أنا والزميل فوزي سعادة في خلال استقبال فريق الحكمة لكرة السلّة عام 1998 |
هو
نوّار، موسم الرحلات المدرسيّة!
هو
نوّار، الشهر المريميّ الذي فيه ولدتُ!
هو
نوّار، وسيّد الرحلات المدرسيّة الصاخبة، رحل بصمت وهدوء!
هو
نوّار، والزميل الذي كان يفاجئني في كلّ رحلة باحتفال لعيد ميلادي، ولمّا بهت زمن
الرحلات، بمعايدة هاتفيّة ما تأخّرت يومًا عن موعدها، هذا الزميل، يطفئ شمعة
الحياة هنا، ليضيء لنا الطريق إلى هناك!
غابت
وجوه كثيرة التقيت بها في الحكمة برازيليا: المونسنيور لويس الحلو، الخوراسقف
مرسيل الحلو، الأخوان طعمة ونهاد بو جبرايل، الدكتور سليم قهوجي، يولاند عون، نيكول
حاتم، وغيرهم من المربّين، فضلًا عن تلامذة في مقتبل الحياة، انقصفت أغصان حيواتهم
قبل أن تعطي ثمارها الواعدة.
لكنّ
غيابَ فوزي سعادة وجع من نوع آخر، هو غياب الضحكة الهازجة والسخاء الصامت، هو غياب
الألوان عن صور رحلات ورحلات في بقاع لبنان وجباله وسهوله، هو اعتراف بهزيمة المرتفعات
أمام الكسّارات، والأنهر أمام أنابيب الصرف الصحيّ، والأشجار أمام النفايات،
والنقاء أمام التلوّث...
أحبّ
فوزي تلامذته، وهم أحبّوه. والجميل أنّه لم يحبب أحدًا كما أحبّ أهله وزوجته وأولاده
وأحفاده وبلدته، وكنت أسأل نفسي مذ عرفته عن سرّ هذا المخزون من العاطفة يغدقها
على من حوله ولا يحرم أحدًا من صدقها وسموّها ومجّانيتها.
وأحبّ
فوزي التعليم، لكنه لم يكن المعلّم التقليديّ الجامد الملقّن، بل حوّل التاريخ
جلسة حوار، والجغرافيه مشهديّة رائعة، والتربية نمط حياة راقٍ.
وأحبّ
فوزي لبنان، فدرّس تاريخه وجغرافيّته بكلمات العاشق لا بمصطلحات المعلّم، لذلك كانت
الرحلات التثقيفيّة الترفيهيّة وسيلة لتقريب الأرض من التلامذة، ولغرس التلامذة في
الأرض، ولفهم التاريخ فهمًا واعيًا ناقدًا، ما جعلنا نحن المعلّمين الذين كنا
نرافقه نستفيد، كما التلامذة، من دروسه في التاريخ والجغرافية والتربية. وستبقى
قلاع لبنان وآثاره ومعالمه السياحيّة والدينيّة شاهدة على أنّ في التربية، كما في
الفكر والفلسفة والأدب والعلم والسياسة، كبارًا من طراز فوزي سعادة، وعظماء من
طينته.
وهل
الكِبر والعظمة سوى المحبّة التي من دونها نحن "صنوج ترنّ"؟ فكيف إذا
اقترنت محبّة هذا المربّي بالعلم والمعرفة؟
أبكيتني
يا فوزي! أبكيتني على لبنان الذي أحببناه وأردنا أن يحبّه تلامذتنا! على تراثه
وأرضه وهما مهدّدان في كلّ لحظة، على تاريخه المغيّب، وجغرافيّته الشوهاء، ودروس
تربية لن تعلق في ذهن تلامذة يسمعون عن الفساد ما يجعلهم يكفرون بالبلد.
لكنّي
أراك، من خلال ضباب الدمع، ترشد سائق الحافلة إلى درب السماء وتضحك، تضحك كثيرًا
لأنّك ترى الآن ما لم تره عين، وتسمع ما لم تسمعه أذن، ولأنّك في رحلة يخيّل إلينا
نحن البشر أنّها الأخيرة.
لكنّك
عرفت مذ انطلقت في رحلتك هذه أنّ السماء لا تعرف رقمًا ولا عددًا، وأن لا خاتمة
لأفراحها الكثيرة و"رحلاتها" السعيدة!
لقد
علّمت التاريخ يا صديقي وها أنت تدخله من باب الشرف، ودرّست جغرافيا الأرض فصار من
حقّك أن تكتشف السماء، وشرحت أمثولات التربية الوطنيّة، فكنت مثال المربّي الوطنيّ
الصالح!
لست
خائفة عليك يا صديقي فأنت في أمان الله! بل على مستقبل لبنان، فصلِّ من أجله!
ولست
قلقة على عائلتك وقد زرعتَ فيها إيمانًا ورجاء وعلمًا وشجاعة، بل علينا جميعًا في
هذا الوطن المظلوم، فادعُ له ولنا بالسلام والطمأنينة!
ولترافقك
في رحلتك، وحيدًا (للمرّة الأولى) نحو الْهناك، أغنيات رحلاتنا ووجوه تلامذتنا،
فلا تشعر بهباء التعليم وعقوقِه، ولتصحبك ضحكات أولادك وأحفادك فتطمئنّ إلى جهادك
الحسن، واذكرني حين تجلس إلى طاولتك العامرة في مطعم السماء، رافعًا كأسك البيضاء!
في رحلة إلى إهدن - 1993 |
في الحكمة برازيليا - 1994 |
في رحلة إلى شليفا - 1993 |
فوزي سعادة ووالده ووحيده ألكسندر |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق