قراءة أولية لرواية "كل الحق ع فرنسا" للكاتبة ماري القصيفي···
بقلم د· غازي قهوجي/ صحيفة اللواء
تدخل الكاتبة "ماري القصّيفي"; في روايتها "كل الحق ع فرنسا"; الى مناخ فترة الانتداب الفرنسي على لبنان، تلك المرحلة التي لم تحظَ بالمعالجة الروائية كغيرها من المراحل التي مرّ بها الكيان اللبناني والتي لا زالت ملتبسة بتداعياتها الى اليوم وبنسبٍ متفاوتة، سيما وأنها جاءت بعد حكم <عثماني> طويل انتهى بعهد <المتصرفية> وازدهار نشاط "القناصل"; الاجانب الذين سعوا الى تثبيت مواقع بلادهم ونفوذها في هذا البلد الصغير تحت غطاء حماية"الأقليّات"والدفاع عن حقوقها·
وأمام الخشية والحَذَر من "الآخر"; بدأت تتشكَّل علاقات متنوعة على الصعيدين الداخلي والخارجي في تربةٍ تجاوبت بشكل كبير مع هذا التفكير "الأقلَّوي" الذي تراجعت أمامه وانهزمت فكرة الانتماء الواحد للوطن وغاب مفهوم المساواة التي ترسِّخ مسار "المواطنة" الصحيحة من دون المساس بالخصوصية الثقافية لكل فئة التي من شأنها أن تخلق تنافساً ابداعياً على مختلف المستويات في سبيل الأفضل والاحسن والأجمل والاشمل والخير العام·
لقد حرَّكت "ماري القصّيفي" ما كان راكداً، ورَمَتْ حجراً في مياه آسنة أغرقت تحتها عادات وتقاليد وأعرافا بقيت عند بعض الناس حيّة كالخلايا النائمة يتوارث نومَها الأجيال بالتكاذب والمراءاة والنفاق، ممّا يتطلَّب إرتهاناً وتنازلات وَصَلَتْ احياناً الى حدود العري الكامل·
لقد أدركت "ماري القصّيفي" أن لبنان كان حاضناً وما يزال ? لمن لا حضن له، حتى استحالت أرضه الى شبه "منطقة حرّة" وموطئ "نعل" لكل وافد مع مرجعياته الخارجية، ولكل مقيم مع استقوائه بما يملك وبما يأتيه من توجيهات خارجية· وربما لهذا ولغير ذلك من الاسباب بقي لبنان وطناً "قيد الدرس"، ومتحفاً في الهواء الطلق للنُصُبْ الرخاميّة التذكارية على ضفاف نهر "الكلب" لمن أتوا وأقاموا وغادروا···
لقد كانت علاقة لبنان بالدولة الفرنسية قبل وأثناء الحرب العالمية الاولى علاقة "وداد" لها مبرّراتها ولكن "بالمراسلة" أي عبر مؤسسات تعليمية، تربوية ودينية··· وجاء الانتداب فأصبحت العلاقة "مباشرة" وصُنِّف لبنان كإحدى المحافظات الفرنسية الموجودة في ما وراء البحار···
حملتنا "ماري القصّيفي" الى أن نتخطّى فعل "نَظَرَ" الى فعل "رأى" لذا فإنها لم تأخذ فترة الانتداب كمتكأً، بل كمرافق مؤثِّر وفاعل ألقى بظلِّه على العديد من التداعيات والانكسارات التي تهدّ الروح، وترمي من وقت لآخر على الحيارى والخائفين برشاوى الفرح العابر والبسمات المصطنعة·
غاصت "ماري القصّيفي" عميقاً في العلاقات "البشرية" لهذه العائلة "النموذج" وقد رأت وناقشت وحلَّلت واستفاضت بطرح الاسئلة التي تدرك تماماً أجوبتها القاسية·
تدور أحداث هذه الرواية في الزمن الذي اشتهر فيه شعار: "فرنسا أمّنا الحنون"، هذا الشعار الذي استحال بعد ذلك على لسان "نجلا" الى "كل الحق ع فرنسا"، على اعتبار أن التواجد الفرنسي كان مرتجى ومراداً للحماية والخلاص ثم دار الزمان ليتحوَّل من "خشبة" للخلاص الى العديد من "الخشبات" التي صُلِبَ عليها الكثيرون ولأسباب متنوعة: روحياً، وطنياً، دينياً، طائفياً وحتى ثقافياً· وبيّنت لنا "ماري القصّيفي" كيف ازدهرت "الانتهازية" وانتعشت بكل أشكالها، وكيف اطلق عليها اللبنانيون عبارات عِدّة لجعلها "ايجابية" واستبدلوها بـِ: "المسايرة"و"الشطارة" و"الحرفَنَة، و··· فلان يعرف من أين تؤكل الكتف···
هكذا، نَسَجَتْ "القصّيفي" شخصية "نجلا" كإحدى أهم شخصيات الرواية· هذه المرأة التي شَعَرَتْ على الدوام أنها "مغبونة" وحاملة لإرث متوارث لحالات من القهر المادي والمعنوي· ولهذا فإنها غامرت إذ دَفَعَتْ بابنتها "وردة" الى أحضان الضابط الفرنسي وذلك بهدف تخطِّي واقعها الرديء واخراج ابنها المتهم بتهريب المخدرات من السجن، والأمل بمستقبل مغاير لابنتها التي تشتَّت بعد ذلك بين الاسمين "وردة" و"روز" عبر مسارها الذي سلبها قمح القلب وغبطة الروح·
دفعت "نجلا" بابنتها الى حضن "الأم الحنون" مغلِّفةً- بالنتيجة ? شعورها بالإثم والخطأ بعبارة "كل الحق ع فرنسا"، وذلك لتتفادى "النَدَم" وطلب الغفران المتواصل الذي يمتصّ أيام العمر بالتقسيط، في مجتمع غَلَبَ عليه الطابع الشرقي المنغلق بنسبٍ متفاوتة، وعشّشت في وجدانه معتقدات دينية محافظة استندت اليها كل الاقليات دعماً لوجودها وتبريراً لخصوصيتها وحصصها···
"نجلا"، تلك المرأة التي تصارع في لاوعيها "الريفي" أمرين: حقدها على تركيبة المفاهيم "المدينية" من جهة، ورغبتها الجامحة الخبيئة في الارتماء بين ذراعيها من جهة ثانية، وذلك أملاً، بل طمعاً بالحصول على نوع من الرضا الغامض، فكانت كمن يحاول الدخول الى مجتمع "صناعي" ولكن بفكر "زراعي"! ولهذا فإن حياتها "تَشَنْطَطَتْ" بين "الشكوى والشَوْك والشكوك"، فأورثت "نَسْلَها" هذا "المثلّث" الشائك الذي لا يمتّ بصلة الى "الرحمات"!! فقد آمنت وبشكل غامض باستحالة العثور في الواقع "الأقلّوي" المتشرذم على وسادة ناعمة، واستحالة الوصول وتحقيق عصر "الطمأنينة".
لقد استطاعت الكاتبة أن تشكِّل من "نجلا" شخصية تكاد تكون "شكسبيرية" مأسوية بامتياز، وتجعلها محوراً في الحضور وفي الغياب لحقبة عاشها لبنان، حيث بَرَعَت "القصّيفي" في الاضاءة على تفاصيل صغيرة كانت طوال الوقت ? وربما الى اليوم ? مهملة، إما بفعل الجهل وإما بفعل المعرفة وتجاهلها، وأبرزت حراكاً بين أفراد هذه العائلة من آباء وأبناء وبنات وأحفاد تحكَّمت فيه المراءاة الى جانب الطيبة، والوداعة الى جانب التكاذب، والرفض الى جانب الخضوع مع ما رافقها ? جميعاً ? من أمور مفصليّة: الحب والحرب والخطف والقتل والقنص والزواج والقهر والهجرة والتهجير والاغتراب والعصفورية!!
كانت "نجلا" هي الأم والجدّة وصاحبة "القرار ? المغامرة" أو على الأصحّ "القرار المقامرة" فهي بموروثها ? كغيرها ? كانت الخزّان المفخَّخ من دون ساعة توقيت، والتي سَحَرَت حكايتها كاتبتنا "ماري" فأمَلَتْ عليها مسارها· إنها لحظات نادرة حين تأخذ الشخصية المكتوب عنها دور الكاتب او الراوي· انها المعاناة المضنية في محاولة بلوغ الصدق الروائي الذي يحوِّل الفكرة الى واقع مرئي حي، والنغم الى حركة، والمُهْمَل الى رائد، والمحايد الى طَرَف· هكذا سارت هذه الحكاية المتشابكة والهائمة بين معنى وقيمة الارض لدى اللبنانيين، لكأنّ هناك مسرى تاريخ من دون جغرافيا ومن دون "الناس" ولقد شكّلت شخصيات الرواية نماذج في الانتماء المُضْمَر ،وهي تفتش عن خلاص "برّاني" محاولة بذلك أن تستبدل أقفاصَها الصغيرة بأقفاص أكبر، من دون أن تفكر بالخروج من مفهوم ومناخ القفص· هكذا كانت الأمور مع الثنائي "ملفينا المسيحية وأحمد السنِّي الفلسطيني وتشتّت أولادهما وجانيت مع رياض "الدرزي"··· وتأتي شخصية "وردة ? روز" البنت "الهدية" لتشكّل امتداداً ضمنياً لوالدتها·
وعلى تقارب متخيّل مع رواية "ديورنمات" ((زيارة السيدة)) التي رجعت الى ضيعتها بعد غياب رفع من وضعها عاليا، لتنتقم من الآخرين على إذلالها المهين أيام صباها الغابر· الا أن "روز" عادت (وردة) لتنتقم ولكن بالتدمير الذاتي، وبسلوك درب الانتحار الملتبس، اذ أنها بهذا الاياب تود قتل "روز، ومحو(وردة)· هذه الثنائية في الاسم -من حيث الشكل-، كانت واجهة لثنائية اجتمعت فيها الاضداد والمتناقضات والازدواجية والتردد والشعور بالوحدة القاتلة، فتاهت بنت( نجلا) في صحراء موحشة تنتظر الذي لن يأتي·
حتى لو كان الانتداب الفرنسي قد خيّم وحطّ رحاله في بلدان عدة من العالم وكُتِبت عنه وفيه روايات وحكايات تحمل في ثناياها الروح الفرنسية، إلاّ أن رواية "كل الحق ع فرنسا" التي جرت أحداثها في ظلّه تبقى رواية "لبنانية" بخصوصيتها وتداعياتها وتواصلها الوثيق مع مسرى حياتنا الى اليوم· انها رواية عائلة، انها حكاية ناس هذا الكيان ورواية هذا البلد الذي لم يتغيّر عبر تلك السنين الاّ الى الأسوأ·
"كل الحق ع فرنسا" رواية "مشهدية" تحمل العديد من المفاصل السينمائية·
انها مقاربة أوليّة لهذه الرواية التي ارتكزت على رؤى استشرافية طاوَلَت المسكوت عنه وتخطَّت السائد والرائج والمألوف بلغةٍ متينة َوَقَفَت وراءها شاعرة وناقدة وروائية·
لا يمكن اختصار او ايجاز او تلخيص او حتى اختزال هذه الرواية، اذ لا بد من قراءتها·
***
عن دار سائر المشرق صدر لماري القصيفي رواية بعنوان (كلّ الحق عَ فرنسا) تدور في اطار بانورامي شاسع، تختلف وتتنوع أجواء السرد فيه بحيث يبدو أقرب إلى النص الروائي المفتوح·
***
في صحيفة اللواء اللبنانيّة
(كلّ الحق عَ فرنسا) لــ ماري القصيفي
عن دار سائر المشرق صدر لماري القصيفي رواية بعنوان (كلّ الحق عَ فرنسا) تدور في اطار بانورامي شاسع، تختلف وتتنوع أجواء السرد فيه بحيث يبدو أقرب إلى النص الروائي المفتوح·
من مقطع بعنوان"أحمد الأميركي" نقتطف "أنا أحمد الأميركي ولا نشيد لي، ولا وطن ولا تاريخ· أحمل بندقيتي وأمشي في شوارع بغداد وأطلق النار على كل ما يتحرك·
قالوا لنا:
<لا تثقوا بهؤلاء العرب، ولا تصدقوا ابتسامات نسائهم وعيون بناتهم>
لم أقل لهم إنّي كنت أحمد العربي قبل أن أتعمّد في شوارع نيويورك بالرماد الذي غطّى المدينة، وصرت أميركياً أصرخ:
(بالدم والروح أفديك يا بلادي الجديدة)
أنا لست مسلماً ولا مسيحياً ولا فلسطينياً ولا لبنانياً وأكره العرب· أنا أميركي، وآكل الهمبرغر وأشرب الكوكاكولا وألبس الجينز سبعة أيام في الأسبوع، وأنام مع صديقتي، ولا علم لي بمنطقة اسمها الشرق الأوسط· كلّ ما أعرفه أنني التحقت بالمارينز كي لا يشير إليّ أحد متهماًإياي بأنني من هؤلاء الذين يفجّرون أنفسهم ويقتلون الأطفال والأبرياء·
أنا أميركيّ وأريد أن أنشر الديمقراطية في العالم لكي يصير العالم كله مثل أميركا"·
تقع الرواية في 335 صفحة من القطع الوسط·
هناك 3 تعليقات:
Bonsoir Marie !!!
Dr ghazi kahwaji a très bien deccortiqué ton chef-d'aoeuvre bien sur ...moi , moi je ne pourrais jamais écrire comme les grands écrivains ,poètes ou auteurs...ce que je peux dire est que ton roman " farid mn nawou3ihi " tu traites de tous les problèmes de façon nette,simple et très réaaliste...ton roman est tellement touchant qqu on ne peut le lire sans pleurer à la page 43 ou à la page 93...ou dans plusieurs autres pages... je lis maintenant les dernières pages et du tout envie de les terminer...je sens comme si je suis devenue un personnage de ce conte ...et pas envie de quitter les lignes....j ai encore bcp de choses a dire ..mais je préfère les dire en arabe....à tres bientôt ...
لا تستهيني بقدرتك يا صديقتي على التحليل والنقد / فالقراءة الجيّدة هي إعادة صياغة للكتابة/ وهذا ما تفعلينه/ الإحساس لا يقلّ أهميّة عن الرأي الموضوعي العلميّ/ وكلاهما ضروريّ ليشعر الكاتب بأنّه حقّق غايته
اشكرك على كلماتك الصادقة والمعبّرة وإلى لقاء قريب نناقش فيه الرواية
شكراً دكتور غازي قهوجي
لقد شوقتنا لقراءة القصة
إرسال تعليق