الخشبة
يعتبر عبيدو باشا أنّ
المسرح/ المسارح ممالك من خشب (عنوان كتاب له). والأخوان رحباني يقولان في مسرحيّة
هالة والملك: منيح يللي دولتنا خشب (من وحي مشهد الختم الذي لم يغرق في البئر)،
ويرى يحيى جابر مبتهجًا أنّه مصلوب على خشبة وأنّ مسرحه خشبة جديدة للمصلوبين.
اليوم، ممالكنا الخشبيّة
مهدّدة بالزوال، في دولتنا الخشب التي نخرها السوس، فهل قدر المسرح أن يبقى صليبًا
تُرفع فوقه آلام الناس، ويرزح تحت ثقله مسرحيّون كبار؟
لو كان لنا أن نبني
مسرحًا من خشب الأرز، في بلد لا يعرف ناسه من هو مارون النقّاش (ولو لم يكن
النقّاش مسرحيًّا بالمعنى الاحترافيّ للكلمة) ، لكانت القيامة ولقام لبنان.
الممثّلون
قد يبدو النصّ الذي كتبه
كميل سلامة هو البطل الأساس، لكنّ مراقبة دقيقة للممثّلين على خشبة المسرح تظهر
كيف ذاب هذا النصّ فيهم حتى صاروه وصارهم.
الممثّلون الأربعة، على
اختلاف خبرتهم وأعمارهم وفترات ظهورهم على المسرح، يؤدّون الأدوار بلا ادّعاء ولا
فذلكة ولا عرض مواهب ولا صراخ. وبذلك فهم لا يشبهون موضة سائدة في بعض مسرحيّات
اليوم يجترّ فيها الممثّل/ة نفسه وأداءه وصوته وحركاته: صراخ أقرب إلى الزعيق،
حركات أقرب إلى التهريج، احتكاك جسديّ أقرب إلى ممارسة الجنس. نعم، ثمّة ممثّلات
وممثّلون تعرف أنّهم إن أدّوا أدوار القداسة أو العهر، فلن تختلف النظرة أو الحركة
أو النبرة.
ممثّلو أربعة وستّين
متواضعون في أداء أدوارهم، لا يستجدون تصفيقًا، ولا ينتظرون ضحكة، ولا يستعرضون
مواهب يثقون بأنّهم يملكونها لكنّهم لا يتاجرون بها. إن بقي أحدهم على المسرح طيلة
العمل ككميل سلامة، أو أطلّ مرّتين سريعتين كأدون خوري، فلا فرق، وإن ظهرت إحدى
الممثّلتين في زيّ واحد كرولا بقسماتي، أو غيّرت الزيّ والدور كهبة نجم، فأيضًا لا
فرق، لأنّ كلًّا منهم يترك الأثر المطلوب. ولكلّ منهم أثره وتأثيره.
صحيح أنّ كميل سلامة لم
يسبق له أن أدّى دورًا من إخراجه، لكنّه أحسن الإمساك بخيوط الإخراج فلم تفلت من
يده ولو كان على المسرح. واتّكل على ممثّليه يؤدّون أدوارهم، بلا مؤثّرات صوتيّة
تقضم أعصاب النصّ، أو مؤثّرات مرئيّة تسرق الأضواء من وجوه الممثّلين، وبلا ديكور
صاخب أو أزياء مبالغ فيها. بل نحن أمام مشهديّة نقيّة صافية كافية ووافية تقدّس
المسرح في أصالته، وتحترم عين المشاهد وسمعه، وتجسّد النصّ في العين والصوت
والحركة.
***
رولا بقسماتي/ العدالة
القانون الذي تمثّله
رولا لا علاقة له بالعدالة. فالنبرة الساخرة، والنظرة الجامدة، والصوت الجافّ
عناصر لا علاقة لها بالعدالة التي من المفروض أن تطلب رحمة لا ذبيحة. العدالة التي
كانت كرتونًا مع الأخوين رحباني أمست صخرة لا تتأثّر بدموع المظلومين. يرتدي
القانون دم الضحايا لونًا أحمر فوق أسود الحياد الأشبه بقبر. فقانون يفتح ملفّات
الضحايا ولا يلتفت إلى المجرمين لا علاقة له بالعدالة لا من قريب ولا من بعيد.
فالرقّ كان قانونيًّا، والعبوديّة كانت شرعيّة.
ولقد نجحت رولا في تغييب
أنوثة العدالة تحت ذكوريّة القانون الذي يسأل ولا يُسأل، الذي يحمي الأذكياء ولا
يحمي الأغبياء (يا غافل إلك الله)!
***
هبة نجم/ الأمّ- الحبيبة
كلتاهما تخلّت عن الرجل
(راضي). الأمّ بالموت والحبيبة بالغدر. ولكن أليس الموت غادرًا غدّارًا بالنسبة
إلى الأبناء بغضّ النظر عن أعمارهم؟ ألهذا أعطيت اسمًا قريبًا من العدالة (الأمّ
عدلا والحبيبة آديل). المرأة هنا تُحاكم أيضًا، يحاكمها الرجل والقانون، يسألها عن
دورها في "صناعة" الضحيّة؛ الأمّ كوّنته على صورتها ومثالها: هادئًا
قانعًا راضيًا، والحبيبة كوته بغدرها فصار ناقمًا حانقًا غاضبًا لكنّه بقي عند مستوى
الانفعال الصامت من دون أن يصل إلى مستوى الفعل.
ولقد نجحت هبة في إظهار
المرأة الراضية المغادرة ذات العينين البريئتين، والمرأة الطمّاعة الغادرة ذات
النظّارتين السوداوين.
***
أدون خوري/ الحرب -
القانون
لا تسأل العدالة الحربَ
عمّا ارتكبته، بل تحاكم الضحايا وتحكم عليهم. لذلك يبقى المقاتل شرسًا في وقفته،
عالي النبرة، يتكلّم بثقة المنتصر، لا يخشى مطرقة المحكمة ولا قضبان السجن، ولا
تأنيب الضمير. لا يندم ولا يعتذر. لا يخجل ولا يأسف.
حتّى حين ينتقل من زي
القتال ولونه الزيتيّ إلى أسود المحاماة تبقى الحرب حاضرة: الحرب على الإنسان
وحقوقه باسم الحقّ والقانون.
ولقد استطاع أدون في
دقائق قليلة على المسرح أن يستحضر هذه الأجواء الثقيلة لحربنا الطويلة ونظامنا المجحف.
***
كميل سلامة/ الضحيّة
ارتدت العدالة دم
الضحايا لونًا أحمر، وارتدت الضحية الثورة لونًا أحمر مخنوقًا تحت رماديّة المواقف.
"راضي" ثائر في داخله، لكنّه يخمد نار ثورته، يطفئها، ينثر عليها غبار
الأيّام ورماد الحرب. أكثر ما يمكن أن يفعله هو أن "يعربش" على سلّم
يوصله إلى ساعة توقّف عقرباها قبل دقائق من موعد العرض المسرحيّ (الثامنة والنصف
إلّا خمس دقائق). يقفز مجروحًا من الألم في رقصة عبثيّة بين قفص المتّهمين ومقاعد
الحاضرين وقوس المحكمة. يحمل خرقة صفراء بلون العمر الذابل، ويبحث عن موت لا يأتي،
وعن ثورة طال انتظارها.
ولقد نجح كميل سلامة في
إدارة نفسه، فلم يقع ضحيّة جمعه بين الإخراج والتمثيل، ولمساعدته في الإخراج،
زوجته لينا سلامة، دورٌ في ذلك بلا أدنى شكّ.