أنت
لا تذهب إلى مسرحيّة لكميل سلامة، لترى كم هي جميلة من الناحية الفنيّة، بل لتكتشف
إلى أيّ حدّ هي جميلة؛ ولا تقصد مشاهدتها لتداوي جراح نفسك، بل لتنكأ جراحًا
التأمت على قيحها، ولا تخرج منها إلى الشارع وأنت تملك أجوبة في جيبك، بل وأنت
معلّق من رأسك الذي يؤلمك بعلامة استفهام كبيرة فوق صفحة وجودك في وطن اسمه لبنان
وفي كتاب الحياة التي يشبّهها بطل المسرحيّة بالحفاض.
***
64
هو
عمر التقاعد في لبنان. يوقّع الموظّف عند بلوغ هذه السنّ على ورقة تفيد بأنّه قد
نال حقوقه. والسؤال الذي نطرحه نحن الذين اقتربنا ونقترب من هذه المرحلة: ما هي
هذه الحقوق التي نلناها؟
***
غبار
كيف
يثور شعب يجد للغبار مكانًا في تعابيره اليوميّة: غبرة رضاك، غبرة صبّاطك، غبرة
الحرب، بنفضو متل الغبرة؟ وهل تصلح خرقة القماش (بطلة المسرحيّة) التي يمسح بها
راضي (بطل المسرحيّة) الغبار عن أثاث قاعة المحكمة أن تكون راية يرفعها الثائرون
إن ثاروا؟
***
راضي
راضي
رضي بالهمّ، والهمّ لم يرضَ به. هو نحن، بفقرنا، بصمتنا، بتخاذلنا، بخوفنا من
خسارة ما نملكه إن قلنا لا، ونحن في الحقيقة لا نملك شيئًا.
***
حفاض
حياة
راضي مشدودة بين حفاضه طفلًا وحفاض أبيه العاجز في دار العجزة. بل هي حياة كلّ
منّا، يلتصق بنا خراؤنا فننتظر من ينظّف لنا مؤخّراتنا/ خصوصًا حين تكون مدّخراتنا
قطعة قماش لمسح الغبار؟
***
جيل الحرب
المسرحيّة
تديننا، نحن الذين ولدنا عشيّة الحرب، لأنّنا سكتنا: عن الظلم والقتل والقصف
والفساد والفقر والتجارة بالأطفال والتفكّك العائليّ... وإن لم يكن لنا حيلة في
اختيار أسمائنا وأهلنا وطائفتنا، فلماذا عجزنا عن عدم الانجراف خلف الصمت فلم نثر
على أمراء حروبنا الصغيرة ولم ننتفض على الذين جرّونا إلى أتون مصالحهم، ولم نرفض
الزحف خلف زعماء يمسحون الأرض بنا كما يمسح راضي الغبار؟
***
الموت
لا
يغيب الموت عن الخشبة: والدة راضي، والده، ضحايا الحرب، محاولة انتحاره الأولى في
خلال الحرب حين سخر منه المقاتلون وحمّلوه مسدسًا بلا رصاص وطلبوا منه أن يقتل
الشخص الذي أساء إليه، فصوّب راضي الفوهة إلى رأسه معترفًا بأنّه أكثر من أساء إلى
نفسه... ومحاولة انتحاره الثانية قبل أقفال الستارة. ولكن كيف وصل المسدس إلى جيب
راضي وهو في المحكمة؟ كيف خرج المسدس من يد المقاتل/ الشاهد في محاكمته الوهميّة
إلى واقعه عند التقاعد؟ هل عرف راضي أنّ الوقت حان، وأنّه سيواجه اليوم حكم العمر
والتقاعد، وأنّ مواجهته نفسه الفاشلة ستقضي عليه؟
راضي،
بطل المسرحيّة المهزوم، لم يمت في نهاية المسرحيّة. فنحن لم نسمع الطلقة ولم نر
سقوط الرجل على الخشبة. على كل حال، كيف ينتحر رجل بمسدس لا رصاص فيه؟ وكيف ينتحر
رجل مات مذ صادق الغبار وسكت عن الظلم ورضخ لمصير كتبه له الآخرون؟
فهل
يبقى راضي على قيد الحياة ليرى الثورة آتية؟
***
الساعة
عقارب
الزمن متوقّفة في حياتنا نحن أبناء جيل الحرب: ذكرياتنا عن الحرب لا تأخذ هدنة،
نستعيدها في كلامنا، في تهديداتنا (إذا بترجع الحرب والله لأعمل كذا وكذا) في
كوابيسنا، في أفلامنا ومسرحنا ورواياتنا... لكنّ الساعة المتوقّفة نفسها لا تنسى
أن تسجّل أنّنا كبرنا وهرمنا وحان الوقت كي نتقاعد وننسحب، وأنّ المعارك التي فرضت
علينا، أعطت قادتها وقوّادها الغنائم وتركت لنا الغبار.
***
كميل
سلامة
تبقى
المعلّم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق