الجمعة، 5 ديسمبر 2025

صباح امرأة من ضوء مكسور

 

 



قبل أن أولد كانت صباح ضيفة بيتنا. فابن عمّ والدي طانيوس عبدو (القصّيفي) كان أحد شعراء جوقة الزجل التي يرأسها أسعد الفغالي المعروف بشحرور الوادي، وهو عمّ الفنّانة صباح التي اتّخذت لقب الشحرورة تيّمنًا به. وبالتالي كانت أخبار الشحرور والشحرورة خبزنا اليوميّ حين تقام الولائم في بيتنا بمناسبة وبغير مناسبة. فالزجل والأغنيات ما كانا ليغيبا عن البيوت في زمن وسيط بين الراديو ذي الإبرة النقّالة والتلفزيون ذي القوائم الأربع.

فيروز دخلت معنا نحن البنات والأبناء إلى مسامع الأهل بأغنياتها، بعدما كانت مرتبطة في بال الوالدة تحديدًا بتراتيل الآلام في الجمعة العظيمة. كما أنّ والدتي اعتبرتها دائمًا "جامدة" ولا تضحك، على عكس ما كانت عليه صباح.

كانت أخبار صباح تتنقّل في سرديّات مجتمعنا الصغير وتثير خيالنا، ثمّ بدأنا نشاهدها في الأفلام والمقابلات ونكتشف امرأة من ضوء يتحدّى شاشة بلونين وحيدين هما الأبيض والأسود. كانت باهرة الحضور في مقابل رهبة فيروز. وهذا ما جعل والديّ يفضّلانها.

كانت حياتها الصاخبة نقيض حياتنا الهادئة، وحين قُتلت والدتها صارت بالنسبة إليّ تحديدًا موضوعًا أرغب في كتابة تفاصيله. وبدأت أسجّل في ذاكرتي ما يحكى في سهرات جوهرها الحكايات: عن الجنّ والصيد والطرائف والمبالغات، وعن المهاجرين المغامرين، فلماذا لا تكون جريمة الشرف واحدة من هذه الحكايات.

أذكر أنّهم قالوا أن الأم عشقت رجلًا من عائلة العيتاني، أي نحن أمام قصّة حبّ. فوالد جانيت الفغالي (صباح) كان قاسيًا عنيدًا يرافق ابنته إلى مصر ويأخذ أجرها، والأم متروكة في لبنان.

وأذكر أنّهم قالوا إنّ القاتل ليس الابن، بل أحد أفراد العائلة، ولكنّهم ارتأوا أن يلصقوا التهمة بالابن القاصر كي تصحّ جريمة الشرف، ولأنّ من السهل تهريبه إلى البرازيل. أي نحن أمام قصّة جريمة تتطلّب التحقيق.

عاش الابن في البرازيل وسامحته صباح لأنّها عرفت الحقيقة. لكنّها في المقابل أخذت عهدًا على نفسها ألّا يجمعها سقف مع رجل إلّا من خلال الزواج... ولو لليلة واحدة. فما دام الحبّ يقتل فلماذا المخاطرة؟

قالوا الكثير، وتكفّلت مخيّلتي بالباقي.فصرت في كلّ مرّة أتابع مقابلة مع صباح أحاول أن ألتقط خيطًا يقودني إلى فكّ اللغز ومعرفة الحقيقة عن تلك الجريمة في عصر انتشرت فيه جرائم الشرف حتّى باتت خبرًا يوميًّا لا تخلو صفحات الجرائد منه.

الابن أنطوان الذي غسل عار العائلة وقتل أمه وعشيقها في منطقة قرب برمّانا، هرب إلى سوريا ومنها إلى البرازيل حيث  اتّخذ اسم ألبرت وعمل في مجال المطاعم. ثمّ تزوّج وأنجب صبيًّا سمّاه ريكاردو يهوى الموسيقى ويعمل في مجالها، وفتاة اسمها "جانديارا"، هي طبيبة ونائبة في البرلمان البرازيليّ وتوفت عام 2011 بنوبة فلبيّة وهي نائمة. وبسبب مرور الزمن على الجريمة، استطاع أنطوان أن يعود إلى لبنان برفقة ابنته، فالتقت عمّاتها ومنهنّ صباح التي نعتها في المجلس النيابيّ البرازيلي يوم وفاتها.

حكاية صباح بين مقتل الوالدة بسبب العشق وحياتها هي من غير أن تعرف العشق من أكثر الحكايات إثارة للحزن والأسى. شعوران يعرفهما من يسمع أبعد من الأوف التي اشتهرت بها، أو الضحكة المجلجلة التي أسعدت بها الناس، ومن يرى خلف الفساتين الأنيقة جسدًا بحث عن الحنان ولم يجده لا في الوالدين ولا في الأزواج ولا في الأولاد.

 

 

 

 

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.