"قبل الوجع بشوي" للشاعرة زينب حمادة
محكيّتها اللبنانيّة من محبرة الشعر الصافي
تقيم "المرا" التي هي زينب حمادة في ذاكرة ملأى بالموت، موت الناس والأحلام، فتقصّر عمر الوقت بالسهر لتنسى الوجع وتقطّب الجراح بإبرة التحدّي الحادّة وخيط رقيق تركته لها شمس المغيب.
هذا هو عالم مفرداتها التي قد تستعاد مرّة بعد مرّة، لكن في صور جديدة تثير الدهشة بثورتها وانتفاضها، حتّى أنّنا، نحن قرّاءها، نرى أن شيطان شعرها وجد لأجلها فقط وليس له عمل سوى "الحركشة" بمخيّلتها لتأتي بشعر صاف لا ثرثرة فيه.
أكثر من ثلاثين مرّة ترد كلمة "مرا"، لكأنّ هذه الشاعرة تريد أن تقول: بلى، ثمّة شعر نسائيّ. فهي في إصرارها على أنوثتها وهي تقارع الشعراء الذين يصولون ويجولون في المحكيّة اللبنانيّة مصرّة على أنّ هموم المرأة في عالمنا العربيّ ليست كهموم الرجال. وبالتالي لا يمكن أن يكون نتاجها الأدبيّ شبيهًا بنتاجات الأدباء الرجال. فالزواج والطلاق وتربية الأولاد والعشق والبوح الحسيّ أمور تقع تبعاتها على المرأة التي ما زالت ضحيّة التربية الصارمة والمحاكم الشرعيّة أو الروحيّة وأحكام مجتمع يقتل الحب بحجّة الدفاع عن الشرف.
وأكثر من عشرين مرّة ترد كلمة "حلم" ومشتقاتها. كأنّ هذه "المرا" تهرب من الواقع إلى الأحلام، فتقول:
ال متلي مرا
ع طموحها بتنلام
أكبر من الأحلام عينيي
ويمكن لأنّي
بلبس الأحلام
ت ظبّط قياساتها عليي
بشدّ الحلم
ت يطول شويي
ومع الحلم تأتي مفردات الموت والليل والكأس والذاكرة والوجع. كيف لا والصبيّة التي حازت جائزة عصام العبد الله في دورتها الأولى عام 2019، ولدت على يد قابلة اسمها "وجع"، حين خسرت والديها باكرًا فذاقت طعم اليتم الذي تحاربه كلّ يوم بأمومة سخيّة وقصيدة ساخنة. لذلك لا تنفصل حياة زينب حمادة عن قصيدتها التي لا تولد بلا أوجاع ومعاناة. فعن موت والدتها كتبت:
ماشي الفرح كان ومرق ع الدار
عا باب إمّي دقّ...شو قلّا؟
بدي فرح... عالدرب نتسلّى
ما بحبّ وحدي كمّل المشوار
مشّي معي...
طالع عند الله
وعن رحيل والدها كتبت في قصيدة الأرض:
قالو عطيها... بترجع بتعطيك
بس اللي قالو... كذبو عليي
طيّب يا قبر... زرعت بيي فيك
وصرلي عمر دمع ووجع بسقيك
ليش بعدو ما رجع بيّي؟
وعن موتها هي كتبت تحت عنوان "وحدي أنا والموت":
وبكرا إذا ما عاد عطري فاح
وشردق الموت حبال حنجرتي
وقفّل الوقت بواب ذاكرتي
رايحة لهونيك تا إرتاح
بجياب شِعري تاركه المفتاح
لا تدقدقوا ع باب مقبرتي
فهل هناك أقسى من أن تقرأ لشابّة هذه الرغبة في الراحة؟ حتّى القصيدة التي نالت عليها جائزة كانت بعنوان "خطايا"، جاء فيها:
وبآخر العمر الهني ..بعتاز
كلّ الخطايا الساكنة فيي
جمّعتهن بقزاز عينيّي
وكلّ دمعة عا طريقي
قزاز
بدعس عليها ..
بجرّح جريّي
وبفوت عا قبري
ب ولا خْطية
لكنّ هذه "المرا" تنتفض ولا تقبل أسرًا يقيّد حريّتها، أيًّا يكن نوع هذا الأسر حتى ولو كان الحزن واليأس، فيعلو صوتها في الشعر قائلًا:
جسمي أنا حقلة قمح
بيموج حنيّه
كلّي مرا
كانت بحر حابس ملح
طالع ع بالي كون حريّة
هذه الرغبة في التحرّر تعلنها صراحة في قصيدة "كبريا" حين تقول متسائلة :
وبزعل عليك؟
وبحطّك ببالي؟
وبترك عيوني فيك ينهمّوا
ال متلي
ما في عندو حدا يهمو
عالأرض يا ما موقّعة خيالي
وما كان عندي وقت تا لمّو
لكنّها حين تعشق لا تخجل من البوح، ولا تخفي رغبتها تحت رداء الرياء، ولا تناور أو تومئ، بل تجاهر وتكتب عن جسمه البنيّ:
والليل عم يدلف عتم عالباب
هات القمر ت نسكّر المزراب
جايي ع بالي
جسمك البنيّ
هونيك
في خلف الدني جنّة
جايي أنا... نطرني ورا الغياب
رح نيّم عيوني وإجي منّي
انجبتن معي رح ضيع
مستعجلة وهنّي
ما بيشبعوا تطليع
وهونيك في شجرة حكي
وغلال
بتعب ت قطّف صوتك الدافي
وتمّي سلال
وبيننا مسافة
وأنجق "بحبّك"
حرف منها طال
عا قد ما بيتناوطوا شفافي
زينب حمادة حالة خاصّة في المحكيّة. تأتي خصوصيّتها أوّلًا من كونها شاعرة بمرتبة عالية في عالم أكثر نجومه من الرجال، وثانيًا من ريادتها فيه من دون أن تكون نسخة عن سابقات لها، لا بل أظلمها إن قارنتها بشاعرات هن أصلًا قليلات العدد في المحكيّة ولم يجدن لغتهنّ الخاصة بعد. أمّا شعر حمادة فيقارب المحظور، ويتحدّى الممنوع، ويقارع المحرّمات بلغة مصفّاة من الحشو،لا تخدش شعور الشعر، ولا تهينه ولا تخونه.
ولكن إن كان ثمّة ما أنصح به عشيقة الشعر كما تصف نفسها فهو عدم نشر هذه الكميّة من القصائد في ديوان واحد، ففي ذلك إجحاف في حقّ موهبتها التي أعرف كم هي سخيّة ومعطاءة ولا خوف عليها من النضوب، لكن لا بأس إن تركتنا في شوق إلى المزيد بدل أن نسأل أنفسنا: أيّة قصيدة هي الأجمل؟
أمّا النصيحة الثانية فللصفحات الثقافيّة في الصحف والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة: فليكن للمحكيّة مكان بارز، أفسحوا لها المجال فهي لغة أجمل أغنياتنا وبسببها برز كبار شعرائنا. "آن الأوان" يقول لكم طلال حيدر يا أهل الثقافة. افعلوا ذلك لنطالب لاحقًا بأن يكون للزجل والشعر المحكي مكانًا في المناهج المدرسيّة، فلا يبقى معلّقًا على يافطات في الشوارع والجادّات.
للتذكير:
1- الغلاف من تصميم الفنّانة التشكيليّة دارين روكز.
2- يُطلب الديوان من الشاعرة مباشرة عبر الهاتف أو عبر صفحتها على فيسبوك.
3- النسخ الموجودة لدى مركز بربارة نصّار يعود ريعها لمرضى السرطان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق