ماري القصيفي
صحيفة الحياة - الخميس ٧ يونيو ٢٠١٢
تتابع «مي منسّى» في رواية
«ماكنة الخياطة» الصادرة عن (دار «رياض الريّس») عمليّة المصالحة مع ذاكرة تنوء
بآلام عائلة عانت نوعين من الفصام: انفصام شخصيّة الابن الذي كان يعِد بأن يكون
شاعراً كبيراً فإذا به ينتهي في مصحّ للأمراض النفسيّة، وانفصام الهويّة اللبنانيّة
التي كانت تعد العالم بالأعجوبة الحضاريّة الجميلة فانتهى بها الأمر شظايا مجتمع
وفتات بشر.
لا تخفي الروائيّة ملامح
السيرة الذاتيّة عن روايتها غير أنّ الشأن الخاصّ لم يطغ على العامّ الذي بدا في
خلفيّة الصورة العائليّة، فالحرب اللبنانيّة وتداعياتها وآثارها على البشر والحجر،
ليست مجرّد إطار زمنيّ تجري فيه أحداث الرواية بل هي السبب في كلّ تغيير طاول حياة
الناس، بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا التغيير نحو الأسوأ أو نحو الأفضل.
لذلك تقدّمَ سيرُ الرواية
على خطّي الخاصّ والعامّ في شكل متساوٍ، فكانت العائلة تغرق في العتمة حين تسدل
ستائر البيت كي لا يرى الجيران ما يجري مع الشابّ المريض، وكان الوطن يغرق في ظلمة
الحرب التي لم يبدُ أنّها ستعرف فجراً قريباً، وما توزُّع أفراد العائلة بين
المصحّ والهجرة والتهجير، إلّا صورة معبّرة عن توزّع أبناء الوطن بين الغربة في
الوطن والغربة خارجه.
ماكنة الخياطة التي كانت
تملكها والدة بطلة الرواية وضاعت خلال الحرب صارت الهويّة. هي الآلة التي كانت
الأم تخيط عليها فساتين بناتها الثلاث اللواتي كن محرومات من حياة مرفّهة ومحاطات
بالكتب، فهي بالتالي الآلة التي كانت شاهدة على الفقر والحرمان، وحين أتيح للإبنة
أن تبيع بيت والديها بكلّ ما فيه كانت على الأرجح تريد أن تتخلّص من صورة الفقر
وصوت الآلة الرتيب يغنّي لليل طويل من المعاناة والعزلة. ولكن حين سألتها أمّها من
على فراش المرض عن الماكنة، شعرت الابنة أنّ استعادة تلك الآلة العتيقة قد تكون
مصالحة مع الماضي واعتذاراً من تلك الأمّ الحاضرة في تفاصيل حياة أولادها، ولولاها
لما نجوا من معاناتهم مع مأساة العائلة ومآسي الوطن. وإن كانت الماكنة ضاعت في
الواقع، ففي الرواية تصير عند امرأة من الجنوب ترفض التخلّي عنها. وفي الحالين،
تطوى صفحة الماكنة في الحياة، لتفتح المجال لصفحات وصفحات في رواية تعتبر «مي
منسّى» أنّها تعالج نفسها بها عبر تغميس ريشة قلمها بحبر ألمها ومعاناتها بين والد
عسكريّ متشدّد، يحبّ اللغة الفرنسيّة، وأمّ ممرّضة وخيّاطة تحبّ جبران خليل جبران
ابن بلدتها بشرّي، فكانت النتيجة ابناً فقد توازنه العقليّ، وفتيات ثلاث تختبئ
الواحدة منهنّ في حنان الأخرى، لعلهنّ يجدن مجتمعات ما يعطيهنّ حصانة وخلاصاً.
لا تضع «مي منسّى» أقنعة
في عملها الروائيّ، بل في أعمالها الروائيّة: عائلتها، طلاقها، عملها الصحافيّ
كناقدة فنيّة، إصابة كتفها، أمومتها، حفيدتاها، ثقافتها الشاملة المتنوّعة،
وحدتها، حديقتها الصغيرة، أحلامها وأفكارها وعواطفها، خيباتها العائليّة
والعاطفيّة، آثار الفقر والحرب، كلّ ذلك موزّع في حنايا الرواية بلغة شعريّة إنّما
غير خياليّة، كأنّ الشعر وسيلةٌ تجمّل بها واقعاً بشعاً، أو بابٌ للهرب من نثر
الحياة. لكنّ اللغة الشعريّة على شفافيتها الجارحة وجمالها الغريب لا تخدع القارئ
الذي يكتشف صفحة بعد صفحة كيف تصير الكتابة عيادة نفسيّة تفرغ فيها الكاتبة/
البطلة مخزونها من الألم في انتظار أن تزورها حفيدتاها اللتان تهديهما الكتاب،
فتعود معهما طفلة تلعب وتغنّي وترسم، وتؤلّف معهما ثلاثيّاً قد يعوّض عليها طفولة
لم تستمتع بها مع شقيقتيها، حين كان عنف الوالد ومرض الشقيق يحرمان الفتيات
الصغيرات من أن يحلمن بالحبّ والأمان والاستقرار.
هل تبلسم الكتابة جراح
الماضي؟ سؤال يفرض نفسه بعد قراءة الرواية التي تمعن في نبش الذاكرة، كما تنبش فتاة
موؤودة التراب بيدين نحيلتين عاريتين، تعرف أنّهما وســـيلتها الأخيرة للحصول على
جـــرعة هواء محــيية. بعض الكتابة جَلْد ذاتيّ، وبعضها ثأر من حياة تركت تلك
الجراح التي تنزّ أسى ومرارة، وبعضها ولادة من رحم المعاناة. وقد تكون «ماكنة
الخياطة» كلّ هذه مجتمعة.