لا أذكر أنّني أقحمت الله
في مسألة شلل الأطفال مذ تفتّح وعيي على واقع الأمر، فلا ألقيت اللوم عليه أو جعلته
السبب في ما أصابني، ولا طلبت منه "عجيبة شفاء" على الرغم من الزيارات
الكثيرة التي قامت بها العائلة، على شرفي، إلى الكنائس والأديرة ومزارات
القدّيسين. وأذكر أنّ إحدى عمّاتي اصطحبتني مرّة إلى منطقة النبعة، حيث قيل إنّ القدّيس
شربل جعل التراب يرشح زيتًا، وحين غادرنا المكان سألتني إن كنت صلّيت بحرارة طالبة
شفائي، فأومأت برأسي أن نعم فعلت، لكنّي لم أصارحها بأنّني طلبت ألّا يتساقط شعري
الأسود الطويل. كنت أحبّ شعري، ولكن كلّما طال قليلًا وصار يستحقّ أن أتباهى به،
أجبر على قصّه كي يسهل على والدتي غسله وأنا مسمّرة أكثر الوقت في السرير. وكان شعري في تلك المرحلة من عمري أهمّ من مسألة شفاء رجلي، ولأنّني كنت، وما زلت، أضع علامات
استفهام كبيرة حول مسألة الأعاجيب والمعجزات. وحين تبيّن أنّ المكان في النبعة كان
معملًا للشمع، ما جعل التراب مشبعًا بالزيوت، قلت: منيح ما صلّيت ع الفاضي.
أكثر الناس اليوم يعتبرون
الكورونا غضبًا إلهيًّا، حتّى في الصلاة التي تصل أصداؤها إليّ من غرفة الجلوس،
أسمع: إرحم يا رب إرحم شعبك ولا تسخط علينا إلى الأبد... فأسأل نفسي ما الفرق بين
إيمان أمّي البسيط والعفويّ وإيمان البطريرك المارونيّ الذي يرأس الصلاة كلّ ليلة
من أجل الخلاص من الوباء، ولماذا لا يزال الله ساخطًا مع أنّنا صرنا في
"العهد الجديد"؟
قد يتساءل البعض عن هذه
الأهميّة التي أعطيها لشلل الأطفال وقد مضت على إصابتي به ستّة عقود، وفي العالم
أمراض وأوبئة وإعاقات لا تُعدّ ولا تُحصى. محقّون في تساؤلهم، لكنّ شلل الأطفال
نفسه، وفي لبنان تحديدًا، لا ذكر له في أدبياتنا ومراجعنا الطبيّة. ولعلّ قصّة
"الصبيّ الأعرج" لتوفيق يوسف عوّاد، الوحيدة التي تشير إلى هذه الإعاقة،
في معالجة أراها تجنح إلى الكثير من العنف والقسوة إن نحو الأعرج أو في تصرّفاته. ويوم
نشرت في جريدة النهار نصًّا بعنوان "عرجاء... ولكن" (العنوان مستوحى من
الفيلم المصريّ "عذراء ولكن")، استغرب الأصدقاء تطرّقي إلى المسألة، ولم
يفهموا أسباب رغبتي في ردّ الاعتبار إلى العَرج الذي لا يحلو لمعلّم قواعد اللغة
إلّا أن يعطيه مثلًا حين يشرح درس أفعل التفضيل، وكيف يصاغ، فيضعه في خانة العيب
حين يقول أعرج/ عرجاء... فيلتفت إليّ بعض التلامذة!
وعند البحث عن هذا الوباء
وضحاياه عبر شبكة الإنترنت لا نجد ما يستحقّ الذكر عن تلك المرحلة، لكن هناك إشارة
إلى طابع بريديّ صدر عام 2017 في مناسبة خلو لبنان من الشلل للعام الرابع عشر على
التوالي، ما يعني أنّ الشلل بقي إلى عهد قريب ينال من الأطفال. فلماذا حُيّد عن
الرواية والشعر والتأريخ؟ ففي مقالة للشاعر والناقد عبده وازن في الأندبنت العربيّة،
تحمل عنوان "الأوبئة تجتاح الرواية"، نجد الطاعون والكوليرا والعمى
والإيدز وكورونا، ولا نجد شيئًا عن الشلل.
عهدذاك، لم تكن وسائل
الإعلام والتواصل متاحة كما اليوم ولم يكن ثمّ وقت للحديث عن الأمراض، ولم تكن
تسمية "ذوو الاحتياجات الخاصّة" قد استحدثت، وكان العَرج علامة فارقة،
لكنّي كنت صاحبة وجه جميل وذكاء لا بأس به، ما علّمني كيف أجعل موضوعًا كانتعال
حذاء أنيق ذي كعب عالٍ أمرًا غير ذي أهميّة في لوحة المرأة التي رسمتها بنفسي لنفسي،
ولوّنتها بتجاربي مع الناس.
هذه المرأة هي التي تكتب
الآن الجزء الأخير من ثلاثيّة الستّين، وتودّع جزءًا بسيطًا من قصصها الشخصيّة مع شلل الأطفال لتنظر
بأسى إلى عالم مشلول عاجز عن إيجاد علاج للسرطان والعمى والشلل والصَّمم والبكم
والباركنسون والإلزهايمر والفشل الكلويّ والتصلّب اللويحيّ والإيدز والسارس
والكورونا والأمراض النفسيّة والعقليّة والتشوّهات الخلقيّة... عالَم عاجز عن
الحبّ: أساء إلى الطبيعة، وقتَل الحيوانات لمجرّد الهواية والمتعة، ولوّث الماء
والهواء والتراب...
هذه المرأة هي التي تكتب
الليلة، بالنيابة عن جميع المتألّمين الموجوعين والوحيدين المتروكين والمخطوفين المعذَّبين،
تحتفل بعيدها الستّين برفقة الكلمات التي ما خذلتها يومًا، وتقول كما في كلّ سنة: لا
يعنيني يا سنة جديدة ماذا ستحملين لي، بل أخبرك ماذا أحمل لك أنا: سأكون
أكثر جنونًا وعنادًا وثورة وشغفًا ممّا كنت عليه/ سأكون أكثر تطلّبًا في
العشق، وأكثر رفضًا للظلم والغباء والجبن، وأكثر إصرارًا على إحداث فرق/ سأكتب
أكثر وأضحك أكثر وأبكي أكثر لأنّني في كلّ ما أفعل لن أكون إلّا أنا / كوني كما
تريدين أن تكوني يا سنة جديدة / وأنا سأكون كما أريد أن أكون، مالكة كلماتي، رافضة
ما لا ينصاع له فكري، متمسّكة بحريّتي في أن أقول نعم أو لا، وحيدة وحيدة وحيدة
كالشمس والقمر ونجمة الصبح!
هذه المرأة هي التي تكتب
الليلة: تستحضر وجوه الرجال الذين عبروا ويعبرون، تبتسم لهم في حنان، تشكرهم على
قصص الحبّ التي أوحوا ويوحون لها بها، تعذر مخاوفهم الموروثة، وتعتذر عن جنونها حين
تُقدِم، وعن جرأتها حين لا تلتفت إلى الوراء، وعن غضبها حين تصبّه عليهم حممًا
لأنّهم لا يشبهون صاحب القميص الأزرق، ولا يشبهون الكلمة، ولا يشبهون الكتابة، ولا
يشبهون الأشجار وعشب الحقل...
هذه المرأة التي يظنّ كثر أنّهم يعرفونها - وهم مخطئون- هي التي تكتب...
هذه المرأة التي اعتقد كثيرون أنّهم خدعوها - وهم مخطئون - هي التي تكتب...
هذه المرأة التي تحبّ أن تُخضع الناس لاختبارات صعبة تعرف أنّهم لن ينجحوا فيها هي التي تكتب الآن،
هذه المرأة التي تتنفّس
برئة هي الكتابة والصمت ورئة هي الحبّ هي التي تكتب الآن لتشكر الحياة والألم
ورِجلها المشلولة العنيدة، ورِجلها السليمة التي تحمّلت معها الكثير، ثمّ تجلس
لتراقب وطنها وهو يتعثّر في مشيته، وتشاهد العالم وهو يحاول أن يقف على رجلين
اثنتين سليمتين...