يصل زمن الميلاد ويحضر معه الوقت:
الوقت الذي مضى:
حين كان الطفل ينتظر جدّه صاحبَ الحكايات
والدروس والعِبر، حاملَ أكياس الزبيب وعلبة الدبس وكمشة التين المجفّف،
حين كان الطفلُ يغفو على وعود جدّه بعالم أفضل،
بحياة أجمل، بالسفر والنجاح والحبّ والزواج والأولاد،
وحين كان الطفل يغرق في النوم قرب جدّه، كانت
رائحةُ الرجل العجوز الحكيم ترافق أحلام الطفل وتهديه كنجمة الميلاد إلى حيث يولد
العطاء وتشعّ الحكمة.
...
الوقت الذي وصل:
حين صار الطفل رجلاً يستعيد حكايات جدّه مع
أوّل كانون ويحملها زادًا طوال السنة وهو يشعر بأنه ليس وحيدًا لأنّ رائحةَ جدّه
معه،
وهو مع ذلك أكثر الناس وحدة في خضمّ الازدحام
الذي يحيط به، ولا يجد غيرَ شجرة يخبرها عن طفولته ويتقاسم معها الزبيب والدبس
والتين والحكايات. جدّه صار شجرة.
...
الوقت الذي يأتي:
محمّلاً بالخيبة يومًا، وبالأمل يومًا:
يريد الرجل أن يصير جدًّا على صورة جدّه
ومثاله، ينتظر الأحفاد، يزيّن المنزل، يرتدي كنزته الحمراء، ينفض الغبار عن
أسطوانات قديمة تدور على نفسها كالدراويش وتينو روسي يرنّم أغنيات الميلاد،
يحاول الرجل أن يكون جدّه: ولكن لا زبيب ولا
دبس ولا تين،
يفهم الرجل أنّه صار عجوزًا، وأنّ الزمن مضى
وأنّ الأحفادَ لا يعرفون الزبيب والدبس والتين. ويكتشف أنّ حكاية جدّه ستنتهي معه،
لتبدأ حكايته هو.
***
يحضر زمن الميلاد ويحضر معه الحنين:
الحنين الذي له طعمُ الدمع:
تنظر الجدّة إلى أولادها وأحفادها وتسأل نفسها
خائفة: هل سأكون معهم في الميلاد المقبل؟ تستعيد وجوه الغائبين وتفكّر: هل يحتفلون
بالميلاد في السماء؟
وحين تتخيّل طفلتها، التي هناك، تفتح الهديّة،
وزوجَها، الذي هناك، يحمل طفلته لتضع الملاك على رأس الشجرة، تطمئنّ إلى أنّ الذين
هناك يجعلون السماء سماء
...
الحنين الذي له لون البحر:
تحضّر الأمّ مائدة العشاء وهي تضع الحقّ في
احمرار عينيها على فرم البصل للتبّولة
تنظر إلى مريم ترنو إلى طفلها في مزود المغارة،
وتسألها:
هل تعلمين أنّ ابني الصغير هناك خلف البحر ولن
يكون معنا في ليلة العيد؟ هلّا جعلت أيّامه كلّها أعيادًا وجمعت شملنا في هذي
البلاد من دون أن أخاف عليه من فقر أو يأس أو خطر! هلّا جعلت الدفء في فراشه
والطعام على مائدته والفرح في عينيه!
...
الحنين الذي له رائحة الحطب المشتعل:
ترتعش نفس الفتاة وهي تستعيد صورة جدّها يرمي
الحطب في الوجاق ويقلّب بأصابعه التي تحطّبَ جلدُها حبّاتِ الكستناء والبلّوط:
الكستناء لها ولأخوتها، والبلّوط له ولجدّتها ووالديها الذين تعيدهم النكهة المرّة
إلى زمن الفرح الطفوليّ حين كان العيد يكتفي بأبسط الأشياء
***
يحضر زمن الميلاد وتحضر معه السكينة:
السكينة التي تشيعها الأضواء الخافتة والموسيقى
الهادئة فيشعر الإنسان التعب بأنّه وصل إلى حيث الراحة، والإنسان الحزين إلى حيث
الفرح، والإنسان الوحيد إلى حيث اللقاء
هي السكينة التي لا صوت لها عاليًا، ولا ضجيج
صاخبًا، ولا ألوان باهرة
هي السكينة التي تنبع من الداخل وتفيض على كلّ
ما ومن حولنا
هي السكينة التي لا يعرفها إلّا الأطفال
والعاشقون والممتلئون نعمة العطاء
هي السكينة التي تجعل المريضَ قابلاً آلامه لا
مستسلمًا لها
والأسيرَ عارفًا قيوده لا مقيّدًا بها
والمسافرَ عابرًا المسافات لا تائهًا فيها
هي السكينة التي لا بدّ منها وإلّا
استحوذ علينا جنون هذا العالم
وشرّدتنا أهواؤه
وأقلقت أرواحَنا تغيّراتُ مناخه وأرضه وناسه
وعناصره
هي السكينة التي تجعل
السماءَ في قلب مغارة
والابتسامةَ في قلب هديّة
والواحدَ منّا في قلب الآخر ولو على مسافات
وأعمار
يحضر زمن الميلاد الذي لا بدّ منه كي نستطيع أن
نتابع حياتنا بعده
ونحن نعرف أنّ ثمّة نجمةً تنتظر أن نرفع
رؤوسَنا ونراها ونمشي على هديها
***
يحضر الميلاد وأنت تنأى في المسافة
تقودُك نجمتُك بعيدًا
وأبقى أنا عند المغارة
لأرافق الطفل على درب جلجلته.
هناك تعليق واحد:
كل عام وأنت وأهلك والريحانية ولبنان بعافية وسلامة يا مريم
إرسال تعليق