المحتال والقبضاي |
2011
نشرت الرابط لهذا النصّ
نشرت الرابط لهذا النصّ
الآن دور المثقّف السوريّ، لا الشغّيل ولا العسكريّ
ارتبطت صفة "السوريّ" أو "السوريّة" في الذاكرة الجماعيّة
اللبنانيّة بمفردات قليلة: الشغيّل (أو الفاعل = العامل)
السوريّ، العسكريّ السوريّ،السجون السوريّة، المسلسلات السوريّة.
فبعيدًا عن طبقة المثقّفين اللبنانيّين التي تتواصل مع المثقّفين السوريّين وتعرف
قيمة ما يملكونه ونوعيّته وعمقه وشموليته، لا يبدو أنّ شرائح المجتمع اللبنانيّة
الأخرى على علم بوجود أطبّاء ومهندسين ومفكّرين وشعراء ومسرحيّين في تلك البلاد
القريبة والبعيدة في الوقت نفسه (لا تنسوا أنّ عائلات كثيرة تتوزّع بين البلدين)،
وليس في ذاكرة أكثرهم إلاّ شخصيّة "المحتال" غوّار الطوشي. يمكننا في
طبيعة الحال أن نتوسّع في التحليل والاستنتاج ونقول إنّ كلّ بلد يتميّز بأمور تبدو
لصيقة أكثر من سواها بطبيعة الشعب في هذا البلد: كأن نقول الأغنية المصريّة،
والأفلام الأميركيّة، والمعكرونة الإيطاليّة، والسيّارة الألمانيّة، والعطر
الفرنسيّ، والسيكار الكوبيّ، والساري الهنديّ، والحرب اللبنانيّة...إلى ما هنالك
من تسميات تتغيّر بتغيّر الظروف والمعطيات. وإذا كانت الأمثلة الأخيرة التي ذكرتها
معروفة في العالم، فصفة "السوريّ" في الأمثلة التي ذكرتها في بداية
الكلام لا توجد إلاّ في مجتمعنا اللبنانيّ نظرًا لتاريخ العلاقات المتشابكة بين
البلدين الجارين الشقيقين. وليس في الأمر فوقيّة كما قد يتبادر إلى الذهن بل توصيف
لواقع حال تختلط فيه الحاجة بالخوف، فالشغّيل السوريّ يشيع الاطمئنان إذ يعني
وجوده أنّ الأبنية سترتفع والأعمال ستتمّ بمواعيدها وبأقلّ كلفة ممكنة، في حين
تثير صورة العسكريّ السوريّ على الحاجز الرعب إذ لا يعلم أحد ما ينتظره من إهانات
وترهيب وإطلاق نار. أمّا الحديث عن السجون السوريّة فطويل كالمسلسل السوريّ لكنّه
حزين ومؤلم وبشع، ولا علاقة له بالجماليّة الفنيّة التي نجدها في الدراما
السوريّة.
لا شكّ في أنّ كلّ هذا أطبق على صدور المثقّفين والمفكّرين السوريّين الذين
كانوا، أثناء مجيئهم إلى لبنان، يرون مواطنيهم موزّعين على الطرقات: بائعين متجوّلين
فقراء، أو عسكريّين في حالة مزرية، أو عمالاً يتجمّعون عند مستديرات الشوارع
يتسابقون للعمل في ورش البناء أو في حراثة الأرض وقطف الغلال، وهؤلاء ليسوا
"سوريا" التاريخ، ولا "سوريا" الحضارة". لذلك ربّما هربت
الدراما السوريّة إلى الماضي، واستحضرت التاريخ هربًا من مواجهة خيبات الحاضر،
وغادر آلاف المبدعين بلادهم إلى حيث الحريّة وكرامة العيش، وكان لبنان أقرب ملجأ
لمن وجد فيه ضالته، وإلاّ فبلاد العالم الواسعة.
لا أخفي أنّ الكتابة عن الحال السوريّة لا يشبه الكتابة عن أيّة حال عربيّة
أخرى، فثمّة رقيب داخليّ نما فينا، نحن اللبنانيّين، وامتصّ دمنا طوال أعوام،
ويهدّدنا كلّما حملنا القلم أو جلسنا أمام شاشة الكتابة وهو يقول: "سوريا
ليست مصر أو تونس أو اليمن بالنسبة إلى اللبنانيّين، وأنت لا تعرفين كيف تنتهي
الأمور، فحذار التدخل في الشؤون السوريّة، بل يجب الانتظار كي تنحسم الأمور قبل
اتّخاذ موقف".
مخيف هذا الرقيب فعلاً، يهدّدني ولو كان كلامي دفاعًا عن المثقّفين،
ويخيفني ولو كنت أريد أن أرى في سوريا ما هو أكثر من شغّيل فقير لا يجد عملاً في
بلده، وأعلى شأنًا من عسكريّ سيق إلى الخدمة الإجباريّة، وأكثر من سجن تبكي حجارته
دمًا أجبروها على امتصاصه من شرايين الأسرى والمعتقلين، وأكثر من مسلسل نهرب فيه
إلى الماضي كي لا نواجه الحاضر.
ولعلّ هذا أسوأ ما يمكن أن يلتصق بتاريخ سوريا الحديث: الخوف منها، لا
عليها، في سلمها وخلال ثورتها، وهو أمر لا يغفره وطن لحكّام غرّبوه عن أهله
وجيرانه.
***
2012
ثورة في حجم سيكارة
نحن
لا نعرف كيف نشعل ثورة،
نحن نعرف كيف نشعل سيكارة إن غضبنا من رئيسنا في العمل ولم
نستطع أن نواجه غباوته لأنّ "في رقبتنا" عائلة وأولادًا وأقساط مدارس،
أو سيكارًا إن كثرت علينا طلبات الفقراء والمحتاجين والمرضى
والمسرّحين من أعمالهم،
أو إطار سيّارة إن دُفع لنا راتب في الأرض ووعدنا بأجر آخر في
السماء،
أو أشجار سنديان عتيقة إن أردنا أن نبيع الأثرياء حطبًا
لمواقدهم أو فحمًا لأراكيلهم.
أو بخورًا أمام رجل ذي جبّة يعدنا بتخليصنا من شياطين
الرغبات...ليكون لها مسكنًا.
أو شمعة نضيئها ليعود من نحبّهم سالمين إلى البيت بعدما سمعنا
دويّ انفجار.
نحن لا نجرؤ على إغلاق أبواب مدينتنا وحرق أنفسنا كي لا نقع في
أيدي الغزاة،
نحن نتذاكى على "الأعداء" فنفتح لهم أبواب ملاهينا
وسيقان نسائنا كي نسرق أموالهم وننال رضاهم ونتحاشى سوء مزاجهم.
**********
نثور على الذلّ فنغتصب نساءنا وأطفالنا،
ونثور على الفقر فنضرب أولادنا،
ونثور على الجوع فنعضّ أصابعنا،
ونثور على الخوف فنغرق في المهدّئات،
ونثور على اليأس فنهرب إلى المخدّرات،
ونثور على رجال الدين فنشكو أمرنا إلى الله،
ونثور على رجال السياسة فنفضح أخبارهم أمام رجال المخابرات،
ونثور على العسكر فنشتم مراسلي التلفزيون،
ونثور على مذيعي أخبار البؤس فيشرب والدنا كأسًا وتتلو والدتنا
صلاة وننام على أمل ألاّ يطلع الصباح.
*********
تاريخ البطولة صار مواضيع للمسرح والأغنيات،
تاريخ القداسة أمسى دخلاً للمطاعم وصناديق النذورات،
تاريخ الحروف الأبجديّة محته رئيسة المدرسة عندما طلبت من والد
الطفل أن يبيع أرضه ليدفع القسط.
تاريخ اللون الأرجوانيّ الملكيّ صار حاضر الدم ومستقبل
العبوديّة.
تاريخ الحجر المستخرج من رحم الأرض ليكون قلاع المجد صار بيت
الزجاج الذي لا يجرؤ أصحابه على رشق الآخرين بحجر.
تاريخ الجسور المرفوعة بعزّ فوق أنهر الحياة، صار متاريس من
الحقد في أزّقة الموت.
تاريخ "الدبكة" التي تهزّ الأرض محته
"النواعم" اللواتي يهززن الصدور.
**********
لا نغضب إلّا على كتب الأبراج وأقوال المنجّمين والنشرات
الجويّة إذا لم تلائم توقّعاتنا ومشاريعنا أو على نهاية المسلسل لأنّها لم تكن كما
أردناها، أو على خروج متبارية من برامج النجوم لأنّها كانت تمثّل "قيم"
بلدنا و"ميزاته" الوطنيّة و"تراثه" الفنيّ.
لا نرفع صوتنا إلّا على المتسوّل إذا اقترب من السيّارة، أو على
النادل في المطعم إن تأخّر في إحضار الطبق، أو على الصبيّ عند مزيّن الشعر إن كانت
المياه أكثر حرارة أو برودة ممّا نرغب، أو على الخادمة الأجنبيّة إذا تعبت، أو على
التلميذ إذا خاف عندما سمع صوت انفجار، أو على العجوز التي تعبر الطريق وأخّرت
سيرنا نحو الهدف المنشود، أو على شرطيّ السير ما دام لا يسمعنا.
لا نرفع إصبعنا مهدّدين إلّا "في وجه" الكاميرا ولا
نشتم إلّا من أطلق بوق سيّارته لنسمح له بتجاوزنا بعدما غرقنا في حديث تلفونيّ
حميم ونسينا أنّ الطريق ليست ملكًا خاصًا لنا، ولا نزعق غاضبين إلّا في أذن جدّنا
الأصمّ، ولا نسخر هازئين إلّا في وجه زميلنا إن قدّم فكرة ذكيّة لم تخطر على بالنا.
******
وفي انتظار الثورة الكبيرة التي لن تأتي دعونا نشعل سيكارة
ممنوع تدخينها حيث صنعت، فمن الواضح أنّ هذا كلّ ما نستطيع فعله لنطفئ ثوراتنا
الصغيرة، الصغيرة، الصغيرة، الصغيرة، الصغيرة، الصغيرة.
العقل وعلامات الاستفهام والتعجّب
يخيفني
العقل البشريّ بقدر ما يثير فضولي وإعجابي ودهشتي. أخاف منه بقدر ما أخاف عليه.
حين التقيت الممثّلة المسرحيّة رضا خوري وراقبت ما كانت تفعله
طيلة الوقت الذي أمضيته معها كنت أخشى أن تكون في كامل وعيها، ولكنّها أسيرة حاجز
ما يمنعها من الوصول إلينا، كانت في مرحلة متقدّمة من مرض الإلزهايمر، وكانت
والدتها العجوز هي التي تخدمها وترعى شؤونها وتتذكّر عنها. أمّا هي فكانت في عالم
آخر. أحببت في ذلك اليوم أن أفكّر في أنّ رضا تؤدّي أحد أدوارها، وأنّها ستخلع
عنها بعد قليل قناع التمثيل لتعود إلينا. في لحظة من اللحظات، شعرت أنّها تعرف ما
يجري. فحين كانت والدتها تريني ألبوم الصور لمسرحيات ابنتها وأعمالها، تململت رضا
في مكانها وأرادت النهوض، فساعدتها خادمة تساعد الأم المريضة في جسدها والابنة
المريضة في عقلها. وبعدما انتصبت واقفة بعد معاناة توجّهت إلى غرفة نومها وهي تجرّ
نفسها بصعوبة رافضة أن تبقى في مكانها، ثمّ عادت حاملة إليّ صورة فوتوغرافيّة لها
كانت موضوعة قرب سريرها وتظهرها في أحد أدوارها المهمّة. كانت رضا تعرف في ذلك
الوقت ماذا أفعل عندهم. وبالفعل نشرتُ الصورة مع التحقيق وقلت إنّها من اختيار رضا
نفسها.
كان يدهشني دومًا في مرضى الألزهايمر ميلهم إلى الشتائم
واللعنات على أقرب المقرّبين منهم. وكنت شاهدة على حال سيّدة مريضة لا تتوقّف عن
الكلام البذيء والشتائم كأنّ لاوعيها يفرغ كلّ ما كان يحرّم عليه إخراجه. فجاء
المرض وأطلق الأمور من عقالها.
بعيدًا عن هذا المرض، أذكر في كثير من الأسى تلك الشابّة التي
وضعوها في غرفتي في المستشفى لأنّها كانت مصابة بنزيف. كنت صغيرة وخاضعة لعمليّة
جراحيّة في رجلي تمنعني عن الحركة. وفي أوائل الليل، انفجرت أصوات القصف في مكان
ما من بيروت، فتوتّرت أعصاب المريضة وخرجت عن إطار السيطرة. علمت فيما بعد أنّ
المرأة كانت في مركز للأمراض العقليّة، وأتوا بها إلى هذه المستشفى لعلاج نزيفها.
ولم يكن من المسموح أن يضعوها مع أحد.
في ذلك الوقت كانت الحرب تسمح بمخالفات كثيرة فهل سيهتمّ أحد
بمجنونة موضوعة في غرفة واحدة مع طفلة.
أذكر المشهد كما لو أن الأمر حدث اليوم: كيف كانت تحضن المخدّة
على اعتبار أنّها ابن أخيها الذي كانت تحبّه على ما يبدو بشكل مميّز، وتغنّي
للمخدّة، وتقفز بها من زاوية إلى زاوية هربًا من قصف موجود في تلك اللحظة في رأسها
فقط، إلى أن اختبأت تحت السرير وهي تصرخ.
ثمّ أخذت تقترب منّي لتخبّئني تحت الغطاء كي لا يطالني القصف.
لم تنفع محاولات الأطباء والممرضات في تهدئتها رغم الأدوية التي
أعطيت لها والحقن. ولما لم يكن هناك مجال لوضعها في غرفة أخرى بقي طبيب وممرّضة
طيلة الليل حاجزين بيني وبينها.
لا أذكر أنّني كنت خائفة منها، بقدر ما كنت أراقب ما يجري
وأحاول أن أفهم. كان الدم النازف منها يملأ المكان ويلوّث ملابسها وفراشها وغطاءها
ولم يكن من مجال لترتيب وضعها وتصحيحه قبل أن تهدأ. وكانت عيناي المفتوحتان ترصدان
كلّ حركة وكلّ كلمة وكلّ نقطة دم. وساعدني الضوء الذي أبقوه مشتعلاً على تثبيت
نظري عليها وملاحقتها في رقصة رعبها الطويلة والمرهقة.
في ساعات الفجر الأولى، غرقت المرأة النازفة في نوم عميق بعدما
أعطى خليط الأدوية مفعوله أو بعدما تعبت. لا أدري. ولكن حين تمّ نقلها على سرير
متحرّك إلى سيّارة إسعاف لإعادتها إلى المصحّ العقليّ كانت المرأة لا تزال نائمة.
أهلها الذين أتوا لمرافقتها اعتذروا من أهلي عن ليلتي الصعبة كما وصفوها. وقالوا
إنّ الحرب هي التي فعلت ذلك بها، وأنّها فعلًا متعلّقة بابن أخيها الطفل وتخاف
عليه.
أعتقد أنّ ارتباط الجنون بالحرب وثيق، فالجنون يولّد الحرب
والحرب تنتج الجنون. حلقة مفرغة يدور فيها الإنسان. ولهذا سيبقى العقل البشريّ
بالنسبة إليّ أمام علامات استفهام وعلامات تعجّب لا نهاية لها.
***
حين
أرغب في الكتابة إليك لا أستعمل القواميس والمعاجم لكي أبهرك بلغتي، ولا أسعى لكي
أكون أهمّ شاعرة عرفها التاريخ.
حين أرغب في الكتابة إليك لا أفكّر إلاّ في أنّ الكلمات قد تكون
الطريق الأجمل والأسهل التي توصلني إليك لا إلى جائزة نوبل للآداب.
رجاء!!!
في مثل هذا الطقس، ما حدا يكتبلي أقبّلك بحرارة
ما من
بداية تشبه الأخرى أمّا النهايات فواحدة
2014
"البحث عن رجل أزعر"
ليس عنوان رواية أو فيلم أو مسرحيّة
هو شعار المرحلة
فحين تسقط الدولة
وتنتن الطوائف
وتغتال الطفولة
وتباع النساء في أسواق النكاح
وتشرّد الشيخوخة
يصير "الأزعر" هو المخلّص
الأزعر الآدميّ
الأزعر الشجاع
الأزعر الكريم
الأزعر الشاعر
الأزعر الجنتلمان
***
المرحلة دقيقة، فالرجاء إعادة الاعتبار لمفهوم الزعرنة، وحصرها
بمن يستحقّ!
ما
يطمئنك في الكابوس أنّك تعرف في عمق لاوعيك أنّه كابوس، وستنجو منه!
***
ما يؤلمك في الحلم أنّك ستستيقظ منه مهما كان جميلًا...
أن
يرتدي مريضان زيًٌا موحّدًا لا يعني أنّ وجعهما واحد!
صرخت
أمّ الجنديّ الشهيد:
اخرجوا واسهروا وارقصوا وغنّوا واعشقوا وعيشوا
لا تدعوا دم ابني يذهب هدرًا!
من شارع المتنبّي إلى سائر فروعه على الأراضي اللبنانيّة
لم أعد أعرف هذا البلد. ولم أعد واثقة من أنّني ما زلت أقيم فيه كم
هو في الواقع. إذ يخيّل إليّ إنّني صرت ابنة وطن غير موجود إلّا في البال، ولن
يبقى إلّا هناك. أمّا هذا الـ"لبنان" فهو أشبه ما يكون بامتداد طبيعيّ
لما عُرف قديمًا بشارع المتنبّي. وهو امتداد حصل في لحظة تشظّ وقحة، إذ كان يكفي
أن تتّحد مصالح بعض رجال السياسة مع مطامع بعض رجال الدين كي يصير لبنان ما هو
عليه اليوم: يصلح لأن يكون أيّ شيء إلّا أن يكون وطنًا.
فأيّ وطن هذا الذي يتعامل نصف أبنائه، بالفكر أو بالفعل،
مع إسرائيل، ويعمل نصفه الآخر لمصلحة سوريا، ولا أحد منهم يحبّ لبنان؟ وأيّ وطن
هذا الذي يؤمن بعض شبابه بأنّ تاريخه بدأ مع تأسيس وسط المدينة وأنّ جغرافيّته
تمتدّ من مونو وتنتهي في الجمّيزة، والبعض الآخر يؤمن بأنّ الموت في سبيل الأرض
أجمل من الحياة عليها والزراعة فيها والبناء فوقها؟
فلنسمِّ الأشياء بأسمائها: ثمّ عهر في هذا البلد كسا
بوقاحته وبشاعته وفجاجته كلّ شيء: السياسة والدين والتربية والصحافة والفنّ والطبّ
والحياة الاجتماعيّة. ويكفي أن تسمعوا ما يقوله المغتربون الآتون من بلاد الحريّات
لتعرفوا أنّ ما يرونه ويسمعونه في لبنان لا علاقة له بالحريّة ولا بالانفتاح ولا
بالتقدّم ولا بالحداثة. فهؤلاء يحملون أولادهم وبناتهم بعد إقامة قصيرة في البلد
ويهربون بهم عائدين إلى حيث توجد قوانين تخصّص للعهر شوارع وأمكنة وتترك للفكر كلّ
الشوارع وكلّ الأمكنة.
لا أدري إن كان ما يجري على المسابح الخاصّة يوضع تحت
خانة الرياضة والترفيه، ولا أعرف إن كان ما تنشره المجلّات الإلكترونيّة عن
العلاقات الجنسيّة المدفوعة الثمن والشذوذ من ضمن التسويق لصورة لبنان السياحيّة،
ولست واثقة من أن ما يرويه سائقو التاكسي الذين ينقلون ليلاً القاصرين والقاصرات
من وإلى الملاهي الليليّة لم يصل بعد إلى مسامع المعنيّين، ولا أجزم بأنّ الموظّف
الذي يعيش أميرًا مترفًا براتب لا يتعدّى الحدّ الأدنى بكثير لا يعرف في قرارة
نفسه بأنّه حرامي، ولا أظنّ بأنّ النكات الوقحة التي يحفظها الأولاد من برامج
تلفزيونيّة ويتناقلونها تمتّ بصلة إلى التربية أو إلى حريّة الإعلام. ولكن ما
أعرفه هو أنّ هذا الشرخ الهائل بين الأصوليّات الدينيّة من جهة والإباحيّة على
مختلف مُتعها من جهة ثانية صار هوّة مخيفة ابتلعت العلوم والفنون وكلّ إصدارات
الفكر. وحين تتفلّت الغرائز الدنيا من روابطها وتميل نحو طرفَي النقيض في كلّ جانب
من جوانب حياتنا لا يبقى مجال للنقد أو التحليل أو المنطق السليم.
نحن مجبرون دائمًا على خيار من اثنين ولا مجال لثالث له
حججه وبراهينه واحتمال صحّته: عون أو جعجع، الأصوليّة السنيّة أو الأصوليّة
الشيعيّة، أميركا أو إيران، عملاء أو مقاومون، ورثة عاصي أو ورثة منصور الرحباني،
العري أو الحجاب، الوحي أو العقل، التراث أو الحداثة، الثابت أو المتحوّل، معنا أو
ضدّنا. كلّها بأسبابها ونتائجها أمور تستحقّ منّا التوقّف عندها في قراءة نقديّة
واعية بعيدًا عن الأحكام المسبقة والنتائج غير القابلة للنقاش. وكلّنا معرّضون
للانحدار إلى درك غرائزنا حين نسكت العقل ونناقش إنتاجاته بمنطق المحرّم والمحلّل.
وأكثرنا ممّن عاصر الحرب اكتشف فيه ذلك الميل إلى لغة العنف حين جرّته لغة الآخرين
إلى ذلك، ولم يكن يعرف أنّها فيه وأنّه يملكها. ولكنّ التحدّي كان في ضبط هذه
اللغة لتحويلها بطريقة ما طاقة إيجابيّة فاعلة وخلاّقة. الحياة قائمة على
ثنائيّات، ولكنّ الحياة نفسها هي العنصر الثالث الذي يتكوّن من برمجة هذه
الثنائيّات بحسب مقتضى الأحوال. وما هو ملائم لواقع الحال اليوم قد لا يكون كذلك
غدًا، وما يصلح لهذا المكان قد يكون مدمّرًا لسواه، وما ينفع الإنسان في هذه
الظروف بالذات قد يؤذيه في ظروف مغايرة.
كم تبدو اللغة عاجزة حين تفشل في إيجاد توصيف لحالة كالتي نحن
فيها، حتّى كلمة العهر تبدو في غير محلّها، لأنّ بعضنا يسيء إلى العهر نفسه حين
يدّعي عكسه وهو يمارسه ولو خاشعًا في معبد، أو موجِّهًا فوق منبر، أو كأنّنا في
استخدامنا الكلمة نهين من يعترف بكونه (ها) كذلك ويمارسه علنًا وصراحة، فنضمّه إلى
قائمةِ من وصل إلى مرحلة مقيتة من الخبث جعلته يصدّق أنّه أفضل من سكّان شارع
المتنبّي: قوّادين وعاهرات.
***
2015
حبيبي
بترجّاك
أرجوك
دخيلك
بهيدا الطقس
ما تحبّني بحرارة
فيك تكون الليلة بارد
أرجوك
دخيلك
بهيدا الطقس
ما تحبّني بحرارة
فيك تكون الليلة بارد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق