الثلاثاء، 17 أكتوبر 2017

عن مرسيل التي هزمت الموت


قد أتوشّح بالصمت أمام الموت، قد أنزف كلمات، قد أذرف دموعًا، قد أخشع متأمّلة في معاني الرحيل... لكنّي في صبيحة هذا اليوم، حين رأيت عمّي التسعينيّ يحضن ابنته الستينيّة وهو يعلم يقينًا أنّ الدفء المخادع الباقي في جسدها النحيل ليس سوى محاولة أخيرة منها كي تدفئ شيخوخته... في صبيحة هذا اليوم، وحين رأيت ذلك بعين القلب، تصالحت مع الموت.
بدت لي ابنة عمّي نائمة في أمانِ من ارتاح من أوجاعٍ ما فارقتها يومًا، في سكينةٍ هي من طبيعة تكوينها، في هناءة كانت من أبرز صفاتها، وهي التي سمّاها بعضنا ملاكًا، وبعضنا اعتبرها قديسة الصمت والوجع، لكنّنا كلّنا أجمعنا على أنّها لم تؤذ أحدًا، لم تفعل سوى الخدمة، لم تغتب أحدًا ولم تثرثر ولم تعبس ولم تغضب... في صبيحة هذا اليوم، بدا لي أنّ مرسيل تعود إلى حيث كان عليها أن تكون، حيث لا بكاء ولا ألم ولا حقد.
هذه الفتاة التي لم تكبر يومًا ولو تخطّت منتصف عمرها كيف استطاعت أن تبقى صغيرتنا؟ كيف حافظت على نقاء روحها في زمن لوّثت الأمراض أجسادنا؟ كيف احتمل جسمها النحيل كلّ هذه المحبّة فوقفت إلى جانب والدها حين فقد زوجته وولده يوسف، وإلى جانب شقيقتها دعد حين فقدت زوجها أسعد، وحين ساعدت شقيقتيها عايدة ونوال وشقيقها شربل بصلواتها وخدمتها وصمتها وابتسامتها؟ ومن علّمها ألّا تنتظر من أحد أيّ شيء كأنّها تؤمن بأنّها حصلت على كلّ شيء وهي التي لم تملك شيئًا؟
الموت الذي عانق مرسيل صبيحة هذا اليوم صار أجمل وأنقى، وبدل أن يفرض عليها قسوته، كسرت هي شوكته، وبدل أن يغلبها ببرودته انتصرت عليه بدفء قلبها. وأنا التي كنت أتهرّب من مواكبة الراحلين في لحظاتهم الأخيرة كي لا أشهد على عجزهم وعجزي، وجدتني اليوم، وأنا أمسك بيد مرسيل النحيلة المسترخية أشعر بلقاء عالمين مسكونين بالرهافة واللطف والفرح، عالم تحمل مرسيل الكثير الكثير من ملامحه كأنّها مذ ولدت واحدة من أهل السماء، وعالم صار الراحلون من أهل الريحانيّة يعيشون في رحابه.
مرسيل الستينيّة النائمة في حضن والدها التسعينيّ طمأنتني اليوم إلى أنّها لن تغيب عن موسم الزيتون، ولن تترك الريحانيّة بلا بركة صلواتها وفيض بسمتها، ولن تعتب على جان وموريس وبيار وجوزف ومارون وريبكا إن لم يعودوا من غربة أيّامهم ليشاركوا في مأتمها لأنّها تقيم في حنايا قلوبهم حيث لن تموت، ولن ترضى بأن تبكي مريام العروس أو يحزن هنري وإيلين ونور وسحر ولمى وبشارة ومابيل وجوليان... لقد كان الموت عندها دائمًا أهون من أن تسبّب الألم لأحد، وها هي تصيّر الموت إغفاءة بين أمّ تنتظرها هناك وأب يودّعها هنا.

وغدًا، حين أجلس في الكنيسة إلى جانب نعشك يا مرسيل سأعرف أنّك تضحكين كما كنت تفعلين حين أزورك، وسأبكي لأنّي أمام رحيلك لا أجد الكثير من الكلمات.

هناك تعليق واحد:

ميشال مرقص يقول...

الراحةُ لنفسها والخلود لاسمها في ما تكتبين بشفافية الروح والعاطفة/ وطول العمر لكِ

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.