الوطن ليس قالب حلوى |
وطنٌ مصادَر
كان يا ما كان، وليس من قديم الزمان، رجلٌ يقيم في وطنٍ الأرز واللُبان.
صدّق الرجل حكاية العنزة التي يحسدها الناس على مرقدها في جبل لبنان، فعمل
طيلة حياته كي يكون له بناء يورثه من بعده للأبناء. وفي انتظار أن يكبر الأولاد،
ولكي يكون له ما يساعده على تعليمهم وتربيتهم على حبّ الأرض، عرض شقق بنائه
للإيجار. وهكذا امتلأ البناء بالجيران.
مرّت الأيّام، ونشبت الحرب، وانهار الاقتصاد، وانخفضت قيمة الليرة. فصار
مجموع الإيجارات لا يشتري دواءً لارتفاع ضغط الدم، في شرايين رجل، يرى إلى بناء
عمّره بعرق الجبين، فصار إرثًا لمستأجرين، يتركه الوالد منهم للأولاد والأحفاد.
هاجر أولاد الرجل بعدما عجزوا عن إقناع المستأجرين بإخلاء الشقق، وبعدما
يئسوا من تحديث القوانين التي تظلم مالكي الأبنية. وماتت الزوجة من لوعتها على تعب
العمر وغياب الأبناء، فبقي الرجلُ وحيدًا، مجروحًا في شعوره الوطنيّ، ناقمًا على
وضعه المعيشيّ، مقهورًا لمجرّد التفكير في أنّ عليه أن ينتظر راتبه الشهريّ من
أولاده المغتربين.
وفي أحد الأيّام، قرّر مستأجرو الشقق في البناء القديم الجميل، أن يوظّفوا
ناطورًا جديدًا يهتمّ بصيانة البناء، وتنظيف الدرج والمصعد، وترتيب الحديقة،
وتأمين الماء للخزّانات، وحمل عشرات الأغراض والأكياس من سيّارات السيّدات إلى
شققهنّ. فتقدّم صاحب المبنى طالبًا الوظيفة.
شعرت لجنة أصحاب الشقق بالتردّد في بادئ الأمر، لأنّ الرجل عجوز، وقد يقصّر
في أداء وظيفته. لكنّ سيّدة من اللجنة، تتميّز بقدرتها على الجمع بين الحكمة
والحماسة للأعمال الإنسانيّة، ارتأت أن يوظّفوا الرجل. وشرحت فكرتها الذكيّة وهي
تبتسم: من حسنات الأمر أنّ الرجل يقيم في بيته، وبالتالي لن يحتاج إلى بيت
الناطور، فيضع فيه أولادنا وأحفادنا درّاجاتهم. وهو، فضلًا عن ذلك، يعرف مشكلات
المبنى، وخفايا إمداداته الكهربائيّة والمائيّة وأنابيب الصرف الصحيّ فيه. ثمّ لا
تنسوا أنّه عجوز لبنانيّ ويحتاج إلى مبلغ الثلاثمئة دولار، وهو أحقّ بها من نازح
غريب، أو أجنبيّ أفريقيّ أو آسيويّ!
أبدى سائر أعضاء اللجنة إعجابهم بالفكرة الرائعة، وفي بال كلّ منهم صورة
صاحب المبنى وهو يتحوّل موظّفًا عندهم. وأجمعوا على ضرورة أن يذكروه بهديّتين على
الأقلّ في عيدَي الميلاد والفصح. وأن يهبوه ثيابهم القديمة، وألّا ينسوا تنبيه
خادماتهم إلى أن يرسلوا إليه صحن طعام.
وهكذا، صار المالك، الذي كان سعيدًا، ناطورًا لبنائه، بقرار من مستأجرين
يتذرّعون بالقانون القديم، فلا يخلون الشقق ولا يقبلون بقانون جديد يعيد المُلك
لصاحب الملك.
ألا تشبه حكاية هذا البناء لبنان الذي احتلّه الغرباء وسمحوا لنا – حتّى الآن
– بأن نكون مجرّد نواطير عليه، في انتظار قرار دوليّ جديد، يحيلنا إلى التقاعد؟