بعد اثني عشر يومًا على وفاة خالي "سليم" ونحو
شهرين على وفاة زوجته عمّتي "إميلي"، وشهر على وفاة "عبدو"
زوج عمّتي "روزالي"، مات منذ أيّام خالي "ميلاد"، وماتت في
اليوم التالي ابنة عمّه "زبيدة"، بعدما صارعوا، وبالشكل الأقسى والأصعب،
الحياة والمرض. والناس الذين كدنا ننسى وجوههم وأسماءهم، في عجقة اليوميّات وعجيج المجتمع، عدنا والتقينا بهم في مأتم
تلو مأتم، وفي عيوننا متّسع لما يشبه الاعتذار لأنّنا أزعجناهم وأخرجناهم في
هذا البرد والصقيع من دفء بيوتهم ليكونوا إلى جانبنا، مع أنّ أكثرهم لم يكن ولو
لدقيقة واحدة إلى جانب الذين رحلوا.
مأساة الإنسان ليست في الموت الذي لا بدّ منه. فلماذا
يرغب العلماء في إطالة أعمار الناس، ولأيّ هدف يريد الناس أن يعيشوا إلى ما لا
نهاية، إن كانت الشرور باقية، والأمراض باقية؟ فلعلّ الموت أخفّ مآسي الإنسان
وطأة، حين تقارنه بالأمراض التي لا شفاء منها والأوجاع التي لا علاج لها والمعاناة
التي تهدر كرامة الإنسانيّة كلّها.
نحن
نموت على جرعات...
تقتل الخيبات طفولتنا. يدمّر الطموح سكينتنا. يقضي الغدر
على ثقتنا. تغتال الخيانة آمالنا. تخنق الوحدة شغفنا. تفتك الأمراض بصحّتنا. يقطع
الركض أنفاسنا... وننتهي! ولولا فسحات حبّ وصداقة وشعر من هنا وهناك، لكان ما نحن
عليه هو الجحيم في حدّ ذاته.
أنا لا أكتب اليوم عن خالي "ميلاد" (ولم أناده
مرّة خالي) الذي يكبرني بخمسة عشر عامًا كان صديقي ومُشاكسي وأوّل المفتخرين بي،
والذي حين ترك لي مكتبته وسافر إلى السعودية وضعني من حيث لا يقصد على درب
المطالعة، وحين كتبت له الرسالة الأولى، من سلسلة مراسلات استمرّت أعوامًا، وضعت
نفسي من غير أن أعرف على درب الكتابة.
لا.
لا أكتب عن "ميلاد" اليوم ولا أعتقد أنّني سأعرف يومًا كيف أكتب عن هذا
الرجلِ الأحجية:
رجلٍ من السهل عليه أن يثير أعصابك ولكن من المستحيل
عليك أن تكرهه،
رجلٍ قادم من مخيلة طفل، وطفلٍ يرتدي ملابس رجل،
رجلٍ يحمل دماغ عبقريّ ومشاعر مراهق،
رجلٍ يضعك دومًا على حدودٍ مزروعة ألغامًا تفصل بين
الواقع والوهم،
رجلٍ لم أجد من يشبهه إلّا حين شاهدت فيلم "Big Fish"،
وبقدر ما أحببت الفيلم، خشيت ألّا يعرف ابنه "ماجد" من هو أبوه إلّا في
مأتمه.
لا أكتب عن "ميلاد" الذي ولد ليلة عيد الميلاد
ورحل بعده، بل عن البكاء الذي تجمع على رؤوس الأصابع بعدما تعبت عيون الدمع.
***
رحيلًا بعد رحيل، كنّت أؤجّل البكاء وأؤخّر مواعيده وأنا
ألهيه بالعمل واللعب مع الأولاد في المدرسة والأنشطة الفكريّة والتخطيط لمشاريع
تقاوم الموت، لكنّ البكاء ثار في النهاية وانتفض وقرّر أن ينهمر لعلّه يغسل الوجهَ
من قبلات دبقة والروحَ من أدران الكلمات الممجوجة. وكان لا بدّ للمأتم هنا، الآن،
مع هذه الكلمات أن يحوّل الذين رحلوا صفحات في كتاب العمر، لكي أستطيع أن ألتقط ما
تبقى من أنفاس الحياة، رحمة بالباقين.
هو ليس بكاء على الموتى، والموت حقّ، وكلّ من الراحلين
عاش وقطف من ثمار الحياة على قدر ما طالت يداه.
لكنّه البكاء الرافض لاعتبار الموت أمرًا عابرًا ولو كثر
المائتون حولنا، ولو ملأت نشراتِ أخبارنا جثثُ الضحايا وفاضت صفحاتُ التواصل
الاجتماعيّ بأوراق النعي.
هو البكاء على عمر أفناه والداي في حبك علاقات عائليّة
وتمتين أواصر صداقة وجيرة، يكونان فيها أوّل الواصلين إلى حيث الحزن، وأوّل
المنسحبين حين يعود الفرح، ليكتشفا بالطريقة الأصعب، ما كنّا نحن أولادهما نقوله
لهما: لن يعاملكما الناس كما تعاملانهم.
هو البكاء على جدّي الذي مات وحيدًا في حرب الجبل وهو
يحاول أن ينقذ مقّدسات الكنيسة.
هو البكاء على جدّتي التي دفنته وحدها تحت ليل القصف.
هو البكاء الصارخ في صحراء الحروب والدمار بأنّ كلّ
إنسان قيمة وتاريخ وذكريات.
هو البكاء اللاعن نفاياتٍ تتجمّع أمراضًا في صدورنا
وتهدّد بموتنا القريب.
هو البكاء الناقم على تقاليد المآتم التي يحضر فيها كثر
ويتحاشى الجميع ذكر الميت.
هو البكاء على عجزنا عن الصراخ في وجه من يصل معزيًّا
وهو يضحك، ومن تصل معزيّة وكأنّها ذاهبة إلى عرس،
هو البكاء على أنّنا صرنا نجد الموت بالسرطان أمرًا
عاديًّا لا يدفعنا للثورة.
هو البكاء على المرضى والمضطهدين والأيتام والمعنّفين
والمشرّدين والنازحين.
هو البكاء على وطنٍ وأوطانٍ محكومة بالجهل والفساد
والحقد.
هو البكاء على أحياء موتى... ولا يعرفون.
ولكن، اليوم، وبعد أسبوع على رحيل "ميلاد"
عاشق الشعر والهندسة، المجنون، الهادئ، الساخر، الغاضب، المملوء حكايات، وأمام
صمود أمّي في وجه الموت الذي أخذ شقيقيها، وهي كبيرتهما، وأمام وقفة أبي الأبيّة
في تعازي شقيقته وصهريه وابن عمّه، كما وقف إلى جانبهم طوال حياتهم، وأمام ذكرياتي
عن ثلاثيّ راحل أدين له بتعليمي حين كنت طريحة الفراش، وأستعدّ لشهادة
"السرتيفيكا": "يوسف"، ابن عمّي "بشارة"، الشاعر
الذي كان مدير مدرسة وعلّمني المواد الأدبيّة، و"جريس"، ابن عمّي
"عزيز"، أستاذ الفيزياء الذي علّمني المواد العلميّة، وخالي "ميلاد"،
مهندس الكهرباء، الذي حملني إلى غرفة الامتحانات الرسميّة، ثمّ اصطحبني لحضور فيلم
هنديّ كان عهدذاك ذائع الصيت، فخرجت منه باكية وندم هو على الانصياع لرغبتي...
اليوم، وأمام هذه الكلمات التي هي كنزي ورصيدي وقوّتي... وعلى وقع موسيقى الجاز
بوجعها وعنفوانها... اليوم، وأنا أنظر إلى لعبة الداما، من صنع "ميلاد"،
الناجية الوحيدة من بيت الجبل في "عاليه"، والشاهدة على تحديّات جدّي
"أبو سليم" وولديه، أنهي وثيقة الوفاة، وأعلن فكّ الحداد... وأشغل رؤوس
أصابعي بقصيدة عن صاحب القميص الأزرق.