كنت قرّرت منذ بعض الوقت أن أتوقّف عن الكتابة عن الراحلين من أهل بلدتي الريحانيّة. بدا الموت اللبنانيّ المحيط بنا، مرضًا وقتلًا وانتحارًا، حاضرًا في يوميّاتنا، ما جعلني أفترض أنّ الامتناع عن الكتابة عمّن يرحل قد يحمي البلدة من الزوال، أو لعلّني أقنعت نفسي أنّ تأريخ الموت تأكيد على وجوده وطغيانه. فلأتجاهله... فضلًا عن أنّ الكتابة عن أحدهم كانت ترضي البعض من عائلته وتغضب البعض الآخر... فكثر يريدون من النصّ الأدبيّ أن يشبه عظة كاهن يردد الكلمات نفسها في كلّ مأتم، ولا يرى في الراحلين سوى هباتهم للكنيسة.
نصوص ومقالات نشر أكثرها في الصحف والمجلاّت اللبنانيّة والعربيّة بعضها باسم مستعار هو مي م الريحاني
الأحد، 21 نوفمبر 2021
في وداع أنطوان بو لحّود
رحلت برناديت بو لحود، وسعاد أبو جوده القصّيفي (إم الياس)، وإميل غيّا، ... ولم أكتب... لكنّي في مأتم أنطوان بو لحّود انتبهت إلى أنّني لا أكتب في الواقع عن أشخاص بقدر ما أكتب عن مرحلة من تاريخ البلدة، وبالتالي الوطن. أكتب عن رعيل من النساء والرجال هم في الحقيقة وجه لبنان في مرحلته الانتقالية من كونه وليد المجتمعات الزراعيّة المتعلّقة بالأرض إلى مرحلة التعليم الجامعيّ والهجرة.
هؤلاء الذين كتبت وأكتب عنهم، هم ذاكرتي وسكّان البلدة التي أحببتها، والتي ودّعتها في أكثر من نصّ لأنّها كانت تختفي مع رحيل كلّ من ساهم في تكوين شخصيتها وتحديد هويّتها.
لبلدتي في الوجدان والبال أجيال ثلاثة أعرفها: جيل أجدادي وجيرانهم وينضمّ إليهم جيل والديّ ومن في عمرهم، جيل ثان يكبرني بقليل، وجيل ثالث غادر البلدة، إلّا أفراد لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة.
تربطني صلة قويّة بالجيلين الأوّلين. لقد كنت على حداثة عمري، وبسبب واقع صحيّ هو شلل الأطفال محاطة بهؤلاء الكبار من الجيلين الأوّلين، يعودونني ويجالسون أهلي فأصغي إلى أحاديثهم وذكرياتهم وحكايات البلدة وناسها. ولعلّ تلك الجلسات، فضلًا عن المطالعة هي التي كوّنت شخصيّتي الكتابيّة، وغذّت مخيّلتي وجعلتني أغادر السرير والغرفة والبيت لأجول في تاريخ البلدة ودروبها الترابيّة وحقولها.
الجيل الجديد لا يعرف هذه "الريحانيّة"، ولن يفهم السبب الذي من أجله أكتب عن هؤلاء الغائبين المقيمين. ليس الأمر واجبًا أخلاقيًّا أو اجتماعيًّا، وليس قطعًا مسايرة لأهل فقيد أو أبناء فقيدة. هي رغبتي في استعادة هؤلاء الذين ما عرفوا غير الحب والاحترام والقيم. هو التوق كي أعود طفلتهم المدللة، وابنتهم الموهوبة، والشابّة التي عاملوها كأنّها أكبر من عمرها، كأنّها من جيلهم.
لم يكونوا هكذا معي دون سواي... هم هكذا، يحترمون الكبير والصغير، يقدّرون العِلم ويحثّون أولادهم عليه، يحفظون الجيرة والعهود، كرماء لا يتأخّرون عن مساعدة، ظرفاء يحبّون السهر والزجل، تدور حياتهم حول كنيسة مار الياس، وفي الأعياد يتنقّلون من بيت إلى بيت بفرح كأنّهم لم يروا بعضهم منذ زمن...
وأنطوان بو لحّود لم يشذّ عن هذه القاعدة، حتّى حين اختار شريكة حياته تقصّد أن تكون شبيهة هذه البلدة التي أحبّها حتّى الموت، وكان يتمنّى لو دفن في ترابها. لكن من سوء حظ هذه البلدة التي جعلت الكنيسة محور الاهتمام وقبلة الصلاة أنّها لم تحظ بعناية المطرانيّة التي تحدّد الرعايا بمقدار ريع صينية الأحد لا بمقياس العلاقات التي تربط بين أهلها.
لا، لا يعرف الجيل الجديد هذه "الريحانيّة". فهم إمّا مهاجرون لا تعنيهم شؤونها، أو مغادرون يقيمون خارج حدودها، فلا يزورونها، إن فعلوا، إلّا في المآتم. وما أنا بالنسبة إلى أكثرهم سوى كاتبة غريبة الأطوار، لا يقفون لها احترامًا حين تصل، ولا يلتفتون إليها حين تعبر، ولا يقرأون كتبها أو مقالاتها، ولا يوجّهون لها التحيّة، ويدّعون أنّهم لا يعرفونها حين يلتقون بها في مكان عامّ... يجيدون لغات كثيرة ولا يعرفون كيف يلقون التحية على من يكبرهم سنًّا.
أنطوان بو لحّود كان عكس كلّ ذلك... كان سليل جيلين من "الخواجات" ولو كانوا فلّاحين وعسكريّين وموظّفين متواضعين، من "الأوادم" الذين لم تغرهم مكاسب سريعة، من اللطفاء مهما علا شأنهم، من المتواضعين مهما كثرت علاقاتهم الاجتماعيّة، من المنتمين إلى الريحانيّة ولو اكتسحها الباطون واحتلّها الغرباء بأموالهم وثرواتهم.
لذلك كانت الريحانيّة التي أعرفها حاضرة في مأتمه ولو لم يرها سواي. كانوا جميعهم حول نعشه: الأحياء والموتى من عائلات القصّيفي وبو لحّود والحلو وغيّا ومشلب وحرب والجرجس وبو خليل ومتى وكرم وداود وباسيل وصوما ويونس وابراهيم وديب وكسرواني ونقّور وفرحات ومغاريقي... كلّ واحد منهم عاد إلى حيث كان يجلس، وشارك في الصلاة. وحين انتهت المراسم، غادر أنطوان مع العائدين إلى الريحانية الأجمل، وعدنا نحن، آخر الريحانيّين الأحياء إلى بيوت تركها الشبّان والصبايا في رحلة البحث عن الأمن والأمان، تاركين خلفهم حرّاس الذاكرة ينتظرون موعد الرحيل.
هو أول أحد اليوم بلا أنطوان بو لحّود الذي ورث عن والده اسكندر صوتًا جميلًا وضعه في خدمة القداديس وأورثه لابنه ألكسندر الذي أطرب والده في نعشه حين رنّم له دامعًا ورتّل من أجله حزينًا. وسيأتي عيد الميلاد ولن يزورنا "الخواجه طوني"، كما تناديه أمّي، مع زوجته ليقدّما التهنئة بالعيد احترامًا منهما لوالديّ العجوزين، وحرصًا على تقليد بدأ يندثر برحيل أمثاله.
هو أوّل أحد بلا الرجل الذي عرف يتم الأمّ مع شقيقه وشقيقته، لكنّهم أكرموا زوجة أبيهم "تانت هيلين" التي ربّتهم كأولادها، ما دفع بالخواجه طوني إلى تسمية ابنتيه على اسمَي والدته "إيفون" وخالته زوجة أبيه.
هو أوّل أحد بلا واحد من أواخر أعمدة الجيل الثاني الذي لن تبقى الريحانية كما هي بعده، الريحانيّة التي لا مدافن فيها، فتوزّع موتاها على الجوار، ولا كنيسة جامعة تعطيها حقّها من الاهتمام... لعلّني أخلط بين الريحانية ولبنان... ربّما الحال واحد.
خواجه طوني... سلّم على صديقك خالي ميلاد. وعلى كل أهل الريحانية.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
-
فرانكو كاسباري وماريّا أنطونيلاّ باولا بيتي مارينا كوفا كاتيوشيا ميشيلاّ روك بعدما تقدّم بها العمر فرانكو داني ...
-
من رسومات علي فرزات كنّا، صغارًا، نستمع إلى جدّاتنا وهن يردّدن على مسامعنا أغنية تترافق معانيها مع عدد أصابعنا الخمس البريئة وأجزاء ...
مشاركة مميزة
فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993
فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...
من أنا
- ماري القصيفي
- الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
- صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق