عن
عمّي بشارة وموت المزارع الأخير
في
17/ 10/2017 ماتت فتاة ستينية اسمها مرسيل بشارة القصيفي بين ذراعي والدها
التسعينيّ، وحين وصلتُ مع أولى الواصلين ورأيت كيف يحضنها متمسّكًا بها رافضًا أن نأخذها منه، عرفت
أنّه مات معها، ولكن دفنه تأخّر إلى 22/ 10/ 2020. انتظر ثلاثة أعوام، تائهًا،
ضائعًا، شارد الذهن، باحثًا عنها على الطرقات، هائمًا على وجهه، وحين تعبت قدماه
وصار طريح الفراش في الغرفة التي شهدت وفاة ابنته، قال في سرّه، وقد رفض الكلام
والطعام: بات عليهم أن يدفنوني، انتظرتها ثلاثة أعوام ولم تعد، فلأذهب إليها في
شهر رحيلها، لألتقي بها وبأمّها جولييت وشقيقها يوسف.
في
هدأة هذا الليل، رحل عمّي بشارة. في ليلة خريفيّة احترقت فيها قبضة الثورة، في زمن
الكورونا حيث صار المأتم عمليّة دفن سريعة لا وقت فيها لدمعة، في عهد رئاسة عجوز،
وبلد عاجز، رحل رجل أمضى عمره في العمل والقيام بواجبات التعازي. وها البلد اليوم
لا أعمال فيه، وها هي التعازي عن بعد تفرض نفسها ولا تكافئ هذا الراحل على قيامه
بالواجب.
مأساة
الإنسان ليست الموت، بل المعاناة قبل الموت والانحشار في مدفن. لماذا لا نُدفن في
التراب لتُزرع فوقنا شجرة أو زهرة أو نبتة؟ لماذا لا يصير فلان شجرة زيتون وغيره
شجرة حور، وفلانة نبتة حبق، وغيرها وردة أو ياسمينة... لماذا لا يتركوننا نتحوّل
ترابًا يتنفّس، ويعطي حياة ويزهر ويثمر ويسهر تحت النجوم ويتغطّى بالعشب الأخضر؟
حين كان عمي يفقد أحدًا من عائلته كان يهرب باكيًا إلى حقول أمضى عمره في نكش
ترابها، وري مزروعاتها وقطاف زيتونها. وحين كان يعود من غيابه الذهنيّ، في خلال
الأعوام الثلاثة الأخيرة، ما كان يسأل إلّا عن موسم الزيتون. وفي موسم الزيتون
اليابس مات.
أكتب
الآن عن عمّي الذي أدين لذاكرته وأخباره بجزء كبير من تفاصيل أودعتها كتبي، لأكرّم
حياته لا لأرثيه. لأنحني أمام حزنه لا لأبكي عليه، لأتأمّل في تعبه مذ كان يافعًا
يتيم الأب لا لأقول كما يقول كثيرين: لقد ارتاح.
قد
يرى كثر أنّ الكتابة عن رجل كاد يقترب من عمر لبنان الكبير عمل سخيف في زمن الموت
العشوائيّ، قتلًا ومرضًا وقهرًا. لكن إن لم يبق فينا ذرّة عاطفة تجاه موت شخص واحد،
بمعزل عن عمره وإنجازاته، فموت الإنسانيّة كلّها لن يعنينا، وحرائق الطبيعة لن
تبكينا، وتلوّث الأنهار لن يحرّك مشاعرنا. يقول الناس لم يعد للموت قيمة، ولا
للحياة... وأقول نحن من نعطي قيمة لمن وما حولنا. نحن الذين قرّرنا ألّا قيمة إلّا
لمالنا في المصرف، ولأملاكنا فنتنازع ملكيّتها، ولشهرة اسمنا في المجتمع فنضحّي
بالكرامة من أجلها. أعطينا العمل قيمة وتنكّرنا للعامل، أعطينا المائدة العامرة
قيمة وأهملنا المُزارع، أعطينا حيث لا يجب وبخلنا بالعطاء حيث يجب. وعمّي بشارة
كان فلّاحًا عاملًا نشيطًا، واظب على حضور القدّاس، اختبر الفقد والموت ورحيل
الأحبّاء، سار في مآتم كثيرة، وشارك في الأفراح. عاش ومات منذ ثلاثة أعوام ومنذ
قليل دخل إلى برّاد المستشفى، جلدًا يستر عظامًا، في انتظار أن يجاور بعد ساعات من
سبقه من أفراد العائلة كبارًا وصغارًا. ولن يصير شجرة أو نبتة أو زهرة.
عمي
بشارة لم يكن شقيق والدي فحسب، بل صديقه، وحين كان يسأل عن الزيتون في لحظات وعيه،
كان يسأل كذلك عن والدي. وكان والدي يخترع له قصصًا عن المواسم والقطاف وعدد تنكات
الزيت، وكان الخير يفيض من القصص وتمتلئ الخوابي ويبتسم عمّي، ولو انّ الفصل ليس فصل قطاف الزيتون. هي أعجوبة المحبة بين شقيقين عجوزين، ومعجزة الكلمات.
أمّا
الريحانيّة التي أودّعها رحيلًا تلو آخر، فلن ترى بعد اليوم عمّي بشارة عائدًا من
الحقول، لأنّ من كان يعرفه عهدذاك غادرها أو هاجر أو مات. والغرباء الذين أتوا
وحوّلوها مدينة بلا هويّة أو حياة فلن يتذكّروا طويلًا العجوز الحزين الباحث عن
بلدته التي ضيّع معالمها، فيستهدي بالكنيسة التي بناها بيديه حجرًا حجرًا، فبقيت منارته ووجهته
في لحظات التيه.
انطوت
صفحة من كتاب الريحانية التي ربطوها رغمًا عنها بسجن ومراكز أمنية، واقتربت نهاية
القصّة، فكيف تقاوم بلدة مات فيها المزارع الأخير، واقتلعت الأشجارَ من أمام البيوت
العتيقة كنّاتٌ غريبات يجدن الأوراق اليابسة نفايات تسمّم حيواتهنّ.
عمّي
بشارة، لن أبكيك ميتًا، بل أبكي على تعبك وأحزانك وخيباتك وميتاتك الكثيرة. إنّ موتك
الأخير هذا استراحة بين موسمَي عطاء، وغيابك حضور دائم بين أسطري، فثمة الكثير
ممّا رويته لي لا يزال ينتظر كي يخرج إلى الحياة... وعندها لن تبقى ميتًا.
سلّم على إم يوسف ويوسف ومرسيل...