ملحم بركات مع ابنته غنوى (الصورة عن صفحتها على الفيسبوك) |
ملحم بركات مع ابنته غنوى وعائلتها (عن صفحتها على الفيسبوك) |
في
هذه الليلة التي تسبق مأتم ملحم بركات، ستخسر عائلته الزوجَ والأب والجدّ، ليولد
من رحم هذا الفقد فنانٌ يملكه الجميع، ويرتبط اسمه باسم وطنه. لكنّي أكاد أجزم أنّ
وحيدته غنوى تريد الليلة أباها، ولو عجوزًا، تريد والدها ولو مريضًا، وليأخذوا
الفنّ والوطن.
كانت
دائمًا تريده لها ولأمّها وإخوتها، ثمّ صارت تريده لولديها اللذين ستخشى دائمًا أن
ينسيا كيف كان جدّهما ملحم طفلًا مثلهما، لا يريد أن يكبر، فإذا به، وفي غفلة لحن،
يصير نغمة في سمفونيّة الموت.
غنوى
التي كنت أراها مذ أصيب والدها بالمرض دامعةً، تعلّمتْ، وهي الفنّانة التشكيليّة،
كيف ترسم ابتسامةً تواجه بها سائليها عن والدها، قبل أن تحني رأسها لتخفي ألمها،
وتغرق في الصمت، فأحاذر الدخول معها في تفاصيل أو أجرّها إلى كلام.
غنوى تريد الليلة والدها، تريد أن تبكيه وحدها، بلا أضواء
كاميرات، وتصوير تلفزيونات، وبلا احتفال رسميّ وبلا جمهور معجبين. تريد أن تستسلم
لحزنها، على والد كانت لحنه الأجمل وأغنيته المفضّلة، وكان مصدر فخرها واعتزازها. هي
الليلة فريسة الغضب والشوق والحزن، هي الليلة أسيرة الواجبات والبروتوكول، في حين
أنّها لا تريد سوى أن يتركوها تتذكّر. أن يتركوها تبكي وتصرخ.
كنت
دائمًا أسأل نفسي عن مصير الحزن حين تكون الكاميرات والأعين موجّهة نحو المجروحين باللوعة والمجرّحين بالدمع؛ إذ يبدو لي أنّ جبلًا ثقيلًا يربض على صدور هؤلاء الحزانى، يريد أن
ينفجر بركانًا، ولا يستطيع... واليوم حين كنت أنظر إلى صور المعزّين، شعرت بهذا
الجبل يجثم على وجه غنوى التي تريد أن تكون قويّة من أجل والدتها وإخوتها وزوجها
وطفليها. شعرت بصغيرة أبيها تعود صغيرة، تبحث عن حضن والد ملأ الدنيا وشغل الناس،
حتّى عاشت في خوف دائم من أن تأخذه الدنيا ويسرقه الناس.
في
هذه الليلة الأخيرة، تكاد غنوى تختنق لأنّ والدها الذي لا يطيق الأسر سجين البرد
في غرفة المستشفى!
في
هذه الليلة الأخيرة، تشعر غنوى بأنّ الهواء مقطوع لأنّ والدها سيحلّق غدًا فوق
أكفّ الجميع ولن يتركوه لها سوى لدقائق قليلة!
في
هذه الليلة الأخيرة، لن تغفو غنوى لأنّها تعرف بأنّ الجميع سيتكلّمون غدًا، ويتحرّكون
ويروحون ويجيئون، بينما والدها الذي لا يحتمل السكوت والسكون، سيكون، للمرّة
الأولى، صامتًا هادئًا!
في
هذه الليلة الأخيرة، ستبكي غنوة كثيرًا، وستكبر فجأة، لا كما كبرت يوم صارت صبيّة،
ولا كما كبرت يوم تزوّجت وأنجبت وعملت، بل كما يكبر كلّ من يفقد سندًا وأبًا
وصديقًا، فكيف إذا كان هذا السند والأب والصديق اسمه ملحم بركات.
لكنّ فكرة ما، فكرة
واحدة، قد تجعل عينيها الحمراوين المتورّمتين تستسلمان لما يشبه النوم:
لقد
صارت هي وأمّها وإخوتها مسؤولين عن ملحم بركات، عن إرثه واسمه وفنّه، وصار يحقّ
لهذا الرجل التعب أن يرتاح في قلوبهم، في قلوبهم هم وحدهم، بعد أن يتعب المصوّرون،
وتنطفئ الكاميرات، ويعود المعزّون إلى بيوتهم.
هناك تعليق واحد:
رهافةُ شعوركِ تأبى إلا أنّ تتلبّسَ الآخر ...وتكونين أنتِ الحزنَ وبلسم الحزنِ ... يا سيّدتي إجلالُ الكلمة وسموُّ الروحِ \
لك العمرُ المديد
إرسال تعليق