خيانة
الوطن ليست وجهة نظر! صحيح، وكذلك الحريّة والجمال والحقّ والخير والعدالة واحترام
الآخر.
وخيانة
الوطن لا تنحصر في التعامل مع العدوّ – في وضعنا هو حتمًا العدوّ الصهيونيّ والفكر
الداعشيّ – بل في تبنّي كلّ ما يتعارض مع رسالة هذا الوطن، وما يعرّض المجتمع (وهو
هشّ طريّ العود سريع العطب) لخضّات لا يحتملها في وضعه الراهن.
لذلك،
بدت مواقف مرسيل خليفة من النشيد الوطنيّ، وباتريك مبارك من رئيس الجمهوريّة
والسيّد حسن نصرالله، واللبنانيّين من مشروع ليلى ثمّ الفرقة الهولنديّة، وسواها
كثير، مشاهد ساذجة من مسرحيّة صيفيّة التهينا بها جميعنا. وغدًا، حين يبدأ فصل
المطر والبرد، وينتهي موسم المهرجانات، وتفتح المدارس أبوابها ويعود المغتربون إلى
أوطانهم الآمنة، تغرق الحريّة في نوم شتائيّ طويل، وننشغل نحن عنها بتدبير وقود
التدفئة وتأمين أقساط المدارس.
1- فلأبدأ بالقول
إنّني آخر شخص يمكن أن يقبل بتدخّل الكنيسة (خصوصًا في وضعها الحاليّ) في شؤون
الفنّ والتعبير وحريّتهما، لكوني إحدى ضحايا هذا التدخّل المقيت، وقد دفعت ثمنه
غاليًا من سمعتي واستقراري الماديّ وإنتاجيّ الأدبيّ. لذلك لا يمكن أن أقبل أن يَمنع
(أو يعترض أو ينتقد) أيّ مرجع دينيّ، مهما علا شأنه، أغنيةً، أو مهرجانًا، أو
كتابًا، أو لوحة... لكن يحقّ له ذلك – كأيّ إنسان آخر - إن انطلق موقفه من الفكر
والعقل والجمال لا من محرّمات الدين.
2- لبنان ليس بلدًا
علمانيًّا، ولو تظاهر مئات وآلاف العلمانيّين مطالبين بالزواج المدنيّ (كأن ليس في
العلمانيّة سواه). وبالتالي، فهذا البلد محكوم بتسويات طائفيّة (ولو كاذبة)،
ومحاصصة مذهبيّة (وإن كانت ماديّة/ماليّة في الأساس). وإن كان أحد لا يزال يصدّق
أنّ الأمر يمكن أن يكون غير ذلك في المدى المنظور، فليذهب لمحاربة طواحين الهواء
حيث الهواء نظيف، والطواحين منظر خلّاب معطاء. ما يعني في النتيجة إنّ أيّ نشاط
فنيّ أدبيّ سيكون دومًا تحت رقابة أهل الدين، وليس بالضرورة من رجال الدين الذين
قد يكونون أكثر تسامحًا وتفهّمًا من أبناء طوائفهم المتزمّتين.
3- في الإذاعة
اللبنانيّة لجنة مراقبة على الأعمال والأصوات، وأمام هذه اللجنة غنّت فيروز وعزف
عاصي ومنصور وزكي ناصيف وغيرهم وغيرهم، ولم تكن هذه اللجنة دينيّة الطابع، ومع
ذلك، كانت تضع معايير ومقاييس على الفنّان أن يلتزم بها ويحترمها. فالرقابة إذًا
مطلوبة، ليس من الدين، بل من أهل الاختصاص. فلنفترض أنّ ثمّة لجنة مكوّنة (على
سبيل المثال طبعًا) من كميل سلامة ورفيق علي أحمد ومروان الرحباني وعبيدو باشا
وعايدة صبرا ومروان نجّار وروجيه عسّاف ونضال الأشقر ووليد مسلّم ومحمود شريح
وفايق حميصي وفوّاز طرابلس... تشرف على المهرجانات وترفع التوصيات، هل كان أحد
شكّك بمصداقيتها أو ذوقها أو احترامها الحريّات في حال ارتأت أنّ هذه الفرقة أو
تلك، هذه الأغنية أو تلك، لا تلائم الذوق الفنيّ العامّ ولا ترتقي به؟
4- لا يغيب عن البال
طبعًا أنّ كلّ جديد مثير للتساؤلات وعرضة للرفض. فجبران خليل جبران حورب واضطهد
ومنعت كتبه في المدارس، والأخوان رحباني هاجمتهم الصحافة واعترض نقّاد على
موسيقاهم وكلمات أغنياتهم، ومجلّة شعر أحدثت ثورة... لكن هل يمكن القول عن هذه
النماذج الأدبيّة أنّها شوّهت الذوق العام وسخرت من القيم الروحيّة وأهانت مقدّسات
الآخرين، وهل كانت ظروف البلد والمنطقة والعالم كما هي عليه اليوم؟
5- فلنترك الدين
جانبًا، هل يوافق الفكر السوريّ القوميّ الاجتماعيّ على هذا الفنّ المثير للجدل؟
فهؤلاء السوريّون القوميّون علمانيّون يفصلون بين الدين والدولة، وقد دعاهم زعيمهم
في «الصراع الفكريّ»، إلى الأخذ بنظرة جديدة إلى
الحياة والكون والفن، بمعنى يترافق فيه الأدب والحياة «فيكون لنا أدب جديد لحياة
جديدة فيها فهم جديد للوجود الإنساني وقضاياه» (ص 69). هذا الأدب يجب أن يكون
«الواسطة المُثلى لنقل الفكر والشعور الجديديْن، الصادريْن عن النظرة الجديدة، إلى
احساس المجموع وادراكه إلى سمع العالَم وبصره فيصير أدبًا قوميًّا وعالميًّا لأنه
يرفع الأمّة إلى مستوى النظرة الجديدة ويضيء طريقها إليه، ويحمل، في الوقت عينه،
ثروة نفسيّة أصليّة في الفكر والشعور وألوانهما إلى العالم» (ص 69)؟ (من مقالة لمحمود شريح في صحيفة الأخبار)
وتشير
الأمينة هيام محسن إلى نصيحة قدّمها أنطون سعادة لزكي ناصيف على هامش إحدى السهرات
التي أقيمت في منزلها في الحدث، فقد "انتحى سعادة بزكي جانبًا على الشرفة
الغربيّة للبيت، المطلّة على بحر من أشجار الزيتون وخلفها المطار فالمدى الأزرق،
وتحدّث إليه ونصحه بأن تكون أغانيه فرحة وتحكي الحبّ والقرية والطبيعة، بحسب ما
أخبرنا الرفيق زكي. وأمّا النصيحة فأسّست للنهج الجديد الذي ابتدعه زكي فنيّاً ".
6- وهل يوافق على
هذا النوع من الفنون الماركسيّون وهم الذين يضعون الفنّ في خدمة المجتمع، فيقول أحد
كتّابهم آلان وودز: " يجب
على الفن العظيم أن يهتم بالقضايا العظمى. لا يمكن للفنان الحقيقيّ ألا يبالي
بمصير الرجال والنساء الآخرين. إنّ الخاضعين والموافقين على كلّ شيء، الذين يكتفون
بأن يتبعوا، مثل الغنم، آخر صيحات الموضة، لا يمكنهم أبدًا أن ينتجوا فنًّا أو أدبًا
عظيمًا."؟
7- ليس من المنطق في
شيء، والوضع اللبنانيّ، بخصوصيّة تركيبته ووضعه، على شفير الهاوية، أن يلهي أولياء
الأمور الناس بمسائل يمكن تأجيلها: كقيمة النشيد الوطنيّ وأصالته (هذا أمر تقوم به
الشعوب المرتاحة إلى وضعها)، أو مهرجانات تشرذم ولا تجمع. وإذا كان من مصلحة البعض
أن نلتهي بهذه الأمور لتمرير ما هو أخطر وأدهى، اين أهل الفكر عندنا لا يتصدّون
للفعل وردّة الفعل؟
8- الخوف على صورة
لبنان في الخارج مشروع في حال الحديث عن الفساد والنفايات والأمراض المتفشيّة
وانهيار البنى التحتيّة، أمّا أن تكون حريّة التعبير هي التي شوّهت صورة لبنان فنكتة
سخيفة، وكلّنا رأى كيف كافحت الشرطة الفرنسيّة أصحاب السترات الصفراء، وكيف يعامل
الجنود الأميركيّون السجناء في المعتقلات!
9- إنّ شعبًا يحتفي بأكبر صحن حمّص وأطيب صحن
تبّولة وأجمل شجرة ميلاد وأطول أركيلة لا يمكنه أن يكون الحَكَم الفنيّ، وإنّ
جمهورًا لا يحبّ المسرح ويعشق المهرجانات لا يعوَّل عليه في تقرير قيمة الجمال،
وإنّ أهلًا يطلقون النار ابتهاجًا بنجاح أولادهم في البريفيه لا يحقّ لهم أن يعطوا
رأيهم النقديّ في ما يجب أن يُغنّى، وإنّ رجل دين تحوم الشبهات حول علاقاته
السياسيّة لا يؤتمن على الحقّ، وإنّ إعلامًا ينادي بالحريّة وهو مرهون لأنظمة ودول
لا يصلح لكي يكون مرشد الجمهوريّة.
10- لماذا لم يدعُ
الدعاة إلى التضامن مع مشروع ليلى، المدافعون عن حريّة التعبير، إلى وقفة احتجاج
تدعو إلى حلّ أزمة الكهرباء والنفايات، وتأمين الطبابة المجّانيّة، والمطالبة بضمان
الشيخوخة، وتحديث مناهج التربية والتعليم، وحفظ حقوق الأدباء والفنّانين؟
11- في هذا البلد
حيث يسخر دعاة الحريّة من المسيح ويخافون من ذكر رئيس
الجمهوريّة أو صهره،
وحيث يهزأ الهازئون من الدين ولا يجرؤون على الإشارة إلى
السيّد حسن نصرالله،
وحيث تلتصق الشاعرة البائسة برئيس التحرير ثمّ تطالب
بالحريّة الجنسيّة
وحيث البعوض والذباب والفئران والحشرات أكثر من جماهير
المهرجانات
وحيث الحريّة لم تسمع بالمسؤوليّة،
في هذا البلد
خلّص نفسك كجُرذ عرف - قبل القبطان - أنّ الباخرة
تغرق.