تمثّل المدرسةُ السلطةَ "القامعة" التي يرغب المراهقون في تخطّيها ومخالفة أوامرها وصولاً إلى تحطيم صورتها عبر إثارة أعمال شغب فيها والتسبّب بأضرار ماديّة فادحة، وهي، أي المدرسة، تبدو في هذه الحال كأنّها تختصر جميع أنواع السلطات الأخرى التي يعجز المراهق غالبًا عن محاربتها وهي: سلطة الأهل والدين والدولة.
والتلاميذ حين يلصقون بالمدرسة صفة القمع فلأنّهم كانوا ينتظرون منها أن تكون صورة مختلفة عن السلطات الأخرى التي لا تستمع إليهم ولا تحاورهم ولا تترك لهم مجالاً للتعبير، ولأنّ الآمال المعقودة على المدرسة كانت كبيرة جاءت الخيبة قاسية ما أدّى ويؤدّي كلّ يوم إلى ردود فعل عنيفة. وتزداد تصرّفات التلاميذ حدّة مع اقتراب نهاية العام الدراسيّ، وخصوصًا عند تلاميذ الصفوف النهائيّة المغادرين مقاعدهم إلى رحاب أكثر وسعًا وحريّة، حسب رأيهم طبعًا.
لذلك تشكّل نهاية العام الدراسيّ كابوسًا للقيّمين على المدارس إذ صارت الاحتفالات بالتخرّج مناسبة للانتقام من سجن قضوا فيه طفولتهم ومراهقتهم، ولإهانة سجّانين مارسوا مختلف أنواع التعذيب في حقّ المعتقلين عندهم. ومراقبة تصرّفات التلاميذ المتخرّجين في القسم الأخير من السنة الدراسيّة تبيّن بوضوح كيف أنّ أعمال الشغب تنتشر بين الجميع من دون استثناء، جارفة في طريقها كلّ من تعترضه حتّى ولو كان من أصحاب السلوك الحسن أو من المجتهدين المتفوّقين. ومعلوم أنّ ثمّة ميثاقًا غير مكتوب بين التلاميذ يدفعهم إلى التضامن حتّى ولو أنّ الأمر يكون أحيانًا أقرب إلى التواطوء. غير أنّهم في مواجهة سلطة الإدارة والمعلّمين يصيرون صفًّا واحدًا متراصًا من الصعب اختراقه.
شاهدت خلال عملي التربويّ تلاميذ يضرمون النار في صفوفهم، وآخرين يرمون البيض والبندورة على المبنى، وغيرهم يرشّ المياه على المعلّمين، أو يثقب إطارات السيّارات التي تخصّ المسؤولين، أو يرمون المفرقعات بين أقدام زملائهم لإثارة حال من الهلع والفوضى. وكانت لغة العقل تتعطّل كليًّا في هذه الأيّام الوداعيّة، لتحلّ محلّها نظرات مستهزئة وكلمات ساخرة وأفعال وقحة. وفي اليوم التالي، وبعدما فجّر التلاميذ هذه الانفعالات دفعة واحدة، يعود كلّ منهم إلى رشده، ويرتدي وجهه الآخر المعروف ويحضر إلى المدرسة كي يأخذ دفتر علاماته كأنّ شيئًا لم يكن، وإن أعطي ملاحظة أو طرح عليه سؤال عن أسباب ما فعله يستغرب الملاحظة والسؤال معتبرًا أنّ ما جرى طبيعيّ، ويحدث في كلّ المدارس، ولا داعي لتكبير القصّة، فما قام به ورفاقه مجرّد "فشّة خلق" بعد كلّ هذه السنوات التي فرض فيها عليهم قوانين وأنظمة وامتحانات لا تعجبهم.
يجب التوقّف عند مجموعة أمور/ أسئلة قبل تحوّل هذه الظاهرة تقليدًا راسخًا لا مهرب منه: لماذا يعتبر التلاميذ المدرسة سجنًا؟ وكيف نعلّمهم أنّ الاحتفال بالتخرّج لا يجوز أن يشبه حفلة يقيمها أولاد الشارع في مناسبة خروج زعيمهم من السجن؟ وكيف نسيطر على موجة العنف التي تجتاح المدارس؟ وكيف نعلّم التلاميذ الفكر السياسيّ النقديّ من دون أن نخشى الوقوع في مساءلات دينيّة وحزبيّة وعائليّة؟ وهل يملك المعلّمون المؤهّلات التربويّة (لا التعليميّة وحسب) التي تخوّلهم الدخول في حوار مع تلاميذهم حول علاقتهم بالمدرسة؟
من السهل أن نطبّق القوانين على التلاميذ المشاغبين، ولكن هل هذه هي التربية السليمة والهادفة؟ وهل قمنا بالخطوات الاستباقيّة التي كانت بلا أدنى شكّ ساعدت على تحويل المدرسة مكانًا يخاف عليه التلاميذ ولا يخافون منه، مكانًا يهرعون إليه ولا يهربون منه، مكانًا للتفكير والتحليل لا للحفظ الببغائيّ؟
لعلّنا نحن المهتمّين بالشأن التربويّ مدعوون إلى محاكمة أنفسنا قبل محاكمة تلاميذنا.