نصوص ومقالات نشر أكثرها في الصحف والمجلاّت اللبنانيّة والعربيّة بعضها باسم مستعار هو مي م الريحاني
الأربعاء، 7 فبراير 2018
من تلامذة مدرسة روما المارونيّة إلى أمينة المكتبة الحيّية - 2010
قرّرت أمينة المكتبة في القسم الثانويّ من إحدى المدارس المارونيّة أنّ روايات الياس خوري ومحمّد شكري وحنان الشيخ ونجوى بركات ورشيد الضعيف وقصص زكريّا تامر ممنوعة لأنّها تشجّع على قلّة الأخلاق وهي إباحيّة ووقحة، وأعلنت بعزم وإصرار وفي شكل لا يقبل الجدل: أخلاقي لا تسمح لي بوضعها في المكتبة وضميري لا يرضى.
الموظّفة المهذّبة لم تقرأ طبعاً رواية واحدة كاملة من هذه الروايات، وكلّ ما في الأمر أنّها حين كانت تهمّ بوضع ختم المدرسة على بعض صفحات أحد الكتب فوجئت بعبارة خدشت حياءها (لا أعرف إن كانت ستفهم معنى هذه العبارة) ولكنها تابعت القراءة حتى أتت على المشهد كاملاً ثمّ اخذت تفتّش تفتيشًا محموماً في الكتب الأخرى لعلّها تقع على مشاهد أكثر حرارة. وبعدما وُفّقت في الحصول على إثارة تلو إثارة، بشكل لم تعرفه قبل هذه اللحظات المصيريّة، قرّرت أنّه لا يجوز أن توضع هذه الكتب بين أيدي التلامذة. وباءت بالفشل جميع محاولات إقناعها بأنّ هذه الروايات من كلاسيكيّات الأدب العربيّ، وأنّها ليست ممنوعة، وأنّها تعالج مشكلات اجتماعيّة ونفسيّة معروفة وموجودة في مجتمعاتنا، ومن المفيد التحاور في شأنها بموضوعيّة وحريّة ومسؤوليّة. فالآنسة ذات الحياء والخَفر والمؤتمنة على العفّة والطهارة بقيت على موقفها لا ترضى بالمسّ بالأخلاق، ولا تسمح بأن يتمّ تحت نظرها الحيّي تبادل كتب فيها كلمات بذيئة بحسب وصفها الدقيق، ولن تناقش في هذا الموضوع مهما يكن الثمن. أمّا الشعر فنجا من عمليّة التطهير لأنّ الآنسة لا تفهم من رموزه ومعانيه شيئاً.
بمثل هؤلاء الموظّفين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، تصان الآداب العامّة كما يفهمها أهل الحَجْر والحَجَر، ويقتل الأدب والشعر وتنحر الثقافة وتشوّه الحريّة، ويتخرّج في المدارس ألوف التلامذة من المنسوخين نسخاً على آلات صدئة قديمة لا حبر فيها ولا ورق. وإلى مثل هؤلاء المحسوبين على مديرين وأصحاب شأن نَكِل أمر التربية والتعليم والتوجيه والإرشاد، لينكّلوا بنفوس الشبّان والصبايا ويمعنوا فيها تخريباً وتهشيماً. والطامة الكبرى حين يتمّ الدفاع عن أمثال هذه الموظّفة البائسة بالقول إنّها مجرّد موظّفة تحتاج إلى راتبها.
ومتى كانت أيّها السادة العلاقة بالكتب والمطالعة مجرّد وظيفة نعتاش منها؟
فهل سمعت الآنسة "المكتبجيّة" بدكاكين الورّاقين حيث أفنت أعداد كبيرة من الناسخين أعماراً لا تحصى في الكتابة والنسخ والتحبير؟
هل قرأت عن مترجمي بيت الحكمة في بغداد الذين أمضوا أيّامهم ولياليهم في نقل تراث البشريّة الفكريّ من لغة إلى لغة؟ هل سمعت بمدرسة روما المارونيّة التي خرّجت العلماء الذين اهتمّوا بمكتبات الفاتيكان وفرنسا وزوّدوها المخطوطات النادرة من مختلف أقطار العالم المعروف آنذاك أو بالبطريرك إسطفان الدويهي مؤرّخ الطائفة المارونيّة والعلاّمة ابرهيم الحاقلاني الذي عمل في حقل الحوار بين الحضارات متنقّلاً وباحثًا بين فرنسا وإيطاليا؟
وهل تعرف يوسف السمعاني الحصروني حافظ مكتبة روما، أو جبرائيل الصهيونيّ الذي درّس في الجامعات؟
لقد وضعت سيّدة الرقابة المصون علامة على الصفحة 84 من مجموعة "دمشق الحرائق" لزكريّا تامر لتضمّها إلى ملّف الرفض الذي دعمت فيه قضيّة دفاعها عن الآداب والشرف، وفي هذه الصفحة من أقصوصة "الرغيف اليابس"، مشهد عبّاس الذي سرق رغيف خبز يابس من صبيّ صغير، وحين التجأ إلى غرفته ليأكله، قرعت ليلى ابنة عمّه الباب تريد أن تقاسمه الرغيف. وحين طلب منها جسدها ثمناً للرغيف كاملاً، وافقت الفتاة الجائعة من دون تردّد. وهنا أبدع زكريّا تامر في تصوير الجوع المزدوج الذي يمزّق الفقيرين، ونظراتهما التي تتنقّل من الجسد المنتظر تحقيق رغبته إلى الرغيف المنتظر من ينقضّ عليه، ليصل إلى قمّة الإبهار حين يصف قائلاً: "والتصقت به أكثر فأكثر. وتضاعف خجله، وفقد اللحم إغراءه، ولم يستطع عبّاس الانتظار، فتخلّص من ليلى بحركة مفاجئة صارمة، وهبّ واقفاً، واختطف الرغيف من فوق الطاولة، واتّجه نحو الباب. واستطاعت ليلى التمسّك بقدم عبّاس، فركلها ركلة قاسية أصابت بطنها، فارتمت على ظهرها تعول متوجّعة وهي عارية".
ومن الواضح أنّ الآنسة "المكتبجيّة" التهت بجوعها إلى الجنس عن متابعة القراءة عن جوع الفقراء إلى الخبز ثمّ نصّبت نفسها قيّمة على الأخلاق خلفاً لمن كانوا قيّمين على الحضارة.
ويبقى السؤال المخيف: هل يجوز لنا أن نرى في هذه الحادثة التدهور الذي طاول الحضارة المارونيّة التي انطلقت مع تلامذة مدرسة روما المارونيّة وانتهت بين يدي تلك الموظّفة؟
* صحيفة "النهار" 26 كانون الثاني 2010
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
-
فرانكو كاسباري وماريّا أنطونيلاّ باولا بيتي مارينا كوفا كاتيوشيا ميشيلاّ روك بعدما تقدّم بها العمر فرانكو داني ...
-
من رسومات علي فرزات كنّا، صغارًا، نستمع إلى جدّاتنا وهن يردّدن على مسامعنا أغنية تترافق معانيها مع عدد أصابعنا الخمس البريئة وأجزاء ...
مشاركة مميزة
فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993
فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...
من أنا
- ماري القصيفي
- الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
- صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.