبّئ انتماءه الجديد كي لا يلاقي مصير أسعد الشدياق، الشهيد البروتستانتي الأوّل في بلاد الشرق. قبِل الابن تحقيق ما عجز الوالد عنه، لكن ليس على حساب رغباته (اكتشاف جسده ومعاشرة المومسات و «مصادقة أهل الدعارة والخصام») على اعتبار أنّ إشباع هذه الحاجات الماسّة سلاح في معركة القضاء على التخلّف، فضلاً عن أنّ احتكاكه بهذه الطبقات المضطهدة يجعله على بيّنة من حاجات المجتمع تمهيدًا لمعالجتها. وهكذا أمضى فارسنا اللبنانيّ حياته وهو يقنع نفسه بأنّ كلّ ما يفعله في الحياة يصبّ بطريقة أو بأخرى في مصلحة النهضة القوميّة وإعطاء صورة مشرّفة عن الوطن وأهله الذين يحبّون العلم، ولا بأس إن ضحّى الجميع من أجله وضحّى هو بالجميع في سبيل الغاية السامية. هاجر أبوه إلى أميركا لتأمين المال له (لا يؤتى على ذكر الأولاد الآخرين إلّا عرضاً)، وهو درس الطبّ لإنقاذ المرضى لكنّ أمه مرضت وماتت وهو مشغول بالقضايا الوطنية فكاد يتبرّع بجثّتها لحصّة التشريح في الجامعة إكراماً للعلم، ثمّ أصرّ على الهجرة إلى أميركا في الدرجة الأولى وليس مع أهل وطنه الفقراء ليعطي صورة مشرّفة عن بلاده أمام الغرباء ولو على حساب مبلغ خصّه به والده لمتابعة دروسه، حتّى العاهرة التي فضح خفايا علاقته بها وتسبّب في موتها كانت شهيدة لولاها لما اكتشف الناس أساليب جديدة في الممارسات الجنسيّة. ويتابع البطل تلميع صورته وتمجيدها مقتنعاً بأنّه والأمّة كيان واحد، غير واع أنّ الأمّة في كلامه كانت تضيق شيئاً فشيئاً لتصير وطناً صغيراً، ثمّ عيادة فخمة قبل أن تنتهي صحن كبّة نيئة يتوق إليه، وأنّ تحرير المرأة استعيض عنه بالتخلّي عن الخطيبة اللبنانيّة لمصلحة المراهِقة الأميركيّة، وحين رفضه أهلها (البروتستانت) تزوّج امرأة صينيّة تقيم في كوبا ولا تعرف من هو والدها.
الجثّة التي كانت حلم تلاميذ كليّة الطبّ في الجامعة الأميركيّة هي اللقيا التي تشكّل لبّ الرواية. فعلى رغم المجازر التي أوقعت آلاف الضحايا الذين لم يعرهم أحد قيمة تتخطّى كونهم عدداً في لوائح الإحصاء، كان من الصعب على تلاميذ حصّة التشريح أن يجدوا جثثاً للتدريب والامتحان، فكانوا ينبشون المقابر ويسرقون الجثث أو يشترونها ممّن يتاجر بها، لا يميّزون في ذلك بين غريب ونسيب، ففي سبيل العلم ونهضة الأمّة يهون كلّ شيء وصولاً إلى تشتّت العائلات وبيع الأراضي والتنازل عن المبادئ. وفي هذا السياق تأتي اللفتة الموفقة لمصلحة الأدب في مقابل العلم، فمع أنّ بطل الرواية اختار الطبّ لإنقاذ الأمّة كان يتمنّى أمام كلّ ما يثير دهشته لو كان شاعراً: فأمام منارة الإسكندريّة «تمنّى فارس وهو يتأمّل فعل الزمن في العمران أن يقول الشعر لكنّه لم يكن شاعراً»، ثمّ ردّد وهو يدور حول المصباح الكهربائيّ في مرسيليا مستمتعاً بالضوء يغسله «ليتني كنت شاعراً»، (في الفيلم الأميركيّ Contact تقول «جودي فوستر» وهي تؤدّي دور عالمة فيزياء وفلك ما يشبه ذلك). وفي وقتِ كان «فارس» يطلب العلم في أميركا ويتزوّج ابنة الصين، كان صديقه وزميله جرجي زيدان ينتقل في مصر من العلم إلى الأدب ليصير ما صار عليه، تاركاً إرثه الأدبيّ شاهداً على عصر ومرحلة، بينما ضاعت سلالة «فارس» الذي أنجب «منصور» الذي أنجب «جوان» الذي هاجر إلى البرازيل وكان فوق الخمسين من عمره. ولمّا سئل إن كان يستطيع العيش في الغربة أجاب: «نعم، أستطيع أن أقتلع جذوري وأحملها على ظهري وأزرعها في المكان الذي أحبّ العيش فيه!» غير عارف أنّه مصاب بحنين أبديّ لا دواء له. وهكذا انتهت حكاية اللبنانيّ الذي اجترح العجائب في الولايات المتحدّة (تاجراً وطبيباً وجنديّاً وخطيباً) لكنّه عجز عن إنقاذ أمّه وأمّته وهو المؤمن بشعار بشّر به دعاة النهضة عهدذاك: «الأمّ هي الأمّة»، الأمّة نفسها التي سرق أبناؤها جثّته لحظة وصولها إلى أرض الوطن وباعوها لتلاميذ الطبّ فتقاسموها في صفّ التشريح.
هل «نهضة الأمّة»، الكلمة المفتاح في الرواية، هي «تبليط البحر» وفق العنوان؟ أي مهمّة مستحيلة من العبث التفكير في تنفيذها بعدما ثبت بالبرهان الأكيد أن لا مجيء الإرساليّات وتأسيس المدارس الوطنيّة رفعا شأن الوطن، ولا الهجرة والاحتكاك بالشعوب المتحضّرة حرّرا العقل من وهْم البطولات الزائفة والتقاليد البالية، ولا الحروب والمجازر علّمت الناس أنّ العنف لا يولّد إلّا العنف؟ سؤال قد نجد الإجابة عليه في الرواية عند تكرار مشهد المهاجرين على ظهر باخرة تقاوم الموج في المحيط الأطلسي وتهزّ كؤوس العَرق في أيديهم، إلى أن خاطب أحدهم وهو الزجلي اللبنانيّ الشهير طانيوس الحملاوي المحيط مهدّداً في بيت عُدّ وفق الرواية من أجمل شعر الزجل: عم تتمرجل يا طلنتيك/ والحــملاوي مسافرْ فيك/ انْ ألله وصّلني ع الشطّ/ وانْقرت الدفّ بفرجيك. وها نحن حتّى اليوم ندفع ثمن هذا التحدّي للأطلسي ومَن وراءه.



5- حركات الاحتجاج في مرآة المثقّف العربيّ



صحيفة الحياة / الإثنين, 30 مايو 2011
فرض المقهى نفسه على المشهد الثقافيّ العربيّ خلال العقود القليلة الماضية، حتّى أنّ أسماء بعض المقاهي دخلت التاريخ بعدما ارتبط ذكرها بأدباء وصحافيّين ومفكّرين اتّخذوها مواقع نضال ومراكز تجمّعات. ولا يفوق عدد النصوص التي كتبت في مديح المقاهي إلّا تلك التي كُتبت في رثاء ما أُقفل منها على اعتبار أنّها صفحات مطوية من ذاكرة شارع ومدينة ووطن. وقد سعى المثقّفون إلى استغلال هذا المكان المدينيّ والابتعاد به عن أن يكون مجرّد مكان للّقاء وتناول القهوة، فأضفوا عليه صفات ليست من طبيعته كأن يكون ساحة نضال أو منبراً إعلامياً أو نادياً للثقافة.

أكاد أقول إنّ الثورات العربيّة – أو أياً كان اسمها - هي في شكل من أشكالها ثورة على الثقافة والمثقّفين. وبصرف النظر عن تعريف كلمة «الثقافة»، وقد تباينت التفسيرات التي تناولتها، يبقى المقصود هذه الشريحة من المجتمع التي كان عليها أن تُحدث «الثورة»، فإذا بها، وبعد كلّ التغيّرات التي فرضت نفسها على الساحة العربيّة، عاجزة عن مواكبة المستجدّات. وعلى رغم أنّ تحرّكات الشارع ارتبطت ارتباطاً عضوياً بالشبكة الإلكترونيّة وسواها من وسائل الاتّصال السريعة والمتطوّرة، كان لافتاً اعتراف كبار المفكّرين والمثقّفين بأنّهم يجهلون تماماً أبسط سبل الاستفادة من الإنترنت وخدمات التواصل الاجتماعيّ. ما يعني أنّ المشهد يبقى على الشكل الآتي: المثقّف في المقهى يقرأ الصحيفة الورقيّة اليوميّة التي اعتاد قراءتها منذ عشرات السنين، أمّا الشاب الجامعيّ فيضع في جيبه جهازاً صغيراً يتيح له معرفة كلّ ما يجرى في العالم لحظة بلحظة. وإذا كان الأوّل أكثر قدرة على تحليل بعض الأمور القليلة بعمق يرتكز على التاريخ، فإنّ الثاني مقتنع بأنّه يمتلك صورة عالميّة شاملة عن الحاضر فضلاً عن مفاتيح فهم المستقبل. ثمّة أمور ثلاثة أعاقت المثقّفين عن لعب الدور الرياديّ عملياً فانكفأوا إلى التنظير.
أوّلها ابتعادهم عن أجيال الشباب في المدارس والجامعات وتقوقعهم في حلقات ضيّقة يقرأ فيها الواحد منهم نتاج الآخر ويكتب عنه في الصحيفة. والنص اليوم بات مادة امتحان في المدرسة أو الجامعة ولا مجال لمناقشته أو الاعتراض عليه. وقليلة جداً المؤسّسات التربويّة التي سمحت بمقاربة نصوص جريئة فكراً ولغة، أو قامت بدعوة مثقّف منفتح ومتحرّر يطرح مواضيع غير معلّبة. هذه الهوّة بين الثقافة والتربية، بين النصوص الإبداعيّة والمناهج الرسميّة، بين التربية والتلقين، جعلت المثقّف كائناً فوقياً غريباً عاجزاً عن التواصل مع الفئات العمريّة الشابّة. وحين شذّت مجموعة قليلة من الشعراء والأدباء عن هذه القاعدة كان ذلك من خلال نصوص مختارة بعناية تجعل جبران خليل جبران مقبولاً في تمجيده الطبيعة ومرفوضاً في نقده رجال الدين، ونزار قبّاني شاعر المرأة من دون الإشارة إلى شعره السياسيّ، ومحمود درويش صاحب قصيدة وحيدة عن خبز أمّه.
الأمر الثاني الذي غرّب المثقّف عن محيطه هو تأثّره بالفكر الأجنبيّ خلال الدراسة في الخارج أو بواسطة الترجمات التي اطّلع عليها، حتّى بدا الأمر كأنّ الكاتب العربيّ يطمح إلى أن يُترجم ليقرأه غير العرب أكثر ممّا كان يعنيه أن يترك أثراً في مواطنيه. ولذلك يبدو الكثير من الإنتاج الأدبيّ الذي كُتب خلال الوجود الفرنسيّ أو الإنكليزيّ في الشرق أكثر تعبيراً عن حالات نفسيّة «أوروبيّة» تعاني مثلاً من الاكتئاب عند الغروب، أو الإحباط بسبب الحربين العالميّتين، أو الوحدة في حين أنّ الحياة الاجتماعيّة والعائليّة في الشرق لا تشبه ما عند الغربيّين. والتأثّر بالموضوعات الأوروبيّة (فرنسيّة وإنكليزيّة وألمانيّة) ثمّ الأميركيّة أبعد الفكر العربيّ عن التطلّع إلى تفاصيل الحياة اليوميّة، فكان من الصعب على القارئ العربيّ أن يجد في أكثر النصوص التي بين يديه صدى لمخاوفه وأحلامه. والمحاولات القليلة التي رصدت الواقع كانت أعجز من أن تحدث ثورة لأنّها لم تكن تمثل حالة عامّة طاغية، أو تيّاراً جارفاً لا يترك مجالاً لغيره، وإلّا لما كانت الثورات العربيّة تأخّرت كلّ هذا الوقت.
الأمر الثالث هو ارتباط الثقافة بالسلطتين الدينيّة والزمنيّة. وحين يتباهى بعض العرب بأنّ الخلفاء كانوا يكرمون الشعراء يغيب عنهم أنّ هذا التكريم آتٍ من شخص يمثّل الدين والدولة في الوقت نفسه، وأنّ الشاعر المكرّم هو الذي كان يلاقي هوى عند صاحب السلطتين، وفي هذه الحالة لا يمكن الحريّة المطلقة أن تجد لها مكاناً، والتاريخ شاهد على عدد الضحايا الذين قضوا عند افتراق طريقهم عن طريق السلطة الحاكمة. وانسحب الأمر إلى اليوم، فالمثقّف في بحثه عن مصدر رزقه، وفي غياب مؤسّسات الدولة التي تعطيه حقوقه بمعزل عن انتمائه الدينيّ أو الحزبيّ، يجد نفسه مضطراً إلى الاتّكاء والاتّكال على سلطة تحميه وتؤمّن له حياة لائقة، وإلّا هاجر بحثاً عن حريّة التعبير وكرامة العيش.
ومتى أضفنا عجز المثقّف العربيّ عن فهم تداعيات العولمة، ومواكبة السرعة في الاختراعات، وملاحقة آخر صيحات الفنون وإنجازات العلوم، تأكّد لنا أنّ التغيير الذي انطلق في الشارع العربيّ لا يدين لأيّ مثقّف بإطلاقه، ولن يستطيع أيّ مفكّر لا يمتلك لغة العصر الجديد (سينما، إنترنت، موسيقى، أزياء...) أن يفهمه ويعبّر عنه، وجلّ ما يمكنه تحقيقه هو وصف ما يراه على شاشة التلفزيون التي صارت جزءاً من أثاث المقهى الحديث. لقد خسرت الثقافة معارك كثيرة: القضيّة الفلسطينيّة والتشرذم العربيّ وانتشار الأميّة والفساد السياسيّ وهيمنة الأصوليّة وقمع الأنظمة، لأنّها، أي الثقافة، كانت دائماً منفعلة لا فاعلة، مشاهدة لا شاهدة، ولعلّ المطلوب الآن كثير من التواضع للقيام بنقد ذاتيّ دقيق يعيد للثقافة دورها في صناعة المستقبل عوض أن تبقى غارقة في البكاء على أطلال الماضي أو اجترار أمجاده الغابرة.


4- 
سيرة "سليم مطر" ألبوم عائلة عراقيّة


صحيفة الحياة - 5 حزيران 2011
لا أعرف إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار السيرة الذاتيّة «ذاتيّة» بالفعل، في حين يبدو الأقرب إلى الواقع أنّنا إنتاج مجموعة أشخاص وعوامل صنعتنا وكوّنت ذواتنا من دون إذن مسبق منّا أو موافقة على ما حصل معنا وجَعلنا ما نحن عليه. ولا أعرف كذلك ما هو رأي من ترتبط بهم حياتنا حين نأتي على ذكرهم في ما نكتبه عن هذه الحياة. مناسبة هذا الكلام صدور «اعترافات رجل لا يستحي» للكاتب العراقيّ سليم مطر عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، وهي سيرة روائيّة وفق التعريف عنها. غير أنّها في رأيي أكثر من سيرة تكتفي بسرد الأحداث وفق تسلسلها الزمنيّ بل هي رحلة البحث عن هويّة وتحقيق المصالحة مع الماضي، ومن دون إتمام ذلك لن تستقيم حياة أو يهدأ بال. وتبتعد عن كونها رواية لتتحوّل «ألبوماً» عائليّاً تجتمع فيه الحكايات مع صور فوتوغرافيّة للعائلة. انها كتابة تغرف من الداخل، فتنبش في أعماق النفس وتفلفش أوراق الذاكرة ثمّ تخضع كلّ ما تجده للتحليل والاستنتاج، وتسعى بعد ذلك لعرض النتائج أمام الناس، عارية بقدر ما استطاع صاحبها أن ينزع عن ذاته الأقنعة الحديد التي فرضتها الحياة. انها «اعترافات» علنيّة على خلاف ما هو عليه سرّ الاعتراف عند المسيحيّين، لذلك يتوجّه الكاتب بدءاً من الصفحة الأولى لأحبّائه وأصدقائه لطمأنتهم إلى أنّه لا يزال كما عرفوه محبّاً للحقيقة وكشف المسكوت عنه والصراحة التي يجب أن تبدأ مع الذات وهو وإن كان لا يستحي إلاّ أنّه لا «يتوقحن». وهي كذلك اعترافات «رجل» يسعى للمصالحة مع الطفل التائه الذي كانه، وهي أخيراً اعترافات رجل «لا يستحي» من تعرية الآخرين وفضح الأسرار العائليّة، كأنّي به يهدم هيكل المقدّسات الصنميّة صارخاً: عليّ وعلى أعدائي يا ربّ! فكيف إذا كان أعداء الإنسان أهل بيته ووطنه؟
لم يخطر لي أنّ سليم مطر أراد أن يفجّر مفاجأة أو يثير فضيحة حين بدأ كتابة هذه النصوص التي تشكّل مشاهد من سيرة روائيّة تترك القارئ محتاراً في تحديد نوع النصّ: هل هو سيرة ذاتيّة ترتدي ثوباً فضفاضاً اسمه رواية؟ أم هو رواية تستند إلى الواقع من دون أن تبقى أسيرته؟ إنّما يبدو لي أنّ استعادة الكثير من الذكريات وتكرار تحليلها (وصف الوالد «مطر» وعلاقته بابنه «سليم» مثلاً) يشيران إلى أنّ الخيط الذي يجمع النصوص ليس الحبكة الروائيّة بل الحاجة إلى البوح من دون تصميم مسبق واضح ومدروس. لكن من يستطيع أن يضع الحدود الفاصلة والأكيدة بين ما عاشه الكاتب/ الراوي/ البطل وما يظنّ أنّه عاشه؟ على كلٍّ، أليس هذا هو الأدب؟
ما الذي يعني القارئ من أمر هذا الكتاب؟ جملة أمور يمكن أختصارها في ثلاثة تدور في فلك واحد:
أوّلاً: صورة الأب وهي موضوع لا يغيب عن الرواية العربيّة خصوصاً متى مثّل الأب نوعين من السلطة: البارئ والحاكم وفق ما ينظر إليهما العربيّ. فالأب يجمع بين الحنان والقسوة وكلاهما مقبول بلا نقاش، وحاكم يفرض عليك أنظمته وقوانينه ولا يقدّم لك شيئاً في المقابل. ولهذا ما زلت حذرة في الحكم على ما يجري في البلدان العربيّة إذ من غير المنطقيّ أن ينتفض العرب على حكّامهم ويستمرّوا في الخضوع للسلطتين الرمزية والأبويّة. فكيف يثور الناس على النظام السياسيّ ولا يثورون على نظام عشائريّ يسمح بجريمة الشرف (الاردن مثلاً) أو على فتوى تضطهد مفكّراً وتحكم بتفريقه عن زوجته (حامد ابو زيد) أو قرار بجلد صحافيّة ارتدت البنطلون (السودان)؟ وسيبقى الخلل قائماً إلى أن نُخضع مفهوم العائلة للتحليلين النفسيّ والاجتماعيّ بمعزل عن تقديس الأم وتأليه الأب كما في الشرق أو رفضهما تماماً بعدما صار التمييز طبيعيّاً بين أبوين بيولوجيين وأبوين مربيّين ولو كانا من المثليين كما يحدث في الغرب.
ثانياً: موضوع الهويّة الذي طرحه الكاتب في الفصل الأوّل (الأجنبيّ الأبديّ)، وعاد إليه في سائر الفصول على اعتبار أنّ غربته في عائلته ووطنه لم (ولن) ينفع معها علاج. وتزداد حدّة الموضوع يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد الحربين العالميّتين وزوال الاستعمار وقيام الكيانات العربيّة على أسس غير مستقرّة، ثمّ القضيّة الفلسطينيّة والثورة النفطيّة والمدّ الشيوعيّ والتدخّل الأميركيّ، وبعد ذلك ثورة الاتّصالات الحديثة. كلّ ذلك تمّ في مرحلة قصيرة جدّاً في عمر الزمن إنّما متخمة بالمشاكل المختلفة والتغيّرات السريعة التي لم تكن الشخصيّة العربيّة مهيّأة لفهمها والتأقلم معها. وصاحب السيرة عانى من كلّ ذلك فضلاً عن الفقر والحرمان، فكيف نريد منه أن يحدّد هويّته وهو من أقليّة فقيرة ليس لها مكان في حسابات الدول والحكومات؟
ثالثاً: اللغة: ينتمي الكاتب إلى «مجموعة فقيرة محتقرة من أناس بائسين اسمهم «الشراكوه» وهم سكّان جنوب شرق العراق» (ص 19)، لهم لهجتهم المحليّة التي غرّبتهم عن محيطهم. فمنذ الطفولة إذاً كان على الطفل «سليم» أن يجد لغة تدخله في نسيج المجتمع الأكبر. ثمّ نراه تلميذاً في مدارس بسيطة، وعاملاً في دكّان أبيه، فمهاجراً إلى أوروبا ومقيماً في سويسرا التي تعلّم لغة أهلها وتزوّج من إحدى بناتها وأنجب ابنه الوحيد السويسريّ العراقيّ، المزدوج الانتماء الديني. لا يدّعي الكاتب دراسة العربيّة على كبار العلماء واللغويّين، وفي المقابل يعترف بنهمه لقراءة الروايات، عدا عن اعتياده الإصغاء بشغف إلى حكايات والده. فالناحية الأدبيّة السرديّة إذًا تقدّمت على الناحية اللغويّة، وأتت الغربة لتبعده أكثر عن ينابيع اللغة الصافية. لهذا كان على دار النشر أن تعرض النصّ على مدقّق لغويّ يوليه عناية الحدائقيّ الذي يخلّص الورود الجميلة من الأعشاب التي تخفي حسنها. فبقدر ما يبدو السرد سلساً ومنساباً تظهر عثرات هنا وهناك تثير عتب القارئ ومنها على سبيل المثل: «ان لجميع الأصدقاء والصديقات، كتّاب وقرّاء (الصحيح «كتّاباً»)» (ص5)، «لم يتلقّى (الصحيح «يتلقَّ») رحمة من أبيه» (ص8)، و «قد قَتَلَ أبيه خطأ (الصحيح «أباه»)» (ص8)، «يحقد على أبناءه (الصحيح «أبنائه»)» (ص9)، «خنقت بيداي هذه أعظم الطغاة (والصحيح «بيديّ هاتين»)» (ص10)، «ستكون رحلة طويلة تدوم أعوام وأعوام (والصحيح أعواماً وأعواماً)» (ص31)، «ونحن حفاة راكضين (والصحيح راكضون)» (ص34)...
أمّا سائر الموضوعات التي يتصدّى لها صاحب السيرة في طفولته ومراهقته وشبابه فأترك للقارئ أن يغني ذائقته الأدبيّة بقراءتها فصلاً تلو فصل، فيستمتع بلفتات نقديّة ذكيّة (عن الأغنياء والعلاقة بين الشرق والغرب مثلاً) وتحليلات نفسيّة عميقة (الأم، الأب، المرأة) وتعليقات ساخرة (عن الحزب الشيوعيّ). من دون أن يغيب الحزن العميق عن حكاية حُكِمَ على بطلها بالغربة، ولهذا لا ينسى الكاتب يوم قال له وحيده وكان ابنَ عشر سنوات: «بابا! ممكن تحكي لي حكاية من حياتك في العراق، غير حزينة...» ولا يزال سليم مطر يبحث.



3- عن "حكواتي الليل" لرفيق شامي في صحيفة الحياة (20 أيّار 2011)



«حكواتي» رفيق شامي... الصوت الذي صار حكاية
الجمعة, 20 مايو 2011
ماري القصيفي
في عتمة الرحم يصلنا الصوت قبل أن يلمس النور جفوننا، وعند الولادة نصرخ قبل أن نفتح أعيننا، أمّا في نهاية الحياة فآخر ما نفعله هو أن نمضي بصمت. الصوت إذاً رفيق البدايات. والشعوب التي لا تزال في طور البداءة أو البداية أو البداوة تتبع الصوت وتنتظر الصدى، وتسمع. أمّا الإصغاء فشأن آخر. ورواية «حكواتي الليل» (صدرت ترجمتها عن دار الجمل) للكاتب السوريّ - الألمانيّ رفيق شامي هي حكاية الأصوات قبل أن تُرسم حروفاً مكتوبة. هي حكاية الصوت الذي صار حكاية.
عنوان الرواية وضعني أمام الرجل الذي يحكي قصصاً، كأنّه الصورة الذكوريّة لشهرزاد التي يرد ذكرها أكثر من مرّة في السياق. أزعجني في البداية أن يكون الحكواتي رجلاً لا يشبه حكواتيّة البطولات والمقاهي. فأنا مقتنعة بأنّ المرأة هي التي تملك أسرار هذا الفنّ الجميل وتتفوّق فيه على الرجل الذي سبقها إلى عالم الكتابة. ومع استغراقي في أجواء الحكايات المثيرة فكّرت في التراجع عن موقفي والاعتراف بخطئي حين حصرت فنّ «الحكي» بالمرأة. وكدت أنقم على رفيق شامي لأنّه نقض ما كنت واثقة من صحّته، فضلاً عن أنّه جعل شخوص الرواية الرئيسين رجالاً يتناوبون الأدوار ما بين الإصغاء وسرد الحكايات. غير أنّ «فاطمة» ابنة الساحرة «ليلى» ظهرت في نهاية الرواية لتحكي الحكاية الأخيرة وتفكّ الرصد وتطلق لسان الحكواتي «سليم»، بطل الرواية والممسك بخيوط الحكايات كلّها. فالرجل الذي أمضى حياته في نسج القصص وسردها خرس فجأة، وبعدما جرّب أصدقاؤه السبعة الذين كانوا حلقة مستمعيه الضيّقة وسائل عدة لإطلاق صوته من شبكة حبال اللعنة التي أصابته، قرّروا أنّ الحكايات وحدها قادرة على إطلاق لسان صديقهم. واتّفقوا على أن يروي كلّ واحد منهم حكاية لمدّة سبع ليال، وبعدها سينطق «سليم». ولكنّ الصديق الذي كانت الليلة السابعة والأخيرة من نصيبه لم يكن يجيد سرد الحكايات، فاستنجد بزوجته «فاطمة» التي أخبرت حكاية غريبة عن أمّها. وحين انتهت صاح «سليم» من أعماق روحه: «لم أسمع في حياتي كلّها قصّة كهذه!» (ص 246).
لماذا أراد رفيق شامي أن تنحلّ عقدة لسان بطله بعد قصّة روتها امرأة عن امرأة؟ خصوصاً أنّ الراوي، الذي يحكي قصّة «سليم» مع الحكايات والخرس الذي أصابه، يشكّ بأنّ الرجل ادّعى فقدان صوته وبالتالي لم تنقذه المرأة. فلماذا دخلت «فاطمة» على خطّ الرواية إذاً؟ على الأرجح لأنّ «شامي» مقتنع كذلك بأنّ الأدب الشفويّ هو الفنّ الذي تبرع فيه النساء الذكيّات. أليست «ليلى» هي التي علّمت ابنتها «فاطمة» سرّ الكلام بين الزوجين موضحة أنّ العشق كسفينة في بحر هائج تفرض على الركّاب الحديث كي ينسوا خوفهم، أمّا الحبّ فزورق في مياه هادئة يستمتع الركّاب فيه بالصمت والسكينة والأمان؟ (ص 232).
بدا واضحاً في الرواية توجّهها إلى مجتمع غير عربيّ. فهي حافلة بتفاصيل وشروح ما كان الكاتب ليجد داعياً لذكرها لو كان جمهوره عربيّاً. والأمر طبيعيّ حين تُقرأ الرواية في لغتها الأصليّة، أيّ الألمانيّة أو في أيّ لغة أجنبيّة أخرى من اللغات التي ترجمت إليها. ولكن أن نقرأ، بالعربيّة، مسلّمات هي من طبيعة تفكيرنا وحياتنا، فأمر في غير محلّه. وهذا موضوع إشكاليّ، فمن جهة من واجب الترجمة أن تكون أمينة للرواية، ومن جهة عليها أن تراعي شخصيّة اللغة التي يُنقل النص إليها. ولأنّ الراوي عربيّ دمشقيّ، وفق النصّ، كان من الأفضل ألّا يبدو حديثه عن العرب صادراً عن شخص غريب عن ديارهم. فليس من المنطقيّ أن نقرأ باللغة العربيّة: «يستمع بهذه الحماسة الى أغاني المطربة المصريّة أم كلثوم» (ص 42)، فتحديد جنسيّة أم كلثوم معلومة لا يحتاج إليها قارئ عربيّ ولن تخطر له، خصوصاً متى تابع الراوي شرح علاقة الجمهور العربيّ بصوتها وحفلاتها. وهل من المنطقيّ أن يخاطب الراوي الشاميّ مستمعيه الشاميّين مثله كأنّهم «غرباء عن أورشليم» فيوضح لهم في معرض حديثه عن الراعي صاحب العنزات الشاميّة: «والعنزة الشاميّة نوع لطيف من العنز بشعر أحمر ناعم وضروع ضخمة» (ص 81)؟ وكذلك عند شرح علاقة العرب بالجمل «العرب يملكون ذاكرة قويّة» (ص 105)، وفي الملاحظة التي تقول إنّ الضيف العربيّ لا يحضر معه ضيافته، أي ما سيتناوله من مأكولات أثناء الزيارة (ص 130)، أو في المقارنة بين الحياة في اللاذقيّة والحياة في أميركا (ص 136). فالحديث عن العرب بصيغة الغائب يوحي بأنّ الراوي يحكي عنهم كأنّه ليس منهم كما في قوله: «أن تكون سميناً عند العرب يعني أن تكون غنيّاً» (ص 155)، أو في قوله: «الدمشقيّون إن لم يكونوا في دكاكينهم ومكاتبهم يتذمّرون من اضطرارهم للعمل في يوم كهذا (يوم حارّ) فإنّهم يتوجّهون خارجاً...» (ص 226). فبقدر ما رغب الروائيّ «الألمانيّ» في تعريف قرّائه الغربيّين إلى عالمه الدمشقيّ، أخفق الراوي «العربيّ» في تحديد هويّته والالتزام بها.
وما دمنا في الحديث عن الترجمة، فلا بدّ من التنويه بلغة المترجمة رنا زحكا التي برعت مراراً في التشديد على أنّ الترجمة هي إعادة تأليف، ولعلّ هذا النموذج يعطي فكرة عن لغتها الممسوكة: «تراقصت ألسنة اللهب بسعادة حول الحطب، التفت برقّة حول جسده الغليظ بأنوثة وكأنّها ترغب في عناقه. للحظة بدا الحطب قاسي القلب وبارد المشاعر متجاهلاً إغراء اللهب، لكنّ النار ظلّت تمسّد جسده بعذوبة وتدغدغ روحه بإحساس شاعريّ دافئ. تجاهلت بعض شظايا وحواف الخشب القاسية إنذارات الجسد وتراجعت عن موقفها العنيد لتعانق النار أخيراً. طقطق الخشب معبّراً عن استيائه، لكنّه سرعان ما تخلّى عن أيّة مقاومة وأخذ يرقص ويغنّي وسط شعلة نار متأجّجة. بعد قليل ذاب كلّ من الخشب والنار في جذوة ألق هامسة ترتاح على وسادة وثيرة من الرماد» (ص 224). ومع ذلك، بدا العمل مرهقاً للمترجمة إذ سقطت سهواً مجموعةُ أخطاء. ولهذا كان من الأفضل أن تعرض الترجمة في صيغتها النهائيّة على مصحّح يهتمّ باللغة من دون أن يشغله موضوع الأمانة للنصّ الأصليّ، وهذا أمر تتحمّل مسؤوليّته دار النشر. ومن نماذج السهو: «يهدِّء» (ص 16) والصحيح: يهدّئ، رغم سنينه (ص 18) والصحيح: سنيه، «لم تعنيني» (ص 22) والصحيح: تعنني، «قدِمَ أصدقاءه» (ص 32) والصحيح: أصدقاؤه، «بانَ في قصرها رجلاً عجوزاً» (ص 68) والصحيح: رجلٌ عجوزٌ، «لم يرونه» (ص 71) والصحيح: لم يروه، «كان الشخص الوحيد رجل» (ص 90) والصحيح: رجلاً، «وهم راضين» (ص 156) والصحيح: راضون، «تُعتبر عصافيرًا بالغة» (ص 176) والصحيح: عصافير، «لكنّه في الحياة طفلاً» (ص 187) والصحيح: طفلٌ، «كان ذو وجه جميل» (ص 206) والصحيح: ذا... فضلاً عن أسماء العلم التي تلتزم بحالات الإعراب مرّات وتعارضها مرّات.
حكواتي الليل لا يحتاج إلى عينين. تكفيه حاسّة السمع، ولا مانع من أن تمدّه حواسه الأخرى ببعض المعلومات، فالتواصل ليس محصوراً بالكلمات، «لأنّ البسمة لغة كذلك» (ص 62) وهو قادر على تذوّق «الشارع بواسطة أذنيه وأنفه» (ص 81). غير أنّ الأصوات هي عدّة شغله التي لا غنى عنها، إذ «تقوم الأذنان داخل الرحم بفتح النافذة الأولى على العالم، وهما كذلك آخر النوافذ التي تغلق مصراعيها» (ص 215). والحقل المعجميّ المتعلّق بالصوت والسمع غنيّ إلى درجة تجعل الكلمات تتلاحق وتتجاور حتّى ليكاد القارئ يقرأ بأذنيه على مثال معكوس لأحد شخوص الرواية الذي كان يسرع إلى وضع نظّارتيه الطبيّتين كي يسمع الحكاية جيّداً. فإذا أخذنا مثلاً بضعة أسطر من الصفحة 43 من الرواية، وفيها وصف لصوت أم كلثوم وتأثيراته، تطالعنا المفردات الآتية: «المطربة، الأصوات، ضجّة، يصيخ السمع، ثرثرة هامسة، تجشّؤ، ريح بطن عاديّ، صوت، الأخبار، الإذاعة، الإشاعات، أخبرك، الخبر، سمعت، تذوّق صوتها». وهكذا تتوالى الأصوات ناقلة مختلف وجوه الحياة، جميلها وقبيحها، إلى مستمعين يلاحقون الصور في تنوّع النبرات وينتقلون عبرها إلى عوالم غريبة. فـ «سليم» يمشي في الشارع ويلتقط أصوات الأزاميل الصغيرة تثرثر مع أطباق النحاس الشاحبة» (ص 83) ويرتشف قهوته «بصوت مسموع يدلّ على تلذّذه بها» (ص 84)، ويصغي إلى صيحات الحمّالين حين يضيق الشارع وهم ينبّهون المارّة (ص 89). ولكن لا ينفي الفنّ الشفهيّ الشعبيّ الذي تحتفي به الرواية دور الكتابة كناقل للصوت لا للمشهد، ففي حوار حول هذه النقطة بين اثنين من أصدقاء «سليم»، يسأل أحدهما: «أليست الحروف والخط سوى الظلّ المتواضع لصوت الكلمات على الورقة؟»، فيجيب الآخر: «الفضل ليس للصوت بل للكتابة،... الكتابة وحدها يا صديقي تملك المقدرة على حمل الصوت عبر الزمان وجعله أبديّاً مثل الآلهة» (ص 31).
الصوت يحمل الكلمات، و «الكلمات مسؤوليّة» (ص 25)، تدغدغ المشاعر أكثر من الأصابع (ص 182)، وصاحب اللسان «الساحر» (ص 7) «بوسعه سرد قصص تبكي وتضحك مستمعيه حتّى ولو كانوا رجالاً بقلوب من صخر» (ص 6)، لأنّ «اللسان هو بمثابة يديّ الخزّاف اللتين تحوّلان الصلصال إلى هذا الإناء النافع أو ذاك الشكل الجميل» (93). لاحظوا الجمع بين النفعيّة والجمال هنا، وهو أمر يتميّز به الإنسان عن سائر المخلوقات. ولا يعرف قيمة الكلمات إلّا من يفقدها، خصوصاً متى كان في بلاد لا يعرف لغة أهلها (ص 138) أو متى أمضى وقتاً في عزلة فـ «حين لا يتكلّم المرء مع الآخرين لسنوات، فإنّ أحلامه تصبح خرساء كذلك» (ص 186)، إلّا إن استطاع الإصغاء لصوت ذاكرته (ص 219).
الحكاية إصغاءً وسرداً
أوّل شرط من شروط الحكاية وجود مستمع، هذا ما أدركه «سليم» فـ «الحكاية تحتاج إلى شخصين على الأقلّ كي تحيا» (ص 223). ولكنّ الحكواتي البارع لا يخضع لمزاج من يصغي إليه، بل على قصّته أن تكون «عديمة الرحمة تجاه من لا يريد السماع رغم امتلاكه مقدرة الاستماع» (ص 218). والأطفال، وفق الرواية، هم أفضل المستمعين وأكثرهم حساسيّة (ص104)، أمّا أسوأهم فهم الحكّام خصوصاً متى كانوا في السلطة، ولكن متى فقدوا كراسيهم يبدأون فجأة بالثرثرة وبعضهم بكتابة مذكّرات (ص 205).
في المقابل، ثمّة عناصر تشويقيّة على الحكاية أن تمتلكها، فـ «الحكواتي الرديء هو الذي يجهل متى يُشعر مستمعيه بالملل» (ص 104). ولذلك فالخبرة والممارسة ضروريّتان في هذا المجال، لأنّهما تمنحان الحكواتي موضوعات جديدة وأساليب مختلفة تلائم المضمون والمناسبة والسامعين. هذا ما أكّدته «ليلى» حين علّمت ابنتها الدرس الأخير قبل أن ترحل خلف الحكايات: «إنّ الحكواتيّة الجيّدين مثل النبيذ الجيّد، كلّما عتق طاب طعمه!» (ص 246).
يستدعي الكلام على الحكاية الإشارة إلى ارتباطها بمهن أصحابها أو الحرف التي يمارسونها، من هنا جعل «رفيق شامي» الحكواتيّة البارعين من الذين وضعتهم الحياة على تماس يوميّ مع عدد كبير من الناس ومن مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعيّة: كالعربجيّ والحلّاق والمهاجر والبائع المتجوّل والسجين والوزير السابق. ووفّق الكاتب في تصوير الأثر الذي تتركه ممارسة مهنة معيّنة على نفسيّات أصحابها ولغتهم، ما يذكّرنا بمقامات بديع الزمان الهمذاني. ولا يمكن التغاضي عن المقارنة أخيراً بين هذه الرواية ورواية الأميركيّ دانيال والاس «السمكة الكبيرة أو السمكة الذهبيّة» التي صدرت عام 1998 وتحوّلت فيلماً حصد عدداً كبيراً من الجوائز (2003)، علماً أنّ «حكواتي الليل» صدرت عام 1989، وترجمت إلى اللغة الإنكليزيّة للمرّة الأولى عام 1993 بعنوان «الليالي الدمشقيّة»، أي قبل خمس سنوات من الرواية الأميركيّة. أمّا أوجه الشبه (استناداً إلى الفيلم) فأهمّها: 1- يعمل كلا البطلين المغرمَين بالقصص متنقّلين من مكان إلى آخر ويلتقيان بالكثيرين (العربيّ عربجيّ والأميركيّ بائع متجّول). 2- الاثنان واجها حيوانات بحْريّة وانتصرا عليها (الأوّل صارع الأخطبوط، والثاني اصطاد سمكة كبيرة). 3- كلّ واحد منهما واجه صعوبة في قبول ابنه له (لا تأتي الرواية على ذكر ابن «سليم» إلاّ في كونه متزوّجاً وبعيداً ولا يرسل المال الى والده، وابن الأميركيّ لم يعد إلى البيت إلّا حين علم بدنوّ أجل والده). 4- الاثنان محاطان بسبع شخصيّات صديقة تعطي دفعاً للحكايات. 5- الاثنان يأتمنان الجيل الجديد على استمرار الحكايات في التوالد والتكاثر (الشاميّ علّم الراوي الطفل فنّ السرد، والأميركيّ رواها لابنه الذي أخذ يحكيها لأبيه على سرير موته ثمّ لطفله). 6- كلاهما ظهرت له ساحرة: الأوّل لتخبره بأنّه سيفقد القدرة على الكلام (الموت المعنويّ) والثاني بموعد موته. 7- كلاهما عشق امرأة فهمت رغبة زوجها في المبالغة وخلط الواقع بالوهم بل كانت «شريكته» إلى حدّ ما. هذا طبعاً عدا السحر والعمالقة والشعراء والناس الممسوخين وحوشاً، فضلاً عن التبشير بالحكاية لكونها عالماً جميلاً يستحقّ البقاء.
قد توحي رواية «حكواتي الليل» بأنّها لا تحمل جديداً للغة العربيّة التي اتّكأ محكيُّها على «ألف ليلة وليلة» وسيرة الزير سالم وسيرة عنتر(ة)، غير أنّها أحيت أجواء جميلة تثير الخيال وتداعب الوجدان، وصوّرت الحارات الدمشقيّة بظرف ودقّة قبل موجة المسلسلات السوريّة من دون أن تخشى الحديث عن السياسيّين والانقلابات والسجون، وذكّرت بزمن كان الناس يجيدون الكلام ويحسنون الإصغاء، وبنوع أدبيّ شفويّ ينقرض تاركاً المجال لكثير من الثرثرة.


 2- ثلاثون حكاية لجاد الحاج





قصص في مواجهة العين الرائية
صحيفة الحياة - 15 أيّار 2011
بعض القصص القصيرة مشاهد من رواية يخيّل إلينا أنّ الراوي لا يجد وقتاً لكتابتها أو لا يملك جَلَداً على حَبكها، غير أنّ هذا لا يعني أنّ القصّة الواحدة منها ليست عالماً متكاملاً تاماً؛ بل على العكس، فلشدّة ما هي مكثّفة ولماحة، عميقة وسريعة، متكتّمة وفاضحة، يخطر لنا أنّ جمعها في رواية قد يعرّض كاتبها للانشغال بالبنية الرابطة على حساب المشهد. ومع ذلك فالحكايات الثلاثون التي كتبها جاد الحاج خلال عشرين سنة فائتة، لها رابط يتخطّى البنية الروائيّة وراوٍ يشبه الحكواتي الشعبيّ وبطل واحد هو الجسد، معوّقاً ومممزّقاً وتائهاً. جسد الإنسان، رجلاً أو امرأة، جسد الوطن، لا فرق، فالحرب اللبنانيّة التي تشكّل المناخ العامّ للمجموعة وحّدت الجسدين قبل أن يتشظيّا معاً أشلاء تثير الشفقة.

حين فتحت الكتاب (بيسان للنشر)، طلعت باستنتاج مفاده أنّ جاد الحاج ينبش من ذاكرته حكايات ومشاهد، ثمّ يكتبها بأكثر من طريقة وأسلوب، وأغلب الظنّ أنّها لن تفارقه ولو خيّل إليه أنّه ارتاح منها، وقد نراها في أساليب تعبيريّة أخرى، لا لعجزه عن رؤية غيرها بل لأنّها صارت من صلب ذاكرته المعبّأة بحكايات الحرب والنفي والترحال. ألم يكن في الإمكان الاستغناء عن هذه الصور الصغيرة الغارقة في العتمة؟ بلى، غير أنّها نجحت في الإيحاء بالغموض وذكّرتني بحكاية طفلة أعرفها رسمت لوحة جميلة عن عيد ميلادها ثمّ لوّنتها بالأسود. وبعدما عجزت المعلّمة ووالدا الطفلة عن تفسير الحالة النفسيّة للصغيرة التي تبدو في أحسن حالاتها، سألوها عن معنى اللون الأسود، فأجابت وهي تعقد حاجبيها مستنكرة جهل السائلين: ألم نحتفل بعيد ميلادي في الليل؟
من الحكاية الأولى (الصداقة العاطفيّة) يفضح جاد الحاج العلاقة القائمة بين اللغة والجسد، أو بين لغة الجسد التي يحسن وضع النقاط فوق حروفها وجسد اللغة الذي يجيد مداعبته والتفنّن في ترويضه. وحين «تتفلسف» المرأة باحثة عن أعذار غير منطقيّة لتبرير علاقة حبّ تبقي على الملابس كلّها أثناء اللقاء الحميم، نحدس بخلل ما، ولكنّ تفكيرنا يتّجه تلقائيًّا نحو الممنوعات الأخلاقيّة، ثمّ نكتشف أنّ المرأة مصابة بتشوّه في خاصرتها بسبب تعرّضها للاحتراق، ما جعلها ترفض أن يرى الرجل «عيبها». ولم يتغيّر قرارها بعد مرور سبع سنوات على العلاقة، فهي ولو أنّها خلعت ملابسها ومارست الحبّ ستبقي المنطقة المحروقة من جسمها أرضاً محرّمة على النظر واللمس. المرأة في الحكاية الأولى، وهي عراقيّة (للعراق اسم آخر هو أرض السواد)، تصير تيروب العاصمة المتفحّمة (بيروت بعد قلب الأحرف) في الحكاية الثلاثين: «عذراء الصخور»، وهو اسم لوحة لليوناردو دا فينشي لا يرد ذكرها في النصّ. والفنّان الإيطالي رسم اللوحة مرّتين: الأولى (1483 - 1485) وهي موجودة في متحف اللوفر، والثانية (1490 - 1506) موجودة في المتحف الوطني البريطانيّ. وكلتاهما تمثّل العذراء مريم شاهدة على لقاء السيّد المسيح (العهد الجديد) بيوحنا المعمدان (العهد القديم) وهما طفلان. في حكاية جاد الحاج التي كانت عنواناً لمجموعة سابقة نشرها في أستراليا عام 1989، عذراء الصخور التي يحرسها ثعبان أسود (مريم العذراء في التقليد المسيحيّ تدوس على الأفعى رمز الخطيئة) تخلّص العاصمة من مصيرها الأسود، وتعيد النار إلى المشاعل التي تضيء ولا تحرق: خاتمة توحي بالرجاء بعد ثلاثين قصّة أكثر من نصفها عن الحرب اللبنانيّة وتداعياتها على اللبنانيّين في الوطن والمهجر.
يضع الحاج حالات الجسد تحت عنوان رئيس هو: الجسد العاجز، وعلى الهامش هناك الجسد الآلة والجسد الأثيريّ. فالأوّل هشّ ومحروق ومريض ومعذّب ومغتَصب، وهو الأكثر شيوعاً وانتشاراً في الحكايات نتيجة الحروب وشراسة الإنسان وشراهته للأكل أو الجنس أو القتل، والثاني يتماهى والآلة، أو كأنّه مخلوق فضائيّ يحاول ألّا ينزلق إلى مستوى الإنسان. أمّا الثالث فهو المنزّه عن دنس الجسد الماديّ والباحث عن خلاصه في الحبّ. وفي الحالات كلّها لا تغيب عين الكاتب عن ملاحقة شتّى أنواع العلاقات التي يقيمها الإنسان مع جسده أو مع جسد الآخر، راغباً فيه أو راغباً عنه. فالحروق في جسد المرأة العراقيّة كما أسلفنا حاجز بين المرأة وحبيبها بعدما كانت السبب في طلاقها من زوجها، وهناك وكيل مستحضرات إذابة المسامير من الأقدام يقول للمرأة عن قدميها: رائحتهما طيّبة، والوالد الذي يخبّئ مقتل ولده عن زوجته لأنّ الشاب مات في انفجار لغم ولم يبق منه شيء ليدفن، والرجل العائد من السجن السوريّ صار أشبه بكيس البطاطا المدهوس بعدما كان بطل الحيّ، والبهلوان الذي يمسّد جسمه بين الإثارة والتدليك، والمهاجر الذي لم يجد عملاً سوى تحبيل عاقرات أستراليا بالتبرّع لهنّ بخصوبته... وإلى سائر الحالات التي تفضح الإنسان فكأن لا الرجولة رجولة ولا الأنوثة أنوثة. وحين يريد الحاج لأبطال قصصه أن يعيشوا حياة «طبيعيّة» لا يجد لهم وسيلة إلّا في جعلهم آلات تشعر مع الناس وتتعاطف مع آلامهم (الروبوت في قصّة سويسرا) أو وصلهم بآلة تضخّ فيهم الرغبة والنشوة (قصّة ريكونيكت reconnect)، أو في تجريدهم من صفات بشريّة قد تكون سبب بؤسهم.
هل يكثر الكاتب من التشابيه حين يجد أنّ الكلمات المباشرة أعجز من أن تعطي المشهد حقّه؟ هل التشبيه هو اللغة البدائيّة الأولى التي تلائم بدائيّة حضاريّة لا يزال الإنسان يخبط فيها على رغم كلّ التطوّر والتمدّن؟ بعض التشابيه الذي يرد في سياق القصص يأتي عفوياً كأنّه من طبيعة الكلام أو لكونه صار تقليدياً: الدرب تلتفّ وتتلوّى كثعبان يناوش قدميك، ثلاثون سنة معاً كأخوين كاللحم على الظفر، مشيت كالأعشى. ولكنّ الكثير منها يأتي مفاجئاً وغريباً يجمع بين مشبّه ومشبّه به ينتميان إلى عالمين لا يخطر لغير الشاعر احتمال ربطهما في صورة واحدة : وجدنا الجسر منسوفاً، هلالان مفتوحان على فراغ، الهواء الصافي يتسلّل معنا كشريك خفيّ، شعرت بغربة مزعجة كأنّني متسلّل إلى أرض العدو، الخادمات يزعقن كالدجاج المذعور، يفتح أندرو خزانته كأنّه يزيل الستارة عن يوم مشمس، صوته مبحوح كأنّه يتكلّم من حنجرة مخدوشة، يتلوّى كأنّه راقصة كباريه، البيوت مقلّمة مثل أظافر عارضات الأزياء، فردتا حذائي ديكان تنافرتا وهمدتا قرب قميصي المكوّم كخيمة «قفا نبك»، كان الهواء خادشاً كذؤابات السنابل. ويأتي التشبيه أحياناً كحبة مطر عالقة على طرف ورقة خضراء يثير من الرؤى ما يفوق الرؤية، ومرّات يأتي هاطلاً في عاصفة من الصور المتلاحقة: تجمّعوا (الناس) كأوتاد يابسة، كأشجار محترقة، كخراف ممرّغة بالوحل، كطالعين من قبور، كمفزوعين أمام كسوف، كمصابين بنيزك، كمن شرذمهم طوفان، كإخوة في البرص.
بعض القصص القصيرة تفاصيل من لوحة جداريّة واحدة، تشكّل مجتمعة ما قد يظنّه الناظر مشهداً واحداً، غير أنّ الرائي، كجاد الحاج، يعرف أنّ شيطان الشعر يكمن في التفاصيل، وأنّ الحكواتي البارع هو الذي يدفعنا لطلب الحكاية ليلة بعد ليلة، بحثاً عن المخيف والغريب والمثير، وصولاً إلى نهاية سعيدة تهدهد نعاسنا وتعدنا بنوم آمن على رجاء القيامة، قيامة الأوطان وخلاص الإنسان.


1- الجهل العربيّ بطل تصعب هزيمته (الشجرة لبعدالله محمّد الناصر)


صحيفة الحياة - 12 أيّار 2011
في عشرين نصّاً، لكلّ منها نكهته وأسلوبه، يرصد الكاتب السعوديّ عبدالله محمّد الناصر، ملامح الجهل في المجتمع العربيّ. والنصوص هذه تضمنتها مجموعته القصصيّة «الشجرة»، (دار رياض الريّس). قد لا يكون للنصوص كلّها المناخ القصصيّ المتعارف عليه عموماً، ولعلّ بعضها يميل نحو المقالة الساخرة، غير أنّ ذلك لا يعني أنّها لا تشكّل مجتمعة مشاهد متلاحقة من يوميّات بيئة واحدة، يسيطر فيها بطل واحد لم يستطع أحد بعد أن يهزمه هو الجهل. فأيّاً يكن الجانب الحياتيّ أو الاجتماعيّ أو السياسيّ الذي يوجّه الكاتب الضوء الكاشف في اتّجاهه، فلن يقع نظرنا إلاّ على فشل ذريع وخيبة مريرة سببهما جهلُ أُولي الأمر بالمسؤوليّات الملقاة على أكتافهم، أكانت تلك المسؤوليّات محصورة في العائلة أم تتوسّع لتطاول المجتمع كلّه. فما من أقصوصة من أقاصيص المجموعة إلاّ وفيها عجز عن التفكير والتحليل والاستنتاج والتصرّف بمقتضى الحال، كأنّ شخوص المجموعة كلّهم يخبطون خبط عشواء ولا يعرفون ماذا يفعلون.

ففي التخطيط الحربيّ («قصّة العرّاب») عجز عن التصنيع، وفشل في استعمال السلاح؛ وفي الثقافة («قصّة الأغربة») سيطرة للفساد والثرثرة والمحسوبيّات؛ وفي الزراعة استسلام كليّ لتغيّرات الطبيعة من دون أيّة محاولة للمواجهة أو المقاومة أو العمل؛ وفي الطبّ («قصّة الأفاعي») ادّعاءات وأخطاء يتمّ التعتيم عليها وطمسها مهما بلغ عدد الضحايا؛ وفي الشأن الوطنيّ («قصّة داود») تعامٍ عن رؤية العدوّ وانسياق أعمى خلف مؤامرته؛ وفي الزواج («قصّة القنفذ») تعايش لا أسس سليمة له وانتظار سلبيّ لخلاص عجائبيّ. وهكذا تتوالى مشاهد الجهل، إن على الصعيد الفرديّ أو على الصعيد العامّ. ففي قصّة «الشجرة»، التي تحمل المجموعة اسمها، نرى سوء التخطيط وفساد العمل الإداريّ، وفي «السهرة المشؤومة» يطالعنا صراع الطبقات حيث «ينعم أخو الجهالة بجهله» وثرائه، ولا يستمتع أخو الفكر بعقله في مجتمع لا يعطي المثقّفين أيّة أهميّة. أمّا القضيّة التي تستأثر باهتمام الكاتب وتشغل باله، فهي الشأن التربويّ. وهذا أمر طبيعيّ إن اعتبرنا أنّ محور الرواية هو الجهل الذي يضرب عميقاً في جذور مجتمعاتنا العربيّة. فنحن، في أكثر من أقصوصة («مدرسة الحمير»، «الإصبع»، «البرّ»، «عويس الخامس عشر»)، أمام نماذج تفضح غياب السياسة التربويّة، ما يترك المجال واسعاً لدخلاء عن عالم التعليم يمارسون فيه أمراضهم وجهلهم. وحين نرى بادرة عرفان جميل من تلميذ تجاه معلّم، لا يفاجئنا أن تكون مبادرة فرديّة تؤكّد فشل هذا القطاع الحيويّ في رفع شأن الناس، حيث المعلّمون الجاهلون يظلِمون والتلامذة المساكين يعانون ويضيعون. ولأنّ واقع التربية على هذه الحال، يصير من الطبيعيّ أن تُحاكم «ليلى» ووالداها بتهمة قتل «قيس» («قصّة ليلى الإرهابيّة»)، وأن يفرّق بين الزوج وزوجته («قصّة السكتة «القَبَليّة»)، وأن تكون الخطب السياسيّة مجرّد لغو فارغ («قصّة الخطيب») وأن تُساء معاملة الموظّفين والعمّال («قصّة السيّد»).
يحاذر عبدالله الناصر في هذه المجموعة أن يُلزم لغته بالسخرية كهدف بذاته، بل يتوسّلها أسلوباً متى ارتفعت عنده نسبة الرفض للحال المزرية التي يغرق فيها المجتمع، كأنّي به يريد بها التخفيف عن نفسه لا عن القارئ. وهي، أي السخرية، تغيب متى انتفت الحاجة إليها، ليترك الكاتب لنفسه فسحة شاعريّة تعبّر عن الألم كما هو، خصوصاً عندما يكون الكلام على الأولاد في كونهم الضحايا أو الحبّ في كونه المنقذ الوحيد من عتمة هذا العالم («قصّة ينبوع النور»). وهو في الحالين، ينجح في الوصول إلى لغة تلائم المضمون من دون أن تجنح نحو الوعظ والإرشاد، وتعبّر عن تأمّله في العلاقة الجدليّة بين الكلمات ومعانيها وجرْسها، وكذلك عن تنويع جُمله بين خبريّة وإنشائيّة وفق مقتضى الحال. حتّى أنّه يميل إلى التلاعب بهذه اللغة كما فعل في عنوان أقصوصة «هلقم» التي إن نقلنا حرف الكلمة الأوّل «الهاء» إلى الآخر تكوّنت لدينا كلمة «لقمه» وهي «مفتاح البطن» حين يكون موضوع الأقصوصة هو الأكل؛ أو في لجوئه إلى سلسلة تساؤلات تنمّ عن التوتّر النفسيّ حين يصل الأمر إلى موضوع المال، وذلك في أقصوصة «العملة».
هذه المجموعة القصصيّة هي الرابعة التي قرأتها للكاتب السعوديّ الناصر، بعد «سيرة نعل» و «أشباح السراب» و «حصار الثلج». ومن الواضح أنّ الانطباع لم يتغيّر، لا لأنّ عبدالله الناصر لم يرصد المستجدّات، بل لأنّ أوضاعنا، لولا بعض التماعات فرديّة، تمدّنا بجرعات حياة لا تزال تنحدر من درك سيّئ إلى درك أسوأ (المجموعة صدرت قبل اندلاع الثورات العربيّة). واللافت أنّ غلاف «حصار الثلج» الذي صمّمه الكاتب يصوّر شجرة يلفّها الصقيع ويحوّل العصافير على أغصانها العارية تماثيل بيضاء، وغلاف «الشجرة» (اللوحة للفنّان فهد الربيق) يمثّل شجرة عتيقة تحوّل جذعها سجناً قبل أن يصير مدفناً.




مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.