القرنة السوداء - لبنان |
في خلال الحرب
اللبنانيّة (الأهليّة أو حروب الآخرين...) ارتبط اسم سعيد عقل بحرّاس الأرز، وعند
وفاته، حصرت مقالاتٌ كثيرة الحديث عنه بمواقفه السياسيّة من الفلسطينيّين وإسرائيل،
ونزعت عنه صفة الشعر.
فهل سعيد عقل شاعر أم خائن؟
في ذكرى أربعين الرئيس
حافظ الأسد عام 2000 ألقى الشاعر جوزف حرب قصيدة عُرفت باسم النشيد الدمشقي
ومطلعها: بالأسود اتّشحتْ من بعدك المقل/ وما الكلام؟ عصت أقلامَها الجُمَلُ
إلى أن يقول: قلّ
الرجالُ إلى حدّ لغيرك ما/
أشرتُ يومًا إذا ناديتُ يا رجلُ!
فهل كان جوزف حرب عميلًا للسورييّين؟
وفي عام 2010، نال
الشاعر شوقي بزيع جائزة قدرها ثمانون ألف دولار، وبُردة من الحرير والذهب، وذلك في
مهرجان سوق عكاظ الشعريّ في السعودية، عن قصيدته "مرثيّة الغبار". وأوضح مصمّم البردة يحيى
البشري أنّها خيطت من قماش الحرير والكريب، كما طرزت بنحو 3 كيلوغرامات من القصب
الذهبي، وزيّنت بزخارف لكلمات متناثرة رسمت عليها عبارة سوق عكاظ، إضافة إلى مزيج
مما قدمه الشاعر، حيث تم رسمها بالخط العربي الحر، بينما كانت الزخرفة العامة
للبردة عربية مستوحاة من منطقة الحجاز، وبلغ مجموع ما استخدم من الأقمشة 8 مترات.
فهل
ميّز شوقي بزيع بين راعي المهرجان الأمير الشاعر خالد الفيصل والنظام السعوديّ
الوهّابي؟
وفي العام 2019، ألقى
الشاعر طلال حيدر قصيدة مدح فيها العاهل السعوديّ ووليّ عهده، في مناسبة العيد
الوطنيّ للمملكة العربيّة السعوديّة، الذي احتُفل به في المتحف الوطنيّ اللبنانيّ.
فعاد كثر إلى ينابيع شعره ورموا فيها حجارة التشكيك.
فهل طلال حيدر شاعر أم
لا؟
وهناك الياس خوري وحركة
فتح، وزياد الرحباني والحزب الشيوعيّ، وحبيب يونس والتيّار الوطنيّ الحرّ، وجوليا
بطرس والمقاومة، وماجدة الرومي و14 آذار، وموريس عوّاد واليمين اللبنانيّ، وكثر لا
مجال لحصرهم من الذين ارتبط شعرهم بمواقف سياسية، بعضها صادق واضح، وأكثرها هادف
مقصود...
هذا في العلن...
أمّا في السرّ،
فثمّة شاعر "مقاوم"
(ومترجم وناقد وصحافيّ) يستدين مبلغ خمسة ملايين ليرة لبنانيّة ليخرج والدته من
المستشفى، لأنّ شقيقه المحامي الثريّ يرفض المساعدة، والصحيفة لا تدفع له راتبه...
ثمّ يتبيّن أنّ الوالدة في البيت، وأنّ الشاعر سافر إلى قبرص ليرتبط مدنيًّا
بصديقته الإعلاميّة.
وثمّة كاتب "ثائر"
يحتال على الناس بحجّة مرض السرطان وضعف عضلة القلب واضطهاد الإخوة، فيجمع المال من
هنا وهناك، ثمّ يكتب عن رجال الدين المحتالين النصّابين.
وثمّة شاعر
"وطنيّ" يحصّل لقمة عيشه من تحبير الخطب لسياسيّين من أحزاب متناحرة،
وحين يكتب شعرًا تكون الحريّة حوريّته والسيادة أميرةَ أحلامه والاستقلال حلمَه
المنشود.
وهناك شاعر يخشى زوجته
ويكتب عن الشجاعة، وشاعرة تريد تحرير الوطن في حين يوجعها أنّ الشيب طال شعر
عانتها، وصحافيّ يقبض من إيران ويهاجم أذناب الخليج، وشاعر يهاجم شاعرًا لأنّ هذا
الشاعر يهاجم شاعرًا آخر هو صديق الشاعر الأوّل...
أين النقد من كلّ ذلك؟ ومن
يحسم في مسألة الحريّة والوطنيّة والإبداع؟ وكيف نفصل كلّ ذلك عن انتماءات الطائفة
والسياسة والحاجة الماديّة والرغبة في الظهور؟ وكيف ننظر إلى جوائز عربيّة يمنحها سلاطين وملوك وأمراء عرب يتغاضون عمّا يجري في اليمن؟
فلنأخذ مثلًا ما كُتب عن
سيمون أسمر غداة رحيله. فبمعزل عن التقديس والتدنيس، غاب عن كثر من الناقدين
والمنتقدين أنّ تجربة الأسمر تزامنت مع الحرب اللبنانيّة التي اختلط فيها حابل
الإبداع بنابل التجارة، وبيعت في خلالها الدماء البريئة والقضايا المصيريّة،
وبالتالي لا يمكن عزلها عن تأثيرات الانحدار الذي سحب كلّ ما في البلد نحو مصير
قاتم. كما غاب عنهم أنّ اتّهام الاسمر بإفساد الذوق الفنيّ العام هو اتّهام تصل
نصاله إلى زكي ناصيف وروميو وبابو لحّود ووليد غلميه وناهدة فضلي الدجّاني وصونيا
بيروتي ونضال الأشقر وغيرهم وغيرهم من الذين كانوا في عداد لجان التحكيم. فضلًا عن
أنّ اتّهامه بأنّه أبعد عددًا من الموهوبين ما أدّى إلى انطفاء نجم بروزهم دليل
على أنّ هؤلاء "المغيّبين" فشلوا في إثبات وجودهم من دون راع ومدير أعمال.
من دون أن ننسى أنّ مدراء الأعمال حاجة صارت تفرضها الحاجة إلى صناعة النجوم وتسويقها
في عالم يفرز يوميًّا آلاف الوجوه والأسماء والأجسام (عارضات الأزياء مثلًا)، وهذا
ما تقوم عليه صناعة السينما والأغنية إليه في دول الغرب.
أمام سلسلة المقالات
والتغريدات والبوستات التي اجتاحت فضاء "حريّتنا"، عند وفاة سيمون أسمر
وإعلان "وفاة" طلال حيدر الشعريّة، بدا اجتياح القرنة السوداء، وجرف
الأشجار والغابات أمام سدّ بسري، وارتفاع جبال النفايات، مشاهد طبيعيّة تمرّ عابرة، كأنّ
هذا الوطن المنتحر يكتب ورقة نعيه بيد غير راجفة أو متردّدة.
ما أبرعنا في الرجم وما
أسرعنا في النسيان، حتّى أنّنا نتغنّى بحريّة الصحافة ونتناسى أموال العراق وليبيا
وسوريا وأميركا والمنظّمات الفلسطينيّة والسعوديّة والخليج وإيران، أموال حين أُقفلت
منابعها أو شحّت احتجبت صحف وأقفلت دور نشر وجاع شعراء. ونحتفل بأعراس أولاد
الزعماء ونتعامى عن أدوار أهليهم في السياسة، وننبهر بنجمات هوليود يرتدين فساتين
بتواقيع مصمّمين لبنانيّين ونجهل أنّ وزارة التصميم التي أنشئت عام 1954، عهد
الرئيس كميل شمعون، ألغيت عام 1977 لصالح مجلس الإنماء والإعمار!!!
هناك تعليق واحد:
الشاعر هو لسان الوجدان والعاطفة...هو عاصفة لا يممن حصرها ووضع قيود لها...محاصرة ومراقبة كلام الشاعر تحطمه وتقضي على وجود الشعراء في بلادي...اتركوهم ينطلقوا ويرفعونا للاعالي في الخيال والتألق
إرسال تعليق