تصوير رنا الهبر |
تصوير رنا الهبر |
ندوة حول كتاب عودة النبيّ (6 آذار 2013) مهرجان الكتاب في انطلياس
كلمة ماري القصّيفي
ويلٌ لأمّةٍ سئمتْ من انتظارِ النبيّ
ويلٌ لأمّةٍ صدّقت أنّ السماءَ ظالمة وأنّها لن ترسلَ
نبيًّا بعد آخرَ كي لا يبقى إنسانٌ بلا خلاص
ويلٌ لأمّةٍ لم تصدّقْ أنّ كلَّ فردٍ من أبنائها هيكلُ
نبيّ، واحتمالُ جبران، ومشروعُ إله
معالي الوزير إدمون رزق الأديب الشاعر الخطيب المحاميّ
العاشق
أستاذ إيلي صليبي الإعلاميّ الأديب المنتحر المجنون
العاشق
أيّها الأصدقاء
الحقَّ
الحقّ أقول لكم: الويلُ لنا لأنّنا لسنا أنقياء! فلو كنّا كذلك لما عادَ النبيُّ إلينا
واعظًا، مرشدًا، غاضبًا، حزينًا، ينظر ويسمع، ولا يريد أن يصدّقَ أنّ عليه أن يعودَ
ألفَ مرّةٍ ومرّة قبل أن تصبحَ الأرضُ سماء، ولما كان على إيلي صليبي أن يجلِسَ
إلى الطاولة المستديرة، تحوطُه نظراتٌ متفحّصةٌ للفرسان الثلاثة:
الفارس الأوّل والدُه ميشال الذي قال لوحيده إيلي
"اذكرني بطرَف قلمك ليكونَ لحياتي معنًى ولمشواري سبب"، والفارس الثاني
جبران خليل جبران الذي مات وفي قلبه حسرةٌ لأنّه لم يعدِ النبيَّ إلى أورفليس ولم
يمته، أمّا الثالث فميخائيل نعيمة ناقل حسرةِ جبران إلى كاتبنا. ثلاثة فرسان
يراقبونه بحنّوٍ وترقّبٍ وهو يدحرج عن القبرِ الصخرةَ ليبنيَ عليها أورفليسَ
الجديدة، وينشرَ الكفنَ شراعَ عودة، ويرفعَ الكأسَ المقدّسةَ في صحّة العهد الجديد
المتجدّد/ المتجدّدِ مع ضحكةِ كلِّ طفل، وزغردةِ كلّ عُرس، وشفاءِ كلّ مريض، وشروقِ
كلّ شمس وإطلالة كلّ نجم.
كان على النبيّ أن يعودَ إذًا
بعدما امتلأتِ الأرضُ جَورًا وظلمًا، فكيف عاد؟ وماذا أضاف إلى أقواله السابقة؟
وما المصيرُ الذي ينتظره؟ ثلاثةُ أسئلة لن أطيلَ في عرض رؤيتي لأجوبتها، وإن كنت
آمل أن أثيرَ بها فضولَ من لم يقرأِ الكتاب بعد، فيرغبُ في معرفة أجوبة النبيّ في
رحلة العودة التي حدّد إيلي صليبي موعدَها ومسارَها وهدفَها، ما يجعلُ القارئَ
يحارُ في تحديد هُويّة هذا النبيّ: أهو جبران خليل جبران العائدُ ليقولَ الكلمة
التي لم يقلْها، أم هو إيلي صليبي ابنُ الكلمة التي لو لم يقلْها لكانتِ الوزناتُ
التي وُهِبَها مطمورةً الآن في التراب، مستحقًّا بذلك غضبَ سيّده؟
ولكن كيف
عاد النبيّ؟ يروي الأستاذ صليبي في مقدّمة كتابه أنّ ناسكَ الشخروب، ميخائيل نعيمة
قال له: "نعم إنّها المرارةُ التي ودّع جبرانُ بها الحياة ولم يتّسعْ له
العمرُ ليعيدَ مصطفاهُ إلى أورفليس ويشيّعَه إلى حيث يدفُنُه مكلّلًا بمجد
الخلود". ويضيفُ صليبي: ولطالما تساءلتُ لماذا لم يقاربْ يراعُ نعيمة موتَ
نبيّ جبران؟ ألأنّه جنَحَ إلى نبيّه هو فاختار مرداد؟ ويخلصُ الكاتب إلى أنّ
انحيازَه لجبران دفعَه إلى الوقوع في فخّ الجنون أو الانتحار: جنونِ التحليق على
علوّ قامة جبران، وانتحارِ الهبوط من شاهقِ مجدِه إلى حضيضِ الكلمة غيرِ المعمّدةِ
على يد نبيّه المصطفى."
هكذا إذًا
ولدتْ فكرةُ إعادة النبيّ ومرافقتِه إلى مثواه ُالأخير! وهي بلا شكّ فكرةٌ تلاعب
الخطر، فغالبًا ما رأينا في الرواية والسينما والمسرح أنّ تتمّاتِ الأعمال
الأدبيّة والفنيّة/ أو الأجزاءِ الثانية منها/ تجدُ صعوبةً في الوصول إلى النجاح
الذي حقّقته الأجزاءُ الأولى، بل أكاد أقولُ إنّ بعضَها مُني بفشل كبير. فما الذي
دفع إيلي صليبي إلى مواجهةِ احتمالَي الجنون والانتحار كما يصف الأمر؟ ولماذا لم
يخترعْ شخصيّةً أخرى، كما فعل نعيمة مع مرداد، ليضعَ على لسانها أفكارَه وتعاليمَه
ووصاياه؟
قبل أن أحاولَ
الإجابةَ عن هذا السؤال، أسارعُ إلى القول إنّ النبيّ العائدَ في عربة إيلي صليبي
الناريّة ليس نبيَّ جبران نفسَه، بل هو أكبرُ عمرًا وأقلُّ تفاؤلًا في احتمال حدوث
تغيير عامّ شامل، لذلك هو يبشّرُ بخلاص فرديّ، فضلًا عن أنّه متمكّن من اللغة
العربيّة لا يحتاج مترجمًا ينقُل أفكارَه. ولكن كلُّ ذلك ليس لأنّه عاد إلى
أورفليس بعد ألف عام، ولا لأنّ المسافةَ الزمنيةَ الفاصلةَ بين الكتابين طويلة، بل
لأنّ كاتبَ النبيّ أصغرُ عمرًا من كاتب عودة النبيّ، ولأنّ بيئةَ الكتابةِ للكتاب
الأوّل كانت أكثرَ هدوءًا وأمانًا من الناحيتين الاجتماعيّة والسياسيّة من بيئة
الكتابة الثانية حيث يسودُ الحزن والخوف، ولأنّ النبيّ في مجيئه الأوّل كان يبحث،
في غربته، عن صورة وطنه الضائع، بينما هو في عودته الثانية يغرّبه الوطنُ فيستسلم
للموت. ولا يمكن تجاهلُ ذلك ونحن نحاولُ مقاربةَ "عودة النبي"، مقاربةً
منطقيّة يفرضُها النقدُ الموضوعيّ لا مقارنة مجحفة تريد أدبًا مستنسَخًا.
أيّها
الأصدقاء
إنّ الحياة
المعاصرة تواجه أزماتٍ مختلفةً وجديدة وخطيرة، تضافُ إليها مسائلُ وجوديّة وروحيّة
لا ترتبط بعصر أو بيئة. لذلك تطرّقَ نبيُّ صليبي إلى المشكلات القديمة والجديدة
التي يؤكّدُ وجودُها وانتشارُها على أنّ أهلَ أورفليس، مدينةِ كلِّ مكان وكلّ
زمان، تناسَوا مع رحيل المصطفى، كلَّ ما علّمهم إيّاه. لذلك عمد النبيُّ العائد إلى
توضيحِ بعضِ أقواله السابقة أو تعديلِها أو الإضافة عليها، وغالبًا بأسلوب التأنيب
والتوبيخ، قبل أن ينطلقَ في إجابات حازمةٍ جازمة على أسئلةٍ دقيقة لم يتوقّفِ
الإنسانُ عن طرحِها مذ تكوّنَ عقلُه بالشكلِ الذي نعرفه.
تابعوا معي،
يا أصدقاءَ الكلمة، هذه العناوين التي تشكّل أبرز عظات الكتاب، والتي في رأيي تصلح
لأن تكون منهجًا تربويًّا شاملًا يعطى لتلامذتنا الذين لا كتاب تاريخٍ بين أيديهم،
ولا كتاب حضارة، ولا كتاب تربية مدنية، ولا كتاب جماليّات، ولا كتاب حسن تصرّف أو
حسن حياة:
علاقة
الآباء بالأبناء، مصير العالم، المرض، الموت، الإذعان، الثورة، الحبّ، قطع
الأشجار، الموقدة، العلم والإيمان، العدم قبل الوجود، تقدّم الطبّ، قطف الأزهار،
القدر، الحياة خارج الأرض، الاقتصاد والمصارف، التجارة، العدالة الاجتماعيّة،
الفلسفة والفلاسفة، الرهبان والكهنة، النسك، الأيقونة،
رجال الأعمال، الكسل، المثليّة الجنسيّة، تحرّش الكهنة بالأطفال، الشيخوخة، تعدّد
الزوجات، مصير المرأة في الملكوت، جمال الله، تقلّب الفصول، التنجيم، دفن الموتى،
حياة السنبلة، مصير العاهرات، المحاماة، القضاء، العدل، الضمير المهنيّ، تناول
اللحوم، الروح والنفس، بداية الكون، غزو الفضاء، دور الأمم المتّحدة، البيئة ومصير
شجر الأرز، الشهداء... وغيرُها، موضوعاتٌ قديمة جديدة، وقديمة وجديدة، أكثرُها
تطرّق إليه النبيّ في حياته الأولى، ويعود إلى معالجتها في حياته السابعة قبل أن
يرحل نهائيًّا، كما جاء في الكتاب.
ولكن هل رحل حقًّا وإلى الأبد؟ ألا يخيفكم ذلك؟ لماذا
أعاده إيلي صليبي وأماته ولم يقمه ليجدّدَ وعدَ الخلاص؟ وما مصيرُ البشريّة الآن
بعدما عرّج النبيّ على القدس ليموتَ فيها قبل أن يسريَ به الملاك نحو وادي
القدّيسين حيث طلب أن يدفن؟ وهل هي فرصتنا الأخيرة قبل يوم الدينونة، حين سيقول
لنا الربّ: لقد أرسلت لكم نبيًّا بعد آخر ولم ترتدعوا عن غيّكم وشروركم؟
الأسئلة
التي يثيرها الكتاب أكثرُ من الأسئلة التي طُرحت على النبيّ المصطفى، ولا أظنّ
إيلي صليبي يملِك الأجوبة الأكيدة عنها، بل يخيّل إليّ أنّ كلّ يوم يمرّ عليه يحمل
إليه أجوبة مختلفة، في انتظار المعرفة الكليّة التي لن يحتملَها عقله أو أيّ عقل، على
هذه الأرض مهما تمرّس في الحكمة، ولن تطيقَها روحُه مهما سمت معارفه/ وليكن ذلك يا أستاذ إيلي، بعد عمر مديد وعافية
في العقل والجسد.
فإذا كنّا
مثلًا نفهم السببَ الذي دعا النبيّ إلى اختيار وادي القديسين مدفنًا له بتأثير من
جبران من جهة ومن خصوصيّة الوادي من جهة ثانية، فلماذا اختار أن يموت في القدس؟ هل
لأنه رأى أنّ المسيحيّين أخطأوا يوم تخلَّوا عن قضيّتها وكان يجب أن تكون أرضَهم
المقدّسة ومَحجّتَهم الأولى وقِبلةَ عيونِهم وقلوبهم؟
وإذا كنّا على
اطّلاع على أسباب ثورة جبران بسبب مجموع ما كَتب هو وما كُتبَ عنه، فمن أين لنا أن
نعرفَ كيف أتى إيلي صليبي بكلّ هذه الخيبة وبكلِّ هذا الحزن، وهو الإعلاميّ الذي
كان يُعلِمنا بمهنيّة وحِرفة بما يجري ولا يدعنا نعلم شيئًا عمّا يجري معه؟
وإذا كانت روحانيّة جبران هي الطاغيةَ على فكره، فكيف
نجح إيلي صليبي في تسريب هموم الحياة الماديّة اليوميّة بين الفلسفة واللاهوت
والصوفيّة، كأنّه يعيد إلى الحياة بُعدَها الماديّ المعيوش بعدما بدا إنسانُ جبران
كائنًا هَيوليًّا لا جسد له؟
ولعلّ السؤالَ
الأهمّ الذي كنت أحاول منذ البداية التهرّبَ منه هو عن السبب الذي دعا إيلي صليبي
إلى مواجهة احتمالَي الجنون والانتحار، فأعاد نبيَّ جبران وكان في إمكانه أن يوجِد
شخصيّة جديدة. والجوابُ الذي أجرؤ على طرحه / كاحتمال ليس إلّا/ هو أنّ إيلي صليبي
أراد أن يدفنَ النبيّ لا أن يعيدَه فحسب، أن ينهيَ هذا الانتظارَ العبثيّ، أن يقولَ
لنا إنّ الأمر انتهى هنا، وإنّ النبيّ تعب من حيواته السبع التي وصل فيها هو إلى
كماله واكتماله، بينما البشريّةُ لا تزال ترزح تحث ثقل خطاياها، لذلك تكثرُ في
الكتاب كلماتُ الحسرة والحزن والأسى والبكاء والفناء والموت، الموت الذي يحار
كاتبنا في التعامل معه، فمرّة يمجّده كما في حديثه مع أمّ الشهيد حين قال لها: لا
تخافي الموتَ بل الحياة. ولا تتوقّعيه وأنت حيّة ولا تنفُري منه إن أكرمَك بحضوره،
فهو ليس ضيفًا بل مضيفًا وكلّما أفنى جسدًا أحيا روحًا"، ومرّةً ثانية يؤنّبه
صارخًا به: ويحك يا موتُ ما أوقحَك حين تحشرُ القبورَ في واحد، وتعاملُ زبائنَك
كواحد. وما أقساك حين تأتي كلصّ وتسِرقُ الابنَ من حضن أمّه، والأمَّ من وسْط
أطفالها، وتتحالفُ مع القاتل لتدفِنَ الاثنين في النهاية. أفلا تحزنُك دموعُ
الأرامل، وتهزُّ ضميرَك ضحايا الحروب والكوارث؟
أيّها الأصدقاء،
إنّ الكتابَ
الذي يدعونا إلى طرح الأسئلة لأكثرُ غنًى وأبقى أثرًا من الكتاب الذي يقدّم إلينا
الأجوبة الجاهزة. وأعترف أنّ بعضَ أجوبة النبيّ في هذا الكتاب لم تقنعني، ربّما
لأنّني عجزتُ عن رؤية جبران وهو يصرخ بها، غير أنّ هذا ما يصيبُني، أقصد ألّا
أقتنعَ بسهولة، مع كلّ كتاب يستحقّ القراءة، وبشكل خاصّ مع الكتب المقدّسة! ومع
ذلك فاسمح لي أستاذ إيلي أن أصارحَك بأنّني وإن كنت أؤمن إيمانَك بأن لا مقدّسَ
إلّا الإنسان، لكنّي أؤمن كذلك أنْ من أجله سيموت كلَّ يوم نبيّ ليولدَ آخرُ إلى
أن تصيرَ الأرضُ سماء. والويل لنا إن لم نؤمن بذلك!
هناك تعليقان (2):
يا لروعة القراءة عندما تبعث فينا شوق ولهفة لقراءة كتاب لم يقع بين ايدينا .. كتاب من تلك الكتب التي تصنف تحت دائرة " تستحق القراءة " بين ذلك الكم من الركام المعرفي عبر قرون ومنذ ان عرف الانسان صوغ الحرف على ورق .. يا لروعة ماري الاديبة التي اغترفت لنا من كل نهر عذب غرفة صافية .. ومن كل بستان زهرة يانعة .. اجدتي سيدتي .. ارفع قبعتي تحية لك ولقلمك الدافق خصبا ونماء وحب ووفاء
أسعد الله أوقاتك صديقي الدكتور عابدالقادر الفيتوري
وهو كتاب يستحقّ القراءة فعلًا، أتمنّى أن تتاح لك الفرصة لقراءته
شكرًا على كلمتك وتقديرك وأتمنّى لك دوام الخير ولبلادك الحريّة الحقيقيّة والسلام والأمن
إرسال تعليق