بيروت في ستّينات القرن الماضي |
2010
سأل
الغبيّ سيّده: يا سيّدي يقول الناس إنّني غبيّ فهل هذا صحيح؟ أجاب السيّد: وهل أنا
غبيّ لأعيّن رجلاً غبيًّا مستشارًا لي؟ فأجاب الغبيّ وهو في حال من الدهشة: حقًّا
إنّك ذكيّ يا سيّدي، كيف عرفت أنّ الناس يقولون: لو لم يكن سيّده أغبى منه لما
عيّن رجلاً غبيًّا مستشارًا له!!!
لكي
لا يبحث المسيحيّون اللبنانيّون عن مُدافع عنهم غير الجيش اللبنانيّ يجب على
الكنيسة أن تقيم القداديس في عيد الجيش على نيّة العسكريّين والضبّاط الراحلين
والأحياء.
2011
ارتبطت التحرّكات الشعبيّة العربيّة من
اللحظة الأولى بالفقر والجوع والمرض، لا بحريّة الرأي والتعبير وممارسة العمل
السياسيّ والنقابيّ. فحين أضرم محمّد بو عزيزي النار في جسمه بعدما صادرت البلديّة
عربة الخضار التي كان يعتاش منها، لم يكن يحلم بقصيدة أو كتاب بل برغيف ودواء،
وهذا ما يتناساه المثقّفون حين يكتبون عن "ثورات" العالم العربيّ،
فيشكّلون بذلك الخطر الأوّل على هذه التحرّكات، الخطر الذي يكاد يوازي خطر السلطة
السياسيّة، لأنّه يشبهها في تعاميه وتعاليه عن الحدّ الأدنى والأبسط من حاجات
الناس الأساسيّة. لقد شاهدنا كلّنا الناس في شوارع تونس ومصر واليمن وليبيا
وسوريا، ورأينا الأفواه التي فقدت أسنانها وأضراسها، والأجساد التي تخبّئ جوعها
تحت الأطمار البالية، والأيدي المرتفعة أمام الكاميرات بأظافرها المتّسخة. هؤلاء،
على اختلاف أعمارهم وثقافتهم، ناقمون على العوز والفقر وغاضبون لأنّ الأنظمة سرقت
اللقمة من أفواه أولادهم والمستقبل الآمن من أحلامهم. غير أنّ ما نقرأه في صحافة
العالم العربيّ وما نسمعه عبر وسائل الإعلام يبيّن الأمر كأنّ الشعوب العربيّة
الأميّة الفقيرة الجاهلة المظلومة المريضة الجائعة لا همّ لها سوى قانون الأحزاب
وحريّة العمل السياسيّ والانتخابات النزيهة. لا يعني هذا الكلام أنّ الحريّة أمر
ثانويّ لا يستحقّ الثورة من أجله، لكنّ الإنسان منذ لحظة تكوّنه يحتاج إلى من
يؤمّن له حقّه في الحصول على الطعام والشراب والعلاج قبل التعبير، لذلك يتنفّس
ويتغذّى قبل أن يتكلّم ويمشي، فمن الترف الحديث عن حريّة الفكر أمام انتشار الفقر
والمرض، ومن المعيب التباحث في مفهوم الديمقراطيّة أمام الفقراء والمرضى.
مشكلة الثقافة العربيّة نأيها عن
الإحصائيّات، فأمور كثيرة تتغيّر في مقاربتنا مختلف الموضوعات إن عرفنا مثلاً عدد
الذين قتلتهم إسرائيل منذ قيامها في مقابل عدد الذين قتلتهم أنظمة الصمود
والتصدّي، أو كمية المبالغ التي صرفت على تسلّح الجيوش العربيّة في مقابل
ميزانيّات التربية والاستشفاء والزراعة، أو إن علمنا كم تبلغ نسبة الشعراء
والروائيّين الذين ماتوا معوزين مرضى متروكين من دون اهتمام شعبيّ أو حكوميّ في
مقابل المستفيدين من الأنظمة، أو عدد المهاجرين الهاربين من القمع في مقابل عدد
المهاجرين طلبًا للرزق، والرقم الأكثر تعبيرًا عن حقيقة الوضع سيكون عدد الأثرياء
أو على الأقلّ الميسورين الذين شاركوا في التحرّكات الشعبيّة. ويكفي أن ننسب
التحرّكات إلى الشعب كي نستنتج أنّ الأهداف في الدرجة الأولى هي تحصيل الحدّ
الأدنى من المطالب المعيشيّة، أمّا الحريّة فلا يأتي على ذكرها إلّا نوعان من
المطالبين: الذين هم مشاريع شهداء وهؤلاء قلّة، والذين يعرفون أنّ كلامهم عن
الحريّة لن يقدّم ولن يؤخّر ولن يسبّب لهم خطرًا، وهم الكثرة طبعًا.
تعيد فضيحة التنصّت الأخيرة في
بريطانيا طرح الأسئلة العميقة، فإذا كانت أعرق الديمقراطيّات السياسيّة والصحافيّة
غرقت في الفساد وأساءت إلى الناس وشوّهت مفهوم الحريّة، فكيف ننتظر من الحريّة أن
تنقذ العالم العربيّ الغارق اليوم في الأميّة والجهل والتعصّب والفقر؟ وهل علينا
أن نحرّر المجتمع ثمّ نعلّمه أم يجب أن تسبق المعرفة الحريّة وتمهّد لها؟ وهل تكفي
البراعة في استخدام وسائل الاتصال الحديثة التي تنقل المعلومات بسرعة لا تسمح
بالتحليل والتفكير للقيام بثورات؟ وكيف يطالب الناس أنفسهم بالتحرّر من سلطة
الديكتاتور ويرفضون في الوقت نفسه التحرّر من أحكام مسبقة تطال الدين والمذهب
والعرق واللون والمرتبة الاجتماعيّة؟ وهل الحريّة هدف نسعى إليه ونضحّي من أجله أم
هي وسيلة نصل من خلالها إلى حياة كريمة لائقة؟
تعامل المثقّفون العرب مع الحريّة
كهدف، لذلك لم يضعوا مخطّطات لما بعدها، كأنّ تحقيقها هو الغاية التي ما بعدها
غاية ومن أجلها تبرّر الوسائل مهما كان نوعها وأسلوبها، أو كأنّ هذه الحريّة هي
الجواب الوحيد على كلّ الأسئلة والحلّ الفريد لكلّ المشكلات. في حين أثبتت التجارب
في كلّ المجتمعات أنّ الإنسان الحرّ هو الغاية، لا الحريّة، وللإنسان الحرّ جسد
يجب أن يتنفّس ويأكل ويشرب وينام، وعقل يحتاج إلى غذاء وحوافز ومكافآت، وروح عليها
أن تستمتع وتسعد وتطمئنّ، وكما لا يجوز أن يعطى الإنسان غير المؤهّل، جسدًا وعقلاً
وروحًا، حريّته كي لا يؤذي نفسه والآخرين، كذلك لا يبدو من الصائب أن توضع حريّة
المجتمعات مطلبًا يسبق أبسط شروط الإنسانيّة في مجتمع مدنيّ متمدّن حديث. فسكّان
الغابات البدائيّون أحرار ولكنّ حريّتهم تنقاد إلى غريزة تجعلهم يبحثون عن الطعام
والماء والتناسل والأمان، وشعوب البلدان الشيوعيّة وعدوا بتأمين العدالة
الاجتماعيّة ولو على حساب حريّتهم الشخصيّة، وشعوب البلاد الاسكندنافيّة تنعم بكلّ
ما يحتاج إليه إنسان هذا العصر فضلاً عن حريّة شخصيّة لا حدود لها، ومع ذلك فكلّ
هذه المجتمعات لا تزال تبحث عمّا ينقصها. ما يعني أنّ الحريّة المطالب بها هي تلك
التي ترتقي حضاريًّا إلى ما هو أسمى من حريّة الإنسان الغريزيّة من دون أن تتحقّق
على حساب حاجاته البدائيّة. وهنا يكمن جوهر المشكلة، إذ كيف يمكن إيجاد نظام جديد
فيه من الحزم ما "يفرض" على الناس التعلّم والرقيّ والتمدّن والفكر
الواعي والثقافة المنفتحة، و"يربّيهم" في الوقت نفسه على الحريّة
المسؤولة، ولا يغرقهم في ترف الحياة فيفقدون متعة التحدّي والمثابرة والسعي.
لقد ارتبطت الحريّة مع المثقّفين العرب
حتّى الآن بعناوين بارزة هي حريّة التعبير وحريّة المرأة والحريّة الجنسيّة، فصارت
موضوعات أثيرة في مختلف أنواع الفنون. حتّى القضيّة الفلسطينيّة لم تستطع على
أهميّتها وخطورتها أن ترتقي بالحريّة إلى مستوى أكثر شمولاً يطال عمق الإنسان
ودوره في الحياة. وها هي تحرّكات الشعب العربيّ تثبت أن لا قمع المفكّرين حرّكهم
(قضيّة نصر حامد أبو زيد مثلاً)، ولا جرائم الشرف أخرجت الناس إلى الشارع
للاعتراض، ولا أنساهم الكبت الجنسيّ حاجتهم إلى الرغيف، حتّى فلسطين نفسها، وهي
أرض مقدّسة عند المسيحيّين والمسلمين، لم يدفعهم اغتصابها وتغيير معالمها إلى
الثورة العارمة. ولعلّ السؤال المعضلة الآن هو: هل الحريّة التي يطالب بها
المثقّفون العرب من المحيط إلى الخليج لها السمات نفسها على اختلاف تواريخ هذه
الشعوب وأديانها ومستوياتها الثقافيّة والحضاريّة والاجتماعيّة؟ الخشية في أن يحمل
الجواب اتفاقًا على مبدأ الحريّة من دون الدخول التفاصيل، وفي التفاصيل يكمن شيطان
الشرذمة والتفتيت.
2012
في
ساعات الصباح الأولى، قبل أن تبدأ حركة الناس والحياة، أشتاق إليك:
في تثاؤب الطرقات، وكسل العصافير، وبرودة النسيم؛
في نعاس الأطفال، وهمس النساء، ووسع الساحات؛
في الوقت الذي يفصل بين أحلام الليل وواقع النهار، كنت أحبّ أن
أكون بين ذراعيك!
لماذا كنّا نحبّ أن نلتقي في ساعات الصباح الأولى؟
لماذا كنّا نذهب إلى العشق في وقت يستعدّ الناس فيه للذهاب إلى
العمل؟
لماذا كنّا نحبّ الحبّ في الضوء ونتحدّث عنه في الليل؟
كانت ملابسي الرياضيّة الخفيفة وسيلتي لكي أقول لك كم أنا
مشتاقة ومستعدّة، ولن أدع الملابس الأنيقة تعيق انطلاقي إليك ووصولك إليّ.
كصلاة صباحيّة، أحببت دائمًا أن أبدأ نهاري بك، فأكون مطمئنّة
طوال اليوم إلى أنّك معي.
كطعام فطور شهيّ، أحببت دائمًا أن أبدأ نهاري بك، فأكون قادرة
على مواجهة الحياة.
حين كنت أخلع ملابسي وأندسّ قربك، كنت أعرف أنّك استعددت
لاستقبالي بحمّام صباحيّ، وحلاقة ناعمة وتنظيف أسنان، فتفوح من الفراش رائحة غريبة
هي مزيج من دفء الليل مموّه بنكهة الصابون الثمين، فأغرق في العطر الأليف وأكتشف
كلّ مرّة خدعة نعاسك ومحاولاتك الدائمة العودة إلى النوم كأنّي أزعجتك بحضوري
"المفاجئ".
الليل للثرثرة، للكلام، للأحلام، للمشاريع، لاستكشاف الطرقات
والقرى الغارقة في النوم.
والنهار للناس، للعمل، لاتّصالات سريعة، للقاءات عاجلة.
أمّا الصباح فللحبّ.
هكذا كنّا نوزّع أوقات لقاءاتنا، ما كان يثير حيرة أصدقائنا
الذين اتهمونا دائمًا بالجنون.
كنّا نمارس الحبّ في هدوء، العينان غارقتان في العينين، ينظر
الواحد إلى ما يجري في أماكن أخرى من الجسد من خلال عيني الآخر. لا موسيقى، لا
شموع، لا كلام، همسات، فقط مجرّد همسات تحضن تحت شفافيّتها صرخات شبقة تقتحم الآخر.
وكنّا نتناول الفطور، ونستحمّ، ويراقب الواحد منّا الآخر وهو
يرتدي ثيابه، ونلعب، ونتراشق بالوسائد، ونغيّر ملاءات السرير، ونكوّم المناشف
والشراشف للغسيل، وننطلق إلى عملينا كأنّ شيئًا لم يكن. كأنّنا لم نخرق قوانين
الصباح، أو كأنّنا لم نتأخّر عن العمل، أو كأنّنا لم نتصرّف كمراهقين عاجزين عن
الإقامة تحت سقف واحد فيلتقيان سرًّا.
وعلى الرغم من كلّ ذلك، كنّا نحبّ أن نغفو منفصلين، في بيتين،
في غرفتين، ولكن ليس أبدًا في سرير واحد أو غرفة واحدة. كنّا متفقين على أنّ النوم
يغيّر طبيعة الإنسان، لا يعود هو نفسه، يصبح كائنًا آخر، مستسلمًا، غير واع، غير
حيّ.
وكنّا نريد الحياة والحركة.
هل كان الواحد منّا يخشى أن يرى الآخر نائمًا فيظنّه ميتًا؟
ولماذا أكتب دائمًا عنّا في صيغة الماضي، ولماذا أستعمل الفعل الماضي الناقص كان؟ هل لأنّ الحبّ مهما اكتمل يبقى ناقصًا؟ هل لأنّني أعرف بأنّ الحكايات الجميلة تبدأ بـ"كان يا ما كان"؟ أو هل لأنّني أعرف بأنّ الآخر سيبقى خارجك مهما توغّل فيك؟
صارحني
الله اليوم بأنّ شهيّتي لشفتيك تمحو كلّ ذنوبي
أمواتنا
يبكون علينا
2014
منتصف الليل بتوقيت القلب (1)
أحسد عقربَي الساعة
يتعانقان عند منتصف الليل أحسد عقربَي الساعة
فيلدغني الحنين إليك.
منتصف الليل بتوقيت القلب (2)
أنتَ على صفحتكَ
وأنا على صفحتي
ألا يمكن لصفحتين أن يكوّنا سريرًا؟
أنتَ على صفحتكَ
وأنا على صفحتي
ألا يمكن لصفحتين أن يكوّنا سريرًا؟
***
عزيزي
غسّان سعود، ليت روايتي كانت الفصل الأخير من مسلسل التهجير... لكن لا أحد يريد أن
يتعلّم من دروسنا... أنت تذكر طبعًا أنّني قلت في روايتي عن حرب الجبل إنّ السفن
التي كانت تحمل، خلال الحرب العالميّة الأولى، المهاجرين المسيحيين الهاربين من
الجوع، هي نفسها كانت تحمل اليهود إلى شواطئنا... كانت تلك المرحلة الثانية بعد
مجازر 1860... وها نحن في مرحلة جديدة/ قديمة...
شكرًا لك من القلب
ليست مشاهد من وثائقي
«التهجير الأخير» للصحافية رندلى جبور، ولا فصلاً من كتاب الشاعرة ماري قصيفي
«للجبل عندنا خمسة فصول». ما يحصل في الموصل، استكمالاً لما بدأ في سوريا بخطف
المطرانين وراهبات معلولا وتهجير آلاف المسيحيين، يحصل في صيف 2014. ليس النائب
إميل رحمة من يروي «حكاية» اقتراح موفد وزير الخارجية الأميركي السابق إلى بيروت
دين براون على الرئيس سليمان فرنجية أن ينقل الأسطول الأميركي المسيحيين
اللبنانيين إلى حيث يريدون.
***
في
هذه اللحظة بالذات
في هذا المكان الافتراضيّ الذي يشبه مرّات الجنّة ومرّات الجحيم
نسيت أين أنا
وكدت أكتب على صفحتك حالتي الآن:
حبّنا جميلٌ، جميلٌ جدًّا، كطفل لن ننجبه
قال
لي طبيب العيون في المعاينة الروتينيّة:
ما زال نظرك يعاني من المشكلة نفسها: أنت لا ترين سواه!
***
حسنًا، أعترف
أعترف وأنا في كامل عشقي
بأنّ القصيدة التي لم تكتبها بعد
هي التي تشدّني إليك!
عن
جد وبلا مزح وبلا حكي شعر
فيك تقللي شو السرّ بقميصك الأزرق؟
وليش بس إلبسو أنا بيصير لوني زهر؟
2015
صحيفة
"النهار" - الثلاثاء 11 آب 2009
لو كان للصيف في لبنان أمّ لما بكت عليه، أو لربّما بكت في
الجبال لا في المدن الساحليّة. في الجرود العالية حيث الهواء النظيف المنعش لا في
المدن المكتظّة بالسكّان المقيمين في علب من الباطون والزجاج ويتنشّقون هواء
اصطناعيًّا تضخّه مكيّفات توهم بصيف كالذي كان، وفي القرى الهانئة الساكنة الساكتة
لا في الأحياء القذرة والأزقّة الضيّقة، وتحت الأشجار الخضر الوارفة الظلال لا بين
جدران البيوت الصمّاء.
لو كان لصيف لبنان أمّ لما بكت عليه بل على شبّان يقتلون على
الطرق، لأنّ موسم السياحة يفرض التساهل في الأمن، ولأنّ الضيافة تقضي بأن نفتح
أبوابنا وبيوتنا وقلوبنا للضيوف، ومقابرنا لأولادنا الذين يموتون كلّ يوم مئة مرة،
ولأنّ الأشقّاء الذين ساعدونا على بناء الجسور وإعمار ما هدمته الحروب يريدون أن
يستردّوا ثمنها من أرواحنا وأعصابنا وكرامتنا، ولأنّ كثيرين من المصطافين العرب
الذين لا يجرؤون على مخالفة أبسط القوانين والأنظمة في بلادهم يحتلّون الأرصفة
والدروب بسيّارتهم الضخمة ذات الدفع الرباعي، من دون أن يجرؤ أحد على تذكيرهم بأنّ
القيادة فنّ وأخلاق، وبأنّ للسهر في المطاعم العائليّة لياقات وأصولاً، وبأنّ ثمّة
في لبنان ما ليس للبيع أو حتّى للإيجار.
لو كان لصيف لبنان أمّ لبكت من دخان الحرائق التي أكلت الأخضر
واليابس، ومن تلوّث الجوّ بالروائح المنبعثة من مجاري الصرف الصحيّ، ومن ازدحام
السير على الطرق بلا رقيب أو حسيب، ومن ارتفاع ثمن صفيحة البنزين ما يمنع كثيرين
من الخروج عن المنزل في نزهة عائليّة، ومن كلفة الدخول إلى المسابح النظيفة حيث
صارت السباحة رياضة الأثرياء، ومن رائحة الأراكيل مساء والمناقيش صباحًا في بلد لا
يعرف صباحه من ليله، ومن مهرجانات النخب المترفة التي يمرّ فيها أبناء الطبقة
الثريّة ليجدوا مادة لأحاديثهم في اليوم التالي.
لو كان لصيف لبنان أمّ لبكت وهي ترنو في عطف إلى تلامذة المدارس
المعاقبين بالدروس الإضافيّة وفروض العطلة المكثّفة لعلّ التلامذة يتعلّمون على
أنفسهم في شهرين ما لم تعرف مدارسهم كيف تعلّمهم إيّاه في تسعة أشهر، ولذرفت الدمع
على الساحات الجميلة في البلدات القديمة، وقد اغتصب براءتها غرباء لا يعنيهم أمرها
ولا يحفظون أسماءها أو تاريخها.
لو كان لصيف لبنان أمّ لكانت لعنت الساعة التي حبلت فيها بابنها
والساعة التي فيها أنجبته ووضعته في حضنها والساعة التي أرضعته فيها من ثديها
شمسًا وألبسته ذهبًا وغسلت قدميه بمياه البحر الأزرق. فما من أمّ ترضى أن يفعل
ابنها الذي أنجبته في خريف العمر، وربّته بدموع الشتاء، وألبسته من أزهار الربيع
ما يفعله بالناس الذين انتظروا ميلاده كما تنتظر الشعوب الموعودة مخلّصها. وهل
تقبل أمّ أن يقتل ابنها الذهبيّ الشعر أبناء سواها بحجّة اللهو؟ وهل توافق على أن
يرهق ابنها القمحيّ البشرة كاهل الناس بالحرّ والعرق والغبار الأسود؟
أمّ الصيف اللبنانيّ صارت تكره وحيدها الذي صار متعجرفًا،
متكبّرًا، مدمنًا الكحول والسهر وسباق السيّارات، كسولاً ينام إلى ما بعد الظهر
ولا يحبّ الدرس أو المطالعة أو التفكير، وتخجل من أمومتها له وتتمنّى لو أنّ رحمها
لم تعرف هذا الولد العاقّ، الذي بدل أن يبادلها عطاء بعطاء سرق منها مواسم الخير
وباعها في أسواق السياحة والاصطياف، لغرباء وعابري طرق وتجار أسرّة. وهي تخشى على
أبناء لبنان من جموح ابنها الذي خطفهم من الحقول والمخيّمات الكشفيّة ورماهم خدمًا
في المقاهي والمنتجعات يبتسمون لمن يدفع لهم أكثر ويطلب منهم أكثر، وعرّى نساءهم
من بعض حياء ودمغ جلودهنّ بخاتم سيادته وجعلهنّ إماء في حريم سلطانه، وسرق النوم
من عيون الأهالي العاجزين عن إقناع أطفالهم بالبقاء أطفالاً فلا يتركون أسرّتهم
ليتبعوا نداء الكبر والمغامرة على دروب ستجرح أشواكها أقدامهم الطريّة. لو كان
للصيف في لبنان أمّ لبكت منه لا عليه.
لو نسوان هالزعما بدل ما يعملوا مهرجانات بيعملوا معامل للنفايات
ما كان هالشي أنضف إلن وإلنا؟؟؟
مشهد الكنّاسين للأخوين رحباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق