العابر في شوارع بيروت والمتلصص على مقاهيها تلفته ظاهرة قديمة متجددة: شعراء، روائيون، فنانون، هجروا منازلهم واحتلوا مقعداً في مقهى، فصاروا جزءا منه وتعبيراً عن هويته. علاقة المثقف بالمقهى حميمة حيناً، ملتبسة حيناً آخر. بعضهم يقصده ليختلي بنفسه، آخرون يأتون للالتقاء بالأصدقاء، ولكل منهم طقوسه المكرسة التي لا تتبدل ولا تتحول ولو تغيّر المقهى.. في نهاية المطاف هي «مقاهي تصريف الأعمار».
قبل الحرب الأهلية برزت بيروت كملاذ للمثقفين العرب الهاربين من استبداد الأنظمة، وكانت إحدى سمات عصرها الذهبي تلك العلاقة التبادلية بين المثقف والمقهى.
وشكلت مقاهي بيروت حاضنة فعلية لحركات التغيير على جميع المستويات السياسية والفكرية والأدبية والاجتماعية، وكانت رئة المدينة ومتنفسها إلى الخارج، لا سيما مقاهي الرصيف. الدينامية وحلقات النقاش لم تكن عبثية، وليس من المبالغة القول إن ثقافة المقاهي أحدثت انقلابا في مفاهيم السياسية والأدب والقضايا الاجتماعية السائدة حينذاك، ودفعت بالرئيس المصري جمال عبدالناصر لمهاجمة هذه المقاهي، كونها المنبت الشرعي للانقلابيين والمعارضين في العالم العربي.
اندثر هذا الزمان. مقاهي بيروت ما قبل الحرب هي غيرها ما بعدها أو ابانها. أقفلت معظم المقاهي التي لها علاقة بالثقافة والمعرفة، لتنبت مكانها مقاهي العولمة والأكل والشرب والتدخين. غيّب الموت أبرز روادها وصانعي مجدها، وساد نمط آخر ومزاج آخر. راح المثقف يبحث عن كرسي وطاولة في المقهى الذي يشبهه. بعضهم لم يجد له مكاناً، كتلك المجموعة من المثقفين التي كانت تجلس في «مثلث برمودا»، كما يطلق عليه الشاعر شوقي بزيع (أي مقاهي الويمبي وكافيه دو باري والمودكا).
القبس التقت مجموعة من «مثقفي المقاهي»، أباحوا بأسرار علاقتهم بالمقهى، طقوسهم، وخلاصة تجربتهم.
ضجرت من المثقفين
بإجابة مقتضبة وحاسمة يوجز الشاعر اسكندر حبش علاقته بالمقهى: «لم أعد أرتاد المقاهي بل الحانات الليلية. ضجرت من المثقفين وأعشق الآخرين الذين هم أكثر أصالة».
حياة وأكثر قليلاً
للكاتب والصحافي حسن عبدالله علاقة حميمة بالمقهى، فهو نزيل المقاهي ولا ينافسه أحد في هذا المجال. يصف العلاقة مع المقهى قائلاً: «هي حياة وأكثر قليلاً».
يضيف: «منذ ان صار لي أقدام سرت إلى المقهى.. منذ صيدا في السبعينات إلى بيروت في الثمانينات وباريس في التسعينات، حصدت المقاهي رصيفا رصيفا، كان ذلك انتماء إلى فضاء حر.
المقهى بالنسبة له أيضاً عزلة، وحين يريد أن يكتب أو يفكر أو يغضب، يعود بالذاكرة إلى باريس حيث كان يقيم في غرفة واحدة la chambre de bonne، وبسببها صار المقهى بيته ومكتبه ومكان دراسته وغرفة الاستقبال وساحة الاحتفال. «هناك كتبت أطروحتي للدبلوم ومارست الغربة والرغبة وما بينهما من حنين إلى مقاهي بيروت».
«أذكر أنني كنت أحيي الليل حتى الصباح في مقهى le depart ومعناه الانطلاق. كنت أنطلق وأراقب المشردين والعشاق، وأقرأ ضفاف نهر السين ورهبة كنيسة نوتردام دوباري الجليلة. الآن أسجل حضوري وعشقي للمقهى في بيروت، لكنه ما عاد ينطلي عليّ المناخ.. أحن إلى باريس، أريد أن أذهب لأرى ما حل بخيالي هناك. قيل لي إن المقاهي تئن. بعضها باق في انتظاري على ما أشتهي..».
علاقة ملتبسة
علاقة الشاعر الفلسطيني مازن معروف بمقاهي بيروت ملتبسة بل معقدة. بيروت لم تتح له الفرصة لتأسيس أو اكتشاف علاقة شخصية مع المقهى. يقول: «مودكا وويمبي اندثرا. وفي الجلسات القليلة التي أمضيتها في المقهيَيْن، كنت أشعر إما بالاختناق، أو بالملل. لا لم يكن مللاً جافاً، كان شيئاً معقداً، كأنت أشعر بأنني محكوم بمسار كتّاب أكبر سناً. أو كأنني داخل ماكينة لتعديل الشخصية بسرعة فائقة. في المقهى كنت أشعر بأنني داخل إطار ضيق جداً وضاج وواضح في آن، كفضيحة مقفلة على نفسها. كان بمقدور الجميع أن يراني من الخارج، وكنت أشعر بأن من واجبي الكتابة، وأن كل تلك العيون العابرة هي عيون مستفسرة ومنتظرة ما سأكتبه».
بعين الشاعر يلملم معروف تفاصيل المكان وعلاقاته بكل حيز فيه، «كان الجلوس على الكرسي البلاستيكي غير المريح، ورؤية بعض الكتاب الأكبر سناً والعظماء كعصام محفوظ مثلاً، ومن ثم سماع كل تلك الأحاديث اليسارية المتحمسة والقلقة والمتهكمة والحاذقة، يشعرني بالارتباك، وبأنني مجرد متمّم غير ضروري للمكان».
للشاعر تكتيك اعتمده لمواجهة إرباكه مع المكان ورواده «لم أكن أضع الأوراق في منتصف الطاولة، بل على طرفها، وأحياناً أطوي الورقة لتصبح بحجم مستطيل صغير أستطيع دفعه بحركة خفيفة تحت ذراعي الممددة على الطاولة. كانت ذراعي فخاً لتسوية أمر الأوراق، وذلك لأنني في الواقع لم أكن أكتب شيئاً. ولا كلمة واحدة. كنت أشْحَن لكنني لم أكن (أضيء)».
تحوّل حاسم
لا يعني المقهى شيئاً للكاتبة والمترجمة ماري القصيفي في غياب الكتابة.
في روايتها «كلّ الحقّ ع فرنسا» يحضر المقهى عنصراً أساساً، وكذلك في نصوصها الشعريّة ومقالاتها وقصصي القصيرة، حيث يبدو هذا المكان مسرحاً لكثير من مشاهد العشق والنقاش والشجار والانفصال، كأنّ العلاقة تولد فيه وفيه تنتهي.
مقاربة القصيفي للمقاهي الجديدة مختلفة، فهي من وجهة نظرها لم ترتبط بعد بأسماء وحوادث تستحقّ أن يكتب عنها، والندل فيها عابرون، من تلامذة الجامعات الذين يسعون لتحصيل مصروفهم، على عكس ما كان عليه الأمر قديماً، حين كان النادل فرداً من عائلة الكتابة.
تعترف بشعورها ببعض الغربة عن القراءة والكتابة في المقاهي الحديثة، حيث اللابتوب هو العنصر الأساس، في حين أنّ «ما بقي من قديمها يثير الحنين إلى زمن الورقة والقلم وخربشات تمهّد لكتابة داخليّة ولو أحاط بها ضجيج الخارج وحركة الناس».
علاقة القصيفي بأدباء المقاهي شهدت تحولاً حاسماً إثر ثورات الربيع العربي، التي لم يكن لمثقفي المقاهي أي دور فيها. تعبّر القصيفي عن هذا التحول بوضوح، وتقول: «لا أخفي أنّني، بعد ما سمّي بالثورات العربيّة، هاجمت في مقالاتي أدباء المقاهي ـــ ولا أستثني نفسي منهم ـــ معتبرة أنّهم كانوا يشربون القهوة خلف الزجاج أو على الرصيف، حين اجتاحت الثورة عرض الشارع، وتالياً لم يكن للكتّاب أيّ دور في انطلاقها أو التشجيع عليها أو توجيهها».
مطرح للإلهام
الحديث عن المقهى يعيد الكاتبة والصحافية ليلى عيد الى زمن بيروت الذهبي، «تحمل اللحظة هذه خيالي فتعيدني طفلة على أعتاب المراهقة، تتعلق بأذيال ثوب قريبتها الصحافية الأكبر سناً لتخبرها أي شيء عن لقاءاتها مع كتاب وشعراء مبدعين وفنانين نثروا عطر كلماتهم في فضاء بيروت وبقيت أطيافهم وسيرهم مزروعة ذاكرة وذكرى في مقاهي شارع الحمراء والروشة».
تلك ذكريات ليلى عيد عن مقاه كانت عنواناً دائماً لكثير من مبدعين عبروا. لا يعني اندثار هذه الاماكن انفراط العلاقة القائمة مع المقهى، الذي بقي ذلك المطرح الشاسع للإلهام وليس لتناول القهوة ولقاء الأصدقاء فقط.
اختيارها للمقهى حميمي خاص أينما وجد، قرب البحر أو في الجبل، فهو «ذلك المكان العابق برائحة البن وبخار الشاي وأنفاس الرواد، برجع الأصوات أو الصمت، بالسكينة أو الضجيج، وكل هذا يحملني في كثير من المرات على إغلاق الجريدة، التي بنيتي قراءتها، والانصراف الى التأمل والإصغاء إلى وشوشات الحياة وصرخاتها، بمعنى آخر أغلق الجريدة حتى أتصفح الكائنات والكون».
عناصر القصيدة الأولى
ما أن يخطر في بالك هذا الارتباط بين المثقف والمقهى حتى يقفز اسم الشاعر شوقي بزيع فوراً إلى الواجهة. هذا شاعر لكأنه ولد في مقهى، ببساطة متناهية يقول: «لم أكتب قصيدة واحدة في بيتي على الإطلاق، فالكتابة متصلة بالمقهى».
المقاهي بالنسبة له، لا سيما في المدن التي تمتلك مشاريع لها علاقة بالحياة المتصلة بالوعد الإنساني والمتجددة، هي أماكن لإنتاج المعرفة وللتفاعل الثقافي، بحيث يصبح الاختلاط داخل المقهى اختباراً حقيقياً لأفكار ورؤى جديدة كما حدث في مدن الغرب، حيث إن الثقافة الغربية نشأت في مقاهي باريس وأمستردام وبرلين.
يرى بزيع أن المدن التي تخلو من المقاهي هي مدن منغلقة على نفسها، يصفها بأنها «مدن من دون شرفات هي كالقلاع تنغلق على نفسها ولا تستقبل أي وافد جديد».
للشاعر طقوس خاصة فيما يتعلق بالكتابة، يعترف بأنها طقوس عجائبية. فهو على امتداد أكثر من عشرين سنة يكتب على الطاولة عينها ويجلس على الكرسي عينه ما دفع أصحاب المقهى إلى الإبقاء على طاولته وكرسيه حتى عندما حولوا وجهته إلى مطعم.
اختيار بزيع لمقهاه لا يخضع لمعايير المثقفين التقليدية: المقهى الذي أختاره ليس بالضرورة أن يطل على البحر، بل لأنه خال من المثقفين، مجرد الإحساس بأن المثقفين ينظرون إليّ يربكني. الناس العاديون من خارج الوسط الثقافي لا يؤثرون على كتابتي ولا يعطلون قدرتي على التركيز لأن كل شيء خارج طاولتي يتحول إلى سديم مطلق، تسدل الستائر من حولي بالكامل ولا تضاء إلا هذه البقعة «الورقة البيضاء».
بعيداً عن الفضاء العائلي
يذكر الروائي جبور الدويهي أن انتقاله من الكتابة بقلم الرصاص على دفاتر مدرسية إلى الكمبيوتر المحمول سهّل عليه من الناحية التقنية كتابة رواياته. ويؤكد أنه بحاجة إلى الخروج من منزله ليجلس في مقهى ويبدأ يومه بالكتابة، حتى وإن كان مكان المقهى في المبنى نفسه حيث يسكن. يرتاد المقهى كما يقول ليرتاح جالساً على كرسي «وبشكل عام أكون أكثر إنتاجية نسبياً كلما ابتعدت عن غرفتي وعن الفضاء العائلي بشكل عام والابتعاد عن أماكن موضوع الرواية»
ويضيف: «أفضِّل الكتابة في المقاهي، حتى وإن كانت تعج بالضجيج».
يفرض الروائي على نفسه نظاماً صارماً، ولكن السؤال هو من أين يبدأ؟ فضاء المكان بالنسبة إليه لا بد أن يكون مناسباً ومريحاً وفعالاً في آن، «بعد أن أجد المكان المناسب أحسّه وأتحكم به، وأحياناً ألتقط له بعض الصور أو حتى أقوم برسمه على أن أمحو ما رسمته أثناء الصياغة، كما يفعل الطفل في قصيدة جاك بريفير عندما يرسم قفصاً ثم يقوم بمحوه ليطلق حرية العصفور».